هل هناك كذب ابيض و اسود كما يقولون ؟ و ما حكم الكذب لانقاذ موقف معين ؟

للإجابة على هذا السؤال لا بُدَّ و أن نتعرف أولاً على المعنى اللغوي و الشرعي للكَذِب .
قال اللغويون : الْكَذِبُ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ الشَّيْءِ بِخِلَافِ مَا هُوَ فيه ، و أمّا الصِّدقُ فَهُوَ مُطابَقَةُ القَوْلُ الضَميرَ و المُخْبَرُ عَنْهُ مَعاً .
فالكَذِبُ ضِدُّ الصِّدق ، و كُلّ إخبارٍ بخِلاف الواقع يُعَدُّ كَذِبَاً 1 .
و قال العلامة الطريحي : " الكذب : هو الإخبار عن الشي‏ء بخلاف ما هو فيه سواء العمد و الخطأ ، إذ لا واسطة بين الصدق و الكذب على المشهور ، و الكذب هو الانصراف عن الحق و كذلك الإفك ، و الكلام ثلاثة : صدق ، و كذب ، و إصلاح " 2 .
حكم الكذب :
لقد حَرَّمَ اللهُ الكذب و أعتبره ذنباً عظيماً و كبيرةً من الكبائر 3 و عملاً قبيحاً مغايراً لروح الإيمان و حقيقته ، و ذَمَّ الكاذبين في كتابه الكريم و تَوَعَّدَهم بالعذاب و النار .
قال الله عَزَّ و جَلَّ : ﴿ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ 4 .
و قال جَلَّ جَلالُه : ﴿ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ 5 .
هذا و لا يَجُوزُ الكَذِب بكل أنواعه جِدِّه و هَزَله في الشريعة الإسلامية ، إلاَّ في بعض الموارد المستثناة .
و أما الأحاديث الشريفة التي تحدثت عن الكذب و حرمته و قبحه و آثاره السيئة فهي كثيرة جداً نذكر نماذج منها :
الكذب شر :
قال أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) : " ... شَرُّ الْقَوْلِ الْكَذِبُ " 6 .
و عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ الإمام محمد بن علي الباقر ( عليه السَّلام ) ، قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ جَعَلَ لِلشَّرِّ أَقْفَالًا وَ جَعَلَ مَفَاتِيحَ تِلْكَ الْأَقْفَالِ الشَّرَابَ ، وَ الْكَذِبُ شَرٌّ مِنَ الشَّرَابِ " 7 .
الكذب ضد الايمان :
رُوِيَ أن الإمام أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ( عليه السَّلام ) كَانَ يَقُولُ : " أَلَا فَاصْدُقُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّادِقِينَ ، وَ جَانِبُوا الْكَذِبَ فَإِنَّهُ يُجَانِبُ الْإِيمَانَ ، أَلَا وَ إِنَّ الصَّادِقَ عَلَى شَفَى مَنْجَاةٍ وَ كَرَامَةٍ ، أَلَا إِنَّ الْكَاذِبَ عَلَى شَفَى مَخْزَاةٍ وَ هَلَكَةٍ ، أَلَا وَ قُولُوا خَيْراً تُعْرَفُوا بِهِ وَ اعْمَلُوا بِهِ تَكُونُوا مِنْ أَهْلِهِ ... " 8 .
وَ رُوِيَ عنه ( عليه السَّلام ) أنه قال : " الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْثِرَ الصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّكَ عَلَى الْكَذِبِ حَيْثُ يَنْفَعُكَ وَ أَلَّا يَكُونَ فِي حَدِيثِكَ فَضْلٌ عَنْ عَمَلِكَ وَ أَنْ تَتَّقِيَ اللَّهَ فِي حَدِيثِ غَيْرِكَ " 9 .
و رُويَ عَنْ الإمام محمد بن علي الباقر ( عليه السَّلام ) أيضا أنه قال : " إِنَّ الْكَذِبَ هُوَ خَرَابُ الْإِيمَانِ " 10 .
وَ عَنْ مُعَمَّرِ بْنِ خَلَّادٍ عَنْ الإمام علي بن موسى الرِّضَا ( عليه السَّلام ) ، قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) : يَكُونُ الْمُؤْمِنُ جَبَاناً ؟
قَالَ : نَعَمْ .
قِيلَ : وَ يَكُونُ بَخِيلًا ؟
قَالَ : نَعَمْ .
قِيلَ : وَ يَكُونُ كَذَّاباً ؟
قَالَ : لَا " 11 .
ترك الكذب في الجد و الهزل :
كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ ( عليه السَّلام ) يَقُولُ لِوُلْدِهِ : " اتَّقُوا الْكَذِبَ الصَّغِيرَ مِنْهُ وَ الْكَبِيرَ فِي كُلِّ جِدٍّ وَ هَزْلٍ ، فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا كَذَبَ فِي الصَّغِيرِ اجْتَرَأَ عَلَى الْكَبِيرِ ، أَ مَا عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ( صلى الله عليه وآله ) قَالَ : مَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَصْدُقُ حَتَّى يَكْتُبَهُ اللَّهُ صِدِّيقاً ، وَ مَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَكْذِبُ حَتَّى يَكْتُبَهُ اللَّهُ كَذَّاباً " 12 .
وَ عَنِ الْأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ قَالَ : قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ( عليه السَّلام ) : " لَا يَجِدُ عَبْدٌ طَعْمَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَتْرُكَ الْكَذِبَ هَزْلَهُ وَ جِدَّهُ " 13 .
الاثار السيئة للكذب :
لا شك و أن للكذب آثاراً سيئةً و عواقب خطيرة ، و هذه الآثار و العواقب تختلف بإختلاف نوع الكذب و حجمه ، فمنها ما تكون مادية و منها ما تكون معنوية أو تشمل الجانبين ، و قد تكون هذه الآثار و العواقب محدودة بالجانب الفردي ، و قد تمتد تلك الآثار و العواقب و تتسع دائرتها لتشمل المجتمع .
قال أمير المؤمنين علي ( عليه السَّلام ) : " ثمرة الكذب المهانة في الدنيا و العذاب في الآخرة " 14 .
و قال ( عليه السَّلام ) : " يكتسب الكاذب بكذبه ثلاثا : سخط الله عليه ، و استهانة الناس به ، و مقت الملائكة له " 15 .
و قال ( عليه السَّلام ) : " يبلغ الصادق بصدقة ما لا يبلغه الكاذب باحتياله " 16 .
و قال ( عليه السَّلام ) : " الكذب فساد كل شي‏ء " 17 .
و قال ( عليه السَّلام ) : " الكذب يؤدي إلى النفاق " 18 .
و قال ( عليه السَّلام ) : " عاقبة الكذب ملامة و ندامة " 19 .
و قال ( عليه السَّلام ) : " لا حياء لكذاب " 20 .
الكذب الجائز :
رغم أن الشريعة الإسلامية تُحرِّم الكذب و تعتبره إثماً عظيماً و ذنباً كبيراً في الحالات العادية ، إلا أنها تستثني من الكذب المُحَرَّم بعض الموارد و تُجَوِّزه في حالات خاصة ، و تسمح بذلك و لا تعتبره حراماً بل تعتبره أمراً مطلوباً نظراً لما فيه من المصالح العامة و الآثار الحميدة التي تفوق الأضرار و المفاسد التي من أجلها حرَّم الله عَزَّ و جَلَّ الكذب ، و من تلك الموارد ما يلي :
الاصلاح بين الناس :
سمح الإسلام لمن أراد أن يقوم بدور المُصلح أن يستعين بالكذب لحل النزاع و إيجاد الألفة و الصلح بين الأفراد او الفئات المتنازعة ، أو إزالة حالة التوتر أو تخفيفه ، ذلك لأن الإصلاح بين الناس هدف مقدس يدعو إليه الإسلام .
فقَد رُوِيَ عَنْ الإمام جعفر بن محمد الصادق ( عليه السَّلام ) أنه قَالَ : " الْمُصْلِحُ لَيْسَ بِكَذَّابٍ " 21 .
وَ رُوِيَ عَنْهُ ( عليه السَّلام ) أيضاً أنه قَالَ : " الْكَلَامُ ثَلَاثَةٌ : صِدْقٌ وَ كَذِبٌ وَ إِصْلَاحٌ بَيْنَ النَّاسِ " .
قَالَ : ـ أي الراوي ـ قِيلَ لَهُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ مَا الْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ ؟
قَالَ : " تَسْمَعُ مِنَ الرَّجُلِ كَلَاماً يَبْلُغُهُ فَتَخْبُثُ نَفْسُهُ فَتَلْقَاهُ ، فَتَقُولُ سَمِعْتُ مِنْ فُلَانٍ قَالَ فِيكَ مِنَ الْخَيْرِ كَذَا وَ كَذَا خِلَافَ مَا سَمِعْتَ مِنْهُ " 22 .
وَ فِي وَصِيَّةِ النَّبِيِّ ( صلى الله عليه وآله ) لِعَلِيٍّ ( عليه السَّلام ) ، قَالَ : " يَا عَلِيُّ إِنَّ اللَّهَ أَحَبَّ الْكَذِبَ فِي الصَّلَاحِ وَ أَبْغَضَ الصِّدْقَ فِي الْفَسَادِ ... " 23 .
المكيدة في الحرب :
و أجاز الإسلام للمسلم أن يستعين بالكذب لخداع العدو في الحرب حتى يتغلب عليه ، و ذلك للمصلحة العامة و لأن الحرب خدعة .
فقد رُوِيَ فِي وَصِيَّةِ النَّبِيِّ ( صلى الله عليه وآله ) لِعَلِيٍّ ( عليه السَّلام ) أنه قَالَ : " ... يَا عَلِيُّ ثَلَاثٌ يَحْسُنُ فِيهِنَّ الْكَذِبُ : الْمَكِيدَةُ فِي الْحَرْبِ ... " 23 .
وَ رَوَى عِيسَى بْنِ حَسَّانَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السَّلام ) يَقُولُ : " كُلُّ كَذِبٍ مَسْئُولٌ عَنْهُ صَاحِبُهُ يَوْماً إِلَّا كَذِباً فِي ثَلَاثَةٍ : رَجُلٍ كَائِدٍ فِي حَرْبِهِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ عَنْهُ ... " 24 .
هذا و لعل المقصود من الكذب الأسود هو الكذب الحرام الذي يعاقب عليه الإنسان ، و المقصود من الكذب الأبيض هو الكذب الجائز الذي لا يُعاقب الإنسان عليه ، أو المقصود منه التورية 25 .

  • 1. هذا التعريف هو خلاصة أقوال علماء اللغة في تعريف الكذب و الصدق ، للتفصيل يراجع : لسان العرب ، و مجمع البحرين ، و مفردات القرآن و غيرها من كُتُب اللغة .
  • 2. مجمع البحرين : 2 / 157 ، للعلامة فخر الدين بن محمد الطريحي ، المولود سنة : 979 هجرية بالنجف الأشرف / العراق ، و المتوفى سنة : 1087 هجرية بالرماحية ، و المدفون بالنجف الأشرف / العراق ، الطبعة الثانية سنة : 1365 شمسية ، مكتبة المرتضوي ، طهران / إيران .
  • 3. الكَبَائِر : جمع كبيرة ، و الكبيرة هي كلُ معصية تُوُعِّدَ صاحبها دخول النار ، و يقابلها الصغيرة و جمعها صغائر ، و هي ما لم يُتَوعَّد صاحبها دخول النار .
  • 4. القران الكريم : سورة النحل ( 16 ) ، الآية : 105 ، الصفحة : 279 .
  • 5. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 10 ، الصفحة : 3 .
  • 6. نهج البلاغة : 115 ، طبعة : صبحي الصالح .
  • 7. وسائل الشيعة ( تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة ) : 12 / 244 ، للشيخ محمد بن الحسن بن علي ، المعروف بالحُر العاملي ، المولود سنة : 1033 هجرية بجبل عامل لبنان ، و المتوفى سنة : 1104 هجرية بمشهد الإمام الرضا ( عليه السَّلام ) و المدفون بها ، طبعة : مؤسسة آل البيت ، سنة : 1409 هجرية ، قم / إيران .
  • 8. وسائل الشيعة : 12 / 246 ، حديث رقم ( 16216 ) .
  • 9. نهج البلاغة : 556 ، طبعة : صبحي الصالح .
  • 10. وسائل الشيعة : 12 / 244 ، حديث رقم ( 16207 ) .
  • 11. وسائل الشيعة : 12 / 245 ، حديث رقم ( 16214 ) .
  • 12. وسائل الشيعة : 12 / 250 ، حديث رقم ( 16225 ) .
  • 13. وسائل الشيعة : 12 / 250 ، حديث رقم ( 16226 ) .
  • 14. غُرَرُ الحِكَم و دُرَرُ الكَلِم : 220 ، حديث رقم : ( 4400 ) ، لعبد الواحد بن محمد التميمي الآمدي ، المولود سنة : 510 هجرية ، و المتوفى سنة : 550 هجرية ، طبعة : مؤسسة الإعلام التابعة للحوزة العلمية بقم / إيران ، سنة : 1366 شمسية .
  • 15. غُرَرُ الحِكَم و دُرَرُ الكَلِم : 221 ، حديث رقم : ( 4418 ) .
  • 16. غُرَرُ الحِكَم و دُرَرُ الكَلِم : 219 ، حديث رقم : ( 4357 ) .
  • 17. غُرَرُ الحِكَم و دُرَرُ الكَلِم : 219 ، حديث رقم : ( 4406 ) .
  • 18. غُرَرُ الحِكَم و دُرَرُ الكَلِم : 219 ، حديث رقم : ( 4408 ) .
  • 19. غُرَرُ الحِكَم و دُرَرُ الكَلِم : 221 ، حديث رقم : ( 4413 ) .
  • 20. غُرَرُ الحِكَم و دُرَرُ الكَلِم : 221 ، حديث رقم : ( 4416 ) .
  • 21. وسائل الشيعة : 12 / 253 ، حديث رقم : ( 16231 ) .
  • 22. الكافي : 2 / 341 ، للشيخ أبي جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكُليني ، المُلَقَّب بثقة الإسلام ، المتوفى سنة : 329 هجرية ، طبعة دار الكتب الإسلامية ، سنة : 1365 هجرية / شمسية ، طهران / إيران .
  • 23. a. b. وسائل الشيعة : 12 / 252 ، حديث رقم ( 16229 ) .
  • 24. وسائل الشيعة : 12 / 253 ، حديث رقم (16233 ) .
  • 25. التَوْرِية ليست كذباً ، و ذلك لأن معنى التوريه لغةً هو : إخفاء الشيء ، من وَرَّى يُوَرِّي تَوْرِيَةً .
    و أما معناه الإصطلاحي فهو أن يقول كلاماً يظهر منه معنى يفهمه السامع و لكن يريد منه القائلُ معنىً آخر ، كأن يقول : ليس معي درهم في جيبي فيُفهم منه أنّه ليس معه أي مال أبداً و يكون مراده أنه لا يملك درهماً لكن يملك ديناراً مثلاً .

تعليقتان