الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الاحكام الشرعية ثابتة لا تتغير

رد علمي رصين للبحاثة المحقق آية الله العظمى الشيخ لطف الله الصافي دام ظله على المقال الذي نشرته مجلة ( العربي ) الكويتية في عددها 379 ص 33 بتاريخ ذو العقدة 1410 هـ يونيو 1990 م . تحت عنوان : " الفتاوى و الأحكام الإسلامية بين التغير و الثبات " بقلم الدكتور عبد المنعم النمر .

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه الذي جعل دين الإسلام خاتم الشرائع و الأديان ، و ضمن صيانة أحكامه عن النسخ و التغيير في جميع الأدوار و الأزمان ، و الصلاة و السلام على خير من أرسله لهداية نوع الإنسان ، سيدنا أبي القاسم محمد المنزل عليه القرآن ، و على آله الطيبين الطاهرين أمناء الرحمان .
قال اللّه تعالى : ﴿ وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ 1 .
قال رسول اللّه ( صلى الله عليه و آله ) : " أَلا هل عسى رجل يبلغه الحديثُ عنّي و هو متكِيٌ على أَريكَتِه فيقول : بيننا و بينكم كتابُ اللّه فما وجدنا فيه حلالا استحللناه ، و ما وجدنا فيه حراماً حرمناه ، و إنَّ ما حرّم رسول اللّه كما حرَّم اللّه " 2 .
ذكر عند ابن عباس الضب ، فقال رجل من جلسائه : اتي به رسول اللّه ( صلى الله عليه و آله ) فلم يحلِّه ولم يحرمه ، فقال : ( بئس ما تقولون ، إنما بعث رسول اللّه ( صلى الله عليه و آله ) محللا ومحرماً ) 3 .

الإسلام دين إلهي عالمي لجميع العصور

من الأمور التي لا ريب فيها و التي اتفق عليها المسلمون ، و دلَّت عليها البراهين المحكمة العقلية و السمعية أن الإسلام دينٌ عالميٌّ لنوع الإنسان كافة ، و لجميع الأعصار و الأزمان ، و أنه أقوم الأديان و أوضحها ، و أوسط الطرق و أشملها ، و أنه صالحٌ لإدارة المجتمع الإنساني دائما ، فكلما يمضي عليه الزمان لا تسبقه الحضارات و المدنيات ، و لا يتأخر عن العلم و التكنيك ، فهو يقود البشرية و يهديها إلى الرشد و الكمال ، فلا يوجد باب إلى خير الإنسان و فلاحه و سعادته إلا و قد فتحه عليه ، و لا يوجد باب إلى الشقاء و البوار و التبار إلا و قد أغلقه عليه .
قد تكفل و شمل بسعة تعاليمه و أحكامه و شرايعه جميع ما يحتاج إليه البشر من النظم المادية و المعنوية ، و الروحية و الجسمية ، الفردية و الإجتماعية و غيرها مما هو مبين بالكتاب و السنة ، فقد أنزله اللّه تعالى ليكون دين الجميع و دين العالم كله ، و دين الأزمنة و الأعصار كلها ، و رفع به جميع ما يحجز الإنسان عن الرُّقي و التقدم السليم الحكيم ، و حرر به الإنسان عن رقِّيته السيئة المخزية ، و أخرجه من ذل عبادة الطواغيت المستكبرين و حكومة الجبارين ، و أدخله في عز حكومة اللّه تعالى خالق الكون و رب العالمين ، و هتف به و ناداه أنه لا فضل لعربي على عجمي ، و أن كل الناس عالمهم و جاهلهم ، غنيهم و فقيرهم ، قويَّهم و ضعيفهم أمام الحق سواء ، و أن أكرمهم عند اللّه أتقاهم ، و أن الدار الآخرة للذين لا يريدون علوّاً في الأرض و لا فساداً و العاقبة للمتقين ، و أن اللّه يأمر بالعدل و الإحسان و إيتاء ذي القربى ، و ينهى عن الفحشاء و المنكر و البغي .
هذا قليلٌ من الإسلام الذي ختم الله به الأديان ، دين الله الخاتم ، دين الفطرة و دين الحياة ، دين العلم و العدل و الإنصاف و كرائم الأخلاق ، دينٌ كله نظام : نظام العقيدة الصحيحة الخالصة من الخرافات ، نظام الآداب الحسنة ، نظام العبادة للّه تعالى ، نظام الحكومة و السياسة ، نظام المال و الإقتصاد ، نظام الزواج و العائلة و الأحوال الشخصية ، نظام التعليم و التربية الرشيدة ، نظام القضاء و فصل الخصومات ، نظام الحقوق و المعاملات ، نظام الصلح و الحرب ، و نظام كل الأمور ، فهو عقيدةٌ و شريعة ، و سياسةٌ و حكومة .
نظام لا ينسخ و لا يزول و لا يتغير أبدا ، لأن اللّه تعالى ختم به و بالمرسل به ، سيدنا و سيد الخلق أجمعين ، و سيد الأنبياء و المرسلين محمد بن عبد اللّه ( صلى الله عليه و آله ) ، النبوّات و الرسالات ، فلا شريعة بعده و لا كتاب و لا نبوَّة ﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ 4 .
و لا ريب أن معنى خاتمية الدين بقاء أحكامه الخمسة من الكراهة و الندب و الإباحة و الوجوب و الإستحباب ، و أحكامه سواء كانت أحكام موضوعات بعناوينها الأولية مثل حرمة أكل الميتة ، أو بعناوينها الثانوية مثل جواز أكل الميتة في حال الإضطرار ، و سواء كانت من الأحكام الظاهرية أو الواقعية ، على ما بُيِّن تعريفها في علم أصول الفقة ، و هكذا أحكامه الوضعية كالزوجية و الملكية و الولاية و الحكومة و غيرها ، سواء قلنا بأن الوضعية منها متأصلة بالتشريع و الجعل الإلهي ، أو منتزعة من الحكم التكليفي الشرعي .
فهذه الأحكام بجملتها و بكل واحد منها مصونةٌ عن التغيير و التبديل ، فلا تنالها يد الإنسان كائناً من كان بتغيير و لا تبديل ، لا لأنها أحكام خالدة حَكَم اللّه تعالى بخلودها و بقائها ما بقي من الإنسان كائن حي فحسب ، بل لأنه مضافاً إلى ذلك ليس لغير اللّه تعالى ـ على أساس الإيمان بالتوحيد و بصفات اللّه الكمالية التي هو سبحانه متفرد بها ـ صلاحية التشريع و الحكم ، و الولاية على غيره ، بل و على نفسه .
فالنظام المؤمن باللّه تعالى لا يعدل عن أحكام اللّه تعالى ، و لا يرى لشعبه و لا لقيادته حق التشريع ، و لا يتخذ حاكماً و ولياً من دون اللّه ، بل يقدس اللّه و ينزهه عن أن يكون له شريك في الحاكمية و المشرِّعية ، و ذلك بخلاف مبادئ الأنظمة المشركة الملحدة ، التي من مبادئها أن الحكومة و وضع القوانين و الأنظمة حق للشعب و الأكثرية دون اللّه تعالى ، و لا فرق بينها و بين حكومات الطواغيت الماضية و الأنظمة الْمَلِكية المطلقة في الشرك و نفي حاكمية اللّه تعالى ، إلا أن هؤلاء المفتونين بالديمقراطية يرون الحاكمية و الإستبداد بالأمر و تشريع البرامج و النظم السياسية و القضائية و غيرها حقاً للشعب و الناس ، و الحكومات الديكتاتورية الطاغوتية تراها للديكتاتور الطاغوت ، فهذه حكومة طاغوتية جَماعية خارجة عن حكومة اللّه تعالى ، و هذه حكومة طاغوتية استبدادية فردية ، و كل منهما ليست من الحكومات الشرعية المؤمنة باللّه تعالى و حكومته و أحكامه و شرايعه .
و لا يخفى عليك أن صيانة الأحكام الإلهية عن تصرف أفراد البشر بالنسخ و التغيير و التبديل خصيصة عامة لجميع الشرايع و الأديان السماوية ، فلا ولاية لأحد على تغيير حكم من أحكام الله ، نعم عدم جواز نسخ الأحكام من جانب الله تعالى كما في الشرائع السابقة خصيصة اختص بها دين الإسلام ، لأنه خاتم الأديان و الشرايع ، و أفضلها و أقومها ، فلا نبوة و لا نبي بعده كما جاء في الخبر المتواتر عن الرسول ( صلى الله عليه و آله ) إنه قال لعلي ( عليه السلام ) : " أنت منِّي بمَنْزلة هارون منْ مُوسى إلا أَنه لا نبيَّ بَعْدي " و في لفظ " إلاّ أَنَّه لا نُبُوَّةَ بَعْدي " .
و الخاتمية سرها و باطنها و علتها أكملية الدين ، فالدين الخاتم ، يجب أن يكون أكمل الأديان ، كما أن الأكمل لا بُدَّ وأن يكون الخاتم لأنه نهاية الغرض و الحكمة من إرسال الرسل و إنزال الكتب ، فلا رسالة بعده . فالرسالة المحمدية هي تمام الرسالات و كمالها ، و جاء بها نبينا الأعظم سيدنا رسول اللّه ( صلى الله عليه و آله ) ، و ما أحسن ما قيل بالفارسية :
نام أحمد نام جمله أنبيا است *** چونكه صد آمد نودهم پيش ما است
نعم جاء برسالته ( صلى الله عليه و آله ) عندما بلغ المجتمع الإنساني بلوغه الصالح لتحمل هذه الرسالة و العمل بها ، و مهما تتقدم العلوم و المعارف ، و تتقارب البلدان و تسير إلى الأمام و الوحدة الإجتماعية و السياسية ، يتكامل هذا البلوغ و الصلاحية .
و جدير بالذكر أن هذا الأساس و العقيدة عند المسلمين ، بأن الأحكام مصونة عن التغيير و التبديل ، كان من أدل الأدلة لرد المتجاوزين و المتعدين حدود اللّه و أحكامه ، و نفي إبطال المبطلين طوال أربعة عشر قرنا .
و لو لم نحتفظ بهذا الأصل الأصيل ، و لم ننكر على من يتخلف عنه أو يقول باختصاصه بالنصوص القرآنية ، أو باختصاصه بغير الأمور الدنيوية و المالية ، لرأينا الدين غير الدين و الملة غير الملة ، و لتلاعب أهل الأهواء و الآراء في كل عصر بلعب جديد يوافق بزعمهم مزاج العصر .
و من هذه التلاعبات مقالٌ نُشِر في مجلة ( العربي ) الكويتية عدد 379 ص 33 ذوالعقدة 1410 هـ يونيو 1990 م . تحت عنوان ( الفتاوى و الأحكام الإسلامية بين التغير و الثبات ) بقلم الدكتور عبد المنعم النمر ، نلفت أنظار الباحثين الأعزاء إلى الأمور التالية فيه :

1 ـ الخلط بين الحكم الشرعي و الفتوى

قال : ( ليس لكل الأحكام و الفتاوى الإسلامية حصانة من تغيرها حسب الزمان و المكان ، و الظروف التي تمر ببيئة المسلم و مجتمعه ) .
فتراه خلط بين الحكم و الفتوى و لم يفرق بينهما ، مع أن الأحكام الشرعية لا تتغير و هي ثابتة باقية ، و فعليتها متقومة بوجود موضوعاتها في الخارج ، كما أنها باقية ببقائها ، سواء في ذلك أحكام الشريعة الإسلامية و أحكام الشرايع السابقة ، غير أن الثانية قد نالتها يد النسخ دون الأولى فلا تنالها يد النسخ أبداً لخاتمية دين الإسلام ، فلا يأتي بعده حكم جديد من السماء ، و حلاله حلال إلى يوم القيامة ، و حرامه حرام إلى يوم القيامة .
نعم لو أراد من الحكم الأحكام السلطانية الموقتة المنشأة في موارد الضرورة و تزاحم الأحكام و التي يدور بقاؤها مدار الضرورة التي أوجبتها لصح ذلك ، لأنها بطبيعتها تقتضي التغير ، و لكن الظاهر من كلامه إرادة غير ذلك أو الأعم من ذلك ، أو القول بكون الأحكام كلها إلا ما كان منصوصاً عليه في القرآن من الأحكام السلطانية ، فلا يكون ما صدر عن الرسول ( صلى الله عليه و آله ) من الأحكام الشرعية .
و إن أراد من الحكم الأحكام القضائية فهي و إن كانت تقبل التغيير و النقض أيضاً كما هو مذكور في كتاب القضاء كما لو تبين للقاضي خطؤه ، إلا أن كلامه لا يشمل ذلك ، و الظاهر من كلامه نفي كلية حصانة جميع الأحكام الشرعية عن التغيير ، و القول بتغييرها في الجملة على نحو الموجبة الجزئية ، و لكن العقل و النقل و الضرورة و خاتمية الدين تدل على عدم جواز وقوع أي تغيير في الأحكام الشرعية ، فلا يجمع بينها و بين الفتاوى بنفي الحصانة عنها ، و الحكم بجواز تغييرها في الجملة .
و أما الفتوى التي هي نتيجة اجتهاد المجتهد و نظره في الأدلة من العام و الخاص ، و المطلق و المقيد ، و المجمل و المبيّن ، و الأصول اللفظية ، و الأصول العملية و غيرها ، و استنباط حكم الشرع منها فهي قابلة للتغيير ، و ليس من لوازمها الثبات ، لعدم حصانة المجتهد من الإشتباه و الخطأ في اجتهاده ، فربما يفتي المجتهد مثلا بإطلاق أو عموم ، أو بالبراءة من التكليف لعدم عثوره على مقيد للإطلاق أو مخصص للعموم ، أو دليل على التكليف مع الفحص المتعارف ، ثم يطلع على الدليل المقيد للإطلاق ، أو المخصص للعموم ، أو الدال على التكليف مما يستظهر به خطؤه و بطلان فتواه ، فيرجع لا محالة عن فتواه الأولى و يتغير رأيه لا من جهة أن الحكم الذي أفتى به تغير ، بل لظهور أن الحكم لم يكن على ما أفتى به .
فالرأي الإجتهادي حيث أنه يحصل من الظنِّ معتبرِ الحجية بحكم العقل و الشرع ، يجب إتباعه عملياً ما دام لم يكشف خلافه ، أما لو انكشف خلافه فيؤخذ بالظن المعتبر الذي قام على خلافه و ليس هذا من تغيير حكم اللّه في شيء ، فحكم اللّه تعالى واحد إلا أن اجتهاد المجتهد و رأيه يتغير إذا ظهر له خطؤه و عدم إصابته حكم اللّه تعالى .
و بعبارة أخرى : إن الطريق الذي يقوم عند المجتهد للوصول إلى الواقع قد يؤدي إليه و قد لا يؤدي إليه على مذهب المخطِّئة القائلين بأن حكم اللّه الواقعي للجميع من الجاهل به و العالم سواء ، فللمصيب أجران و للمخطي أجر واحد .
أما على قول المصوِّبة القائلين بتعدد أحكام اللّه تعالى بتعدد ظنون المجتهدين و آرائهم تبعاً لما يقوم عندهم من الطرق ، فلا بد من القول بتحمل الواقعة الواحدة حكمين متخالفين بسبب تخالف ظنون المجتهدين أو تغير ظن المجتهد الواحد ، و هذا أيضاً غير تغيُّر حكم الله تعالى ، بل هو نظير انتفاء موضوع حكم و تحقق موضوع حكم آخر .
نعم أصل مسألة التصويب محل إشكال لاستلزامه الدور المحال ، و استلزامه دخالة ظن المجتهد أو علمه بالحكم في وجود الحكم .
و هنا كلام في التفصيل بين الأدلة الظنية القائمة لتعريف أصل التكليف و بيانه ، و بين الأدلة الظنية المبينة لشرائط التكليف و أجزائه ، مثل شرائط الصلاة و أجزائها نفياً و إثباتا ، ذكرناه في الأصول و لا نطيل ببيانه هنا ، لأن النتيجة على كل صورة أن حكم اللّه تعالى لا يتغير و إن تغيرت فتوى المجتهد فيه .

2 ـ التفصيل بين الأحكام في الثبات و التغيُّر

فصَّل الكاتب بين الأحكام العبادية المنصوص عليها في الكتاب و السنة ، و بين الأحكام الدنيوية المتعلقة بالمعاملات و التصرفات الحياتية المنصوص عليها في الكتاب و السنة ، مثل حلِّ البيع و تحريم الربا و كيفية تقسيم المواريث و حكم القتل العمد و الخطأ و شبه العمد ، و الطلاق و الزواج ، و قاعدة : ﴿ ... فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ ... 5 فهذه أحكام و قواعد دلت عليها النصوص ، و لا مجال لأحد أن يغيرها و يدعي أنها كانت أحكاماً لظروف خاصة ، بل هي تسري في كل الظروف .
على أنه ربما يظهر من الكاتب في آخر بحثه حول مسألة حق الإنتخاب للمرأة ، أنه يقول بجواز تغيير الأحكام المنصوص عليها أيضاً كما سيأتي .
قال : ( و مع ذلك فلهذه الأحكام الثابتة تفصيلات لم يك بها نص قاطع المعنى ، بل يكون معناه محتملا لأكثر من وجه ، و هذه يجري فيها الرأي الذي يقوم به العالم المتخصص على ضوء ما يفهمه من الكتاب و السنة لا على ضوء ظروف الحياة و تحقيق المصلحة ) إلى آخر كلامه .
و الظاهر أن مراده أن ما ورد فيه نص قطعي لا يحتمل إلا معنى واحداً فليس فيه مجال للإجتهاد ، و ما يحتمل أكثر من معنى يجري فيه الإجتهاد ، و لكن هذا لا يختص بما ذكره من تفاصيل الأحكام ، بل إذا ورد نفس الحكم في نص يحتمل أكثر من معنى فهو قابل للإجتهاد و تغير الرأي أيضاً كما ذكرناه .
مثلا القول بكفاية مسح بعض الرأس أو بوجوب مسحه كله ، ليس من باب تغير الحكم ، و كيف يكون الرأيان المتقابلان في زمان واحد من تغير الحكم ؟ بل على القول بالتصويب يكون كل منهما بالنسبة إلى من اختاره حكم اللّه تعالى ، لأن الحكم على هذا القول متعدد ، أو يتعدد بعدد آراء المجتهدين أو المجتهد الواحد .
و الإشكال على هذا الرأي بأنه إذا كان الأمر كذلك فعن أي حكم يفحص المجتهد و يطلب عليه الدليل ؟ مع أنه معلق على علمه أو ظنه و لا تحقق له قبل رأيه ، هذا الإشكال وارد على القائل بالتصويب و لا جواب عنده عليه ، إلا أن ما يهمنا هنا أنه على كلا القولين بالتخطئة و التصويب فإن اختلاف آراء المجتهدين و تغير فتاواهم بأسبابها المعروفة ليس من باب تغيير الحكم بل يؤيد ثبات الأحكام و صيانتها عن التغيير .
كما ينبغي الإشارة إلى ما ورد في كلامه من تفسير الإجتهاد ، فقد ذكر أن مثل فهم الباء في قوله تعالى : ﴿ ... وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ... 6 و هل أنها للتبعيض أو هي زائدة ليس اجتهاداً بالمعنى الصحيح بل هو اختيار لمعنى من المعنيين .
و لكن ذلك محل نظر و نقاش ، فكأنه توهم أن للناظر في الأدلة المحتملة لمعان متعددة الخيار في اختيار واحد منها ، مع أن عليه أيضا أن ينظر في اللغة و الشواهد التي أقيمت على كل واحد من المعاني و القرائن الدالة على إرادة بعضها المعين ، فيرجع باجتهاده واحداً من المعاني و يفتي به ، و إلا فيتوقف عن الفتوى .

3 ـ أحكام المعاملات

قال : ( أما المعاملات و ترتيبها و أحكامها فهي حق للعباد و من أجل مصالحهم في دنياهم ، فمن حقهم أن يحددوا أين تكون مصالحهم إذا لم يأت من الشرع الحكيم نص قرآني يحددها كما جاء مثلا في المواريث لما يعلمه سبحانه من تدخل العواطف فيها فحسم الرأي ، و قد أشار الرسول ( صلى الله عليه و آله ) إلى هذا في حديثه المشهور بعد ما حدث في تلقيح النخل : " إذا أَمَرْتُكُمْ بأمر مِنْ أمُورِ دِيِنكُمْ فُخُذُوا منه مَا اسْتَطَعْتم ، و ما كان من أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فإلَيْكُم ، أنتمْ أَعْلَمُ بِشُؤُونِ دنْيَاكُم " . و كأن هذا الحديث هو الأصل في إمكان تغيير بعض الأحكام الخاصة بالمعاملات حسب تغيير عللها و ظروفها و المصلحة للناس فيها ، على أن يكون التغيير على أساس القواعد العامة الشرعية مثل : لا ضرر و لا ضرار ، و درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح ) إلى آخر ما قال .
أقول : أولا ، إذاً لا كلام في أنه إذا لم يأت من الشارع الحكيم نصُّ قرآني ( و لا نبوي و إن لم يذكره و اقتصر على القرآني منه ) في مورد و لم تشمله النصوص العامة بعمومها أو إطلاقها فمباح بحكم الشرع أيضاً للمكلفين فعله و تركه ، و هذا ، أي حكم الشرع بالإباحة فيما لا نص فيه حكم ثابت لا يقبل التغيير فليس لأحد تحريم تركه أو إيجاب فعله .
و ثانياً ، لا يوافق هذا الخبر و ما هو بمضمونه لقوله تعالى : ﴿ ... وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ... 7 و قوله تعالى : ﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى 8 و قوله عزَّ مِن قائل : ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ... 9 . لأن مفاد الخبر على ما بنيتم عليه أن الأمة أعلم من الرسول ( صلى الله عليه و آله ) بشؤون دنياهم ، و لذا يجوز لهم مخالفة أوامره المربوطة بأمور الدنيا من المعاملات و غيرها مما لم يَرِد فيه النص القرآني ، و عليه فلا يجب إتباع شيء من أوامر النبي و نواهيه المربوطة بالسياسات و المعاملات و غيرها من الأنظمة المقرَّرة الثابتة بلسانه أو بسيرته في الأحوال الشخصية و الإجتماعية و المالية و غيرها ، فيكون النبي ( صلى الله عليه و آله ) كسائر الناس في أقواله و أفعاله و سيرته ، فلا وجوب لإتباعه و لا حسن للتأسي به ! و هذا أمر لا أظن أحداً من المسلمين فضلا عن علمائهم و فقهائهم الراسخين في العلوم الإسلامية يلتزم به .
و ما نفهمه نحن من الخبر ـ بعد الغض عن اضطراب متنه و مخالفته لما ثبت بالكتاب و السنة ـ أن المراد منه أن ليس من شأن الرسول ( صلى الله عليه و آله ) بمقتضى رسالته و لا زعامته و قيادته السياسية و إدارته أمور الناس أن يتدخل ، في شؤونهم الفردية التي يعمل كل أحد فيها ما يريد و يختار و تختلف فيه الأنظار ، فهذا يرى هذه المهنة وافية لمعاشه و الآخر يرى غيرها كذلك ، و هذا يرى سقي الزرع في المواعيد المعينة و ذاك يراه في غيرها ، و هذا يرى تلقيح النخل مفيداً و الآخر يرى أن يبقيها على حالها ، هذا يرى أن يبيع مثلا سكناه للإتجار بثمنه ، و الآخر يرى غير ذلك ، و هذا الطبيب يرى علاج المرض الخاص بكيفية خاصة و غيره يرى غيرها . فالدين و الشرع و حتى القوانين التي تنشأ من قِبَل البرلمانات و المراكز التي لها صلاحية وضع القانون أو الدستور في الأنظمة العلمانية لا تتدخل في أمثال هذه الأمور ، بل كل واحد من الناس حر مختار فيها .
و في تلقيح النخل أيضاً الأمر هكذا ، فكل قوم و كل شخص يعمل على طبق ما يرى فيه صلاح نفسه و لا يتدخل فيه الشرع و لا القانون الوضعي ، نعم ربما تقتضي الضرورة كحفظ النظام و إدارة المجتمع و أمن الأموال و النفوس المحترمة أن يحجز الحاكم الناس عن بعض حرياتهم في زمان أو مكان ما ، و لكن مع أن وجوب إطاعة الحاكم من الأحكام الشرعية ، فإن حكمه هذا ليس حكماً شرعياً مثل أحكام العبادات و المعاملات و السياسات و الحقوق و الأحوال الشخصية و غيرها ، و لا بحث لنا فيه .
و ثالثا : إن كان المراد من الخبر الذي استشهد به أن النبي ( صلى الله عليه و آله ) لا يأمرهم في أمور دنياهم بأمر و حكم فالإستدلال به لإثبات جواز التغيير في أحكام المعاملات و الأمور الدنيوية ضرب من التهافت و التناقض . و إن كان المراد منه أنهم أعلم بشؤون دنياهم من النبي ( صلى الله عليه و آله ) و يحق لهم أن ينظروا في أمور دنياهم و نظام أمورهم الدنيوية ، فشأن النبي ( صلى الله عليه و آله ) الذي أدبه اللّه تعالى و أحسن تأديبه أجلُّ و أنبل و أعلى من التدخل فيما لا حق فيه بل هو حق للعباد و هم أبصر منه به ، فهو يجتنب لا محالة عن هذا اللغو ، و قد قال اللّه تعالى في حقه : ﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى 10 و هو صاحب الخلق العظيم و أسمى مراتب الأدب و مكارم الأخلاق .
هذا مضافاً إلى أن الخبر إن كان يدل على أن أمر دنيا الناس مفوض إليهم لا اعتبار بأوامره و نواهيه فيه ، و عليه فتخرج أكثر الأحكام الشرعية الراجعة إلى أمور الناس و معايشهم و سياسة المدن و الإدارة الثابتة بسنة الرسول ( صلى الله عليه و آله ) و أوامره و نواهيه من دائرة الدين ، و نبقى نحن وأحكام العبادات و قليل من غيرها من الأحكام المنصوصة في القرآن !
هذا إذا لم يأت من المتنورين العصريين من يقول فيها أيضاً شبه ما قال عبد المنعم النمر في الأوامر النبوية و الأحكام الثابتة بالسنة ، و عليه يلزم على الفقهاء حذف أكثر أبواب الفقه الإسلامي الذي هو من أعظم براهين صدق هذه النبوة الخاتمة و كما لها .
و رابعا : إذا كانوا هم أعلم بأمور دنياهم من رسول رب العالمين ( صلى الله عليه و آله ) فهم أعلم من الفقهاء بالطريق الأولى ، فما معنى موقف الفقهاء في الإجتهاد في هذه الأمور و النظر في السنة بعدما كان الناس أولى و أحق بدنياهم و أعلم حسب الفرض من الرسول ( صلى الله عليه و آله ) ! بل إذا كان موقف الناس هكذا قِبَال أوامر النبي ( صلى الله عليه و آله ) و نواهيه حتى في حياته و كان يجوز لهم ترك العمل بأوامره ، و كان الأصل و المعتبر ما يرون هم بأنفسهم في أمورهم حسبما تقتضيه المصالح و الظروف ، فما قيمة اجتهاد الفقهاء في أمور الناس الدنيوية ؟
و خامسا : أن مغزى هذا الرأي أنه لا اعتناء بسيرة النبي ( صلى الله عليه و آله ) و سنته في الأنظمة الدنيوية ، بل الناس هم و ما رأوا فيها من مصالحهم و منافعهم ، و إذاً فليس فيها تشريع و لا يوجد حكم شرعي ، فما معنى تغير الحكم ؟
و سادسا : إذا اشترطتم أن يكون التغيير على أساس القواعد العامة الشرعية فليس معنى " أنتم أعلم بشؤون دنياكم " إلا الكر على ما فر ، و قد ذكر أن مراده من هذه القواعد العامة ، مثل لا ضرر و لا ضرار ، و درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح ، فإن أراد من القاعدة الثابتة ـ كما لا بُدَّ أن يكون ـ أن درأ المفاسد التي نهى عنها الشرع مقدم على جلب المصالح التي أمر بها ، فذلك و إن لم يكن قاعدة كلية عامة ، لأن مفسدة ارتكاب بعض المحرمات ربما لا تكون أهم من مفسدة ترك بعض الواجبات و مصلحة فعلها ، بل تكون هذه أهم من الأولى ، و لكن القائل بها لا يريد بها إلا القاعدة الشرعية التي هي كالشارح و المفسر لأدلة سائر الأحكام و معها لا تغيير أيضاً في الحكم ، لأن المعيار في المصلحة هو المصالح التي أمر الشارع بحفظها و المفاسد التي نص الشارع على وجوب درئها .
و سابعا : إن أُريد من تغيير الأحكام تغييرها بظروفها و عللها و المصلحة للناس حسب ما أمره الشارع ، مثل أكل الميتة الذي يباح عند الإضطرار ، أو ارتكاب أي محذور آخر أخف إذا دار الأمر بين المحذورين ، و الأهم و المهم ، أو ترك واجب لدفع الضرر ، أو نحو ذلك ، فهذا ليس من تغيير الحكم ـ كما أشرنا إليه ـ بشيء ، بل هو انتفاء حكم خاص بانتفاء موضوعه ، و وجود حكم آخر بوجود موضوعه ، فأكل الميتة لغير المضطر حرام شرعاً و للمضطر حلال شرعا ، و كل منهما حكم شرعي لموضوعه المختص به ثابت لا يقبل التغيير .
و الوضوء واجب إذا لم يكن فيه ضرر على صحة جسم المتوضي ، و هو حرام و بدعة إذا كان فيه خطر على صحته .
أما في دوران الأمر بين الأهم و المهم ، أو المهمين المتساويين عند الشرع ، فحيث أن المكلف لا يتمكن من امتثال الوجوبين لا بدَّ له عقلا في الصورة الأولى من حفظ الأهم ، و في الصورة الثانية هو بالخيار في الإتيان بأيهما شاء .
ففي كل هذه الصور لا تغيير في الحكم الشرعي .
و لا يخفى عليك أن ذلك يجري في الأحكام الجزئية لا الأحكام الكلية ، فلا تجد حكماً كلياً مزاحماً بكليته لحكم كلي آخر .
و كذا قاعدة أن درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح ليس معناها ـ كما مر الإشارة إليه ـ تغيير الحكم الشرعي ، بل المراد أن الحكمين الشرعيين اللذين أحدهما شرع لدفع مفسدة ، و الآخر لجلب مصلحة ، كأن يكون أحدهما حكماً تحريمياً توجب مخالفته الوقوع في المفسدة ، و الآخر وجوبياً توجب مخالفته تفويت المصلحة ، و لا يمكن للمكلف الجمع بين امتثال كلا الحكمين ، فيأتي بالذي يدرأ المفسدة أو يترك ما فيه المفسدة دون الذي يجلب المصلحة ، و عليك إن أردت المزيد بملاحظة باب تزاحم الأحكام في الكتب الأصولية .

4 ـ هل أن أحكام المعاملات إلهية ؟ أو اجتهادات من الرسول ( صلى الله عليه و آله ) ؟

صرّح في مقاله بأن أحكام المعاملات التي عبّر عنها بالأمور الجزئية لم تكن على أساس الوحي ، بل كانت باجتهاد منه ( صلى الله عليه و آله ) ! و إليك نصّ ما قال : ( جاء الرسول ( صلى الله عليه و آله ) إلى المدينة فوجدهم يتبايعون في الثمار قبل نضجها و بُدُوِّ صلاحها دون تضرر و نزاع فأباحها لهم في ظل الإسلام ، ثم بدأ المتعاملون بها يتنازعون و تكثر شكواهم لثمرة أصابها مرض . . . و جاؤوا للرسول ( صلى الله عليه و آله ) يتحاكمون إليه ، فغير رأيه الأول بناء على هذا و قال لهم : " أما و قد تنازعتم فلا تبيعوا الثمر قبل ظهور صلاحه و نضجه " و منع بذلك بيع الثمر قبل ظهور صلاحه ، حتى لا يتعلل المشتري بما طرأ عليه من تلف ليرجع في الصفقة أو ينقص له البائع من ثمنها الذي تبايعا عليه . . . و معنى ذلك بوضوح أن أحكام الرسول ( صلى الله عليه و آله ) في مثل هذه الأمور الجزئية لم تكن على أساس وحي من اللّه نزل عليه خاص بهذه الجزئية ، بل كانت باجتهاد منه و تقدير للمصلحة على ضوء الظروف التي أمامه ) إلى آخره .
أقول : أولا ، لماذا لا يكون مثل هذا من النسخ ؟ و أن الحكم الأول قد نسخ بالثاني ، و نسخ الحكم لا مانع من وقوعه إذا وقع في عصر الرسالة ، و إلا فهل يقول أحد بجواز العمل بالحكم الأول إذا اقتضى اجتهاد المجتهد ذلك ، و لا يراه من الإجتهاد في مقابل النص ؟
و ثانياً : لقائل أن يقول : ما كان عليه أهل المدينة من التبايع في الثمار قبل نضجها و بُدُوِّ صلاحها لم يكن من الأحكام الشرعية الموحى بها إلى النبي ( صلى الله عليه و آله ) ، بل كان المجتمع في هذه القوانين و العادات التي كان ملتزماً بها قبل بزوغ شمس النبوة الخاتمة باقياً على حاله ، و الأحكام إنما نزلت على الرسول ( صلى الله عليه و آله ) تدريجاً و في المناسبات ، فالحكم الشرعي الإلهي الذي لا يتغير هو عدم جواز بيع الثمار قبل بدو صلاحها على التفاصيل المذكورة في الفقه ، لا أن الرسول ( صلى الله عليه و آله ) عدل عن رأيه الأول و ظهر له خطؤه ، و أن الحكم الثاني كان من رأيه أيضاً و هو قابل للتغيير .
فالصحيح أن الحكم الثاني ثابت أبداً لا يتغير صارت الظروف ما صارت و تغيرت الأحوال ما تغيرت ، و النص النبوي كالنص القرآني لا فرق في ذلك بين المعاملات و العبادات فكلها مصونة عن التغيير .
نعم الأحكام السلطانية التي تصدر تحقيقاً لإجراء الأحكام الشرعية ، و حفظ النظام ، و إقامة العدل ، و إيصال حق كل ذي حق إليه ، و الدفاع عن حوزة الإسلام ، ربما تحدد حريات الأفراد في أموالهم و أنفسهم في مقدار من الزمان ، و ما دامت الضرورة الموجبة للتحديد المذكور باقية ، فللحاكم مثلا أن يحكم على مالك الغلات بعرض غلته للبيع عند احتياج الناس إليها دفعاً للحرج عن العامة ، و حفظاً للنفوس المحترمة .
و الفرق بين حكم الحاكم و حكم الشارع أن الأول غيري موقت شرع جوازه من الشارع حفظاً لنظام الدين و مصالح المسلمين ، و الثاني حكم ثابت نفسي ، نسبته إلى الأحكام الحكومية كنسبة الأصل إلى الفرع و الهدف إلى الوسيلة ، و الأول لا يستند بنفسه إلى اللّه تعالى بل إلى الحاكم نبياً كان أم غيره ، نعم جواز حكمه و جواز حكومته و وجوب إطاعته من الأحكام الشرعية الثابتة التي لا تقبل التغيير .
و لكن مع ذلك فإن للأحكام الحكومية الصادرة عن النبي ( صلى الله عليه و آله ) قداسة ليست لغيرها ، فلا يجوز تغييرها لأن النبي ( صلى الله عليه و آله ) لا يحكم إلا بوحي من اللّه تعالى على ما نص به القرآن الكريم : ﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى 8 و أكد لزوم التأسي به في قوله تعالى : ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ... 9 فالنبي ( صلى الله عليه و آله ) في صيانة اللّه و حفظه عن الخطأ في أحكامه و جميع أفعاله و أقواله ، سواء كان في الشرعيات أو الإخبار بالملاحم و حالات الأمم الآتية و الماضية ، و أحوال الملائكة ، و كيفيات عالم الغيب مثل الجنة و النار ، أو بيان المعارف و الأخلاقيات ، أو الأحكام الحكومية .
لكن القوم حيث رأوا أن بعض الصحابة قد تجرأ على التصرف في الأحكام الإلهية و الرد على النبي الأعظم ( صلى الله عليه و آله ) فأنكر عليه صلح الحديبية ، و لم يقبل منه تشريع متعة الحج و حرَّمها ، و حرم متعة النساء بعد ارتحال الرسول ( صلى الله عليه و آله ) إلى الرفيق الأعلى ، و منع رسول اللّه ( صلى الله عليه و آله ) من كتابة وصيته ، و قال كلمته الخبيثة التي لا ننقلها تأدباً و حذراً من التعدي على ساحة صاحب الخلق العظيم ، الرسول الرؤف الرحيم ، صلوات اللّه عليه و على آله ، و غير ذلك مما فعل أو قال هو أو غيره ـ لما رأوا ذلك ـ استهانوا بمخالفة النصوص الشرعية ، و السنة النبوية ، و نسبوا الرسول الأعظم ( صلى الله عليه و آله ) إلى الإشتباه و الخطأ ! و لا حول و لا قوة إلا باللّه العلي العظيم .
ثم إن الأمثلة التي ذكرها لإثبات مرامه كلها قابلة للمناقشة لا يثبت بها مدعاه .
فالمنع عن التقاط ضالة الإبل و إجازة التقاطها أيضاً ليس من قبيل تغيير الحكم ، بل يمكن الجمع بينهما بأن مورد المنع عن الإلتقاط غير مورد الجواز ، فإذا لم يخش على الإبل التلف لامتناعها على السباع و استمرارها بالرعي ، لا تتعرض لها و لا تلتقط ، لأن العادة جرت بطلب مالكها لها حيث فقدها ، أما إذا كانت فاقدة الأمرين فيجوز التقاطها ، و في الصورتين راعى الشارع الأقدس مصلحة المال و المالك ، و الحكمان حكمان ثابتان لا يقبلان التغيير إلى يوم القيامة .
و روي عن الإمام أبي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق ( عليهما السلام ) أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قضى في رجل ترك دابته من جهد ، قال : " إن تركها في كلأ و ماء و أمن فهي له يأخذها حيث أصابها ، و إن تركها في خوف و على غير ماء و لا كلأ فهي لمن أصابها " .
و في خبر مسمع عنه ( عليه السلام ) ، أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يقول في الدابة إذا سرحها أهلها أو عجزوا عن علفها أو نفقتها فهي للذي أحياها . قال و قضى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في رجل ترك دابته في مَضْيَعَة فقال : " إن كان تركها في كلأ و ماء و أمن فهي له ، يأخذها متى شاء ، و إن تركها في غير كلأ و ماء فهي للذي أحياها " .
و أما امتناع الرسول ( صلى الله عليه و آله ) عن التسعير فلا يستفاد منه الإطلاق ، و أنه كان ممتنعاً عنه و لو عرض مثل الحنطة و أشباهها ، مما يتقوم به الحياة و المعاش بسعر لا يستطيع أكثر الناس شراءه ، و يقعون بذلك في الحرج و المشقة الشديدة و المجاعة .
هذا مضافاً إلى أن أكثر الموارد التي استشهد بها هذا الكاتب و غيره على اجتهاد الرسول ( صلى الله عليه و آله ) و كون حكمه حكماً موسمياً و رأياً رآه دون أن يكون مستمداً من الوحي ، هي موارد دار الأمر فيها بين ارتكاب أحد المحذورين الشرعيين و المتزاحمين ، فرجح ( صلى الله عليه و آله ) ارتكاب المحذور الأخف ، في ضوء إرشادات الشارع و تعاليمه .
و الحاصل أن هذه الأمور لا تعد من التغيير و ليست به ، و هكذا عمل القاضي شريح ، مضافاً إلى أنه ليس بحجة ، فقد بقي قاضياً إلى عصر غلبة بني أُمية ، العصر الذي سلب فيه الناس حرياتهم الإسلامية ، و لم يكن لأحد حق النصيحة لعمال الحكومة و قضاتها ، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إلاَّ بتعريض ماله و نفسه و خاصته للنهب ، و أنواع التعذيب و القتل ، مضافاً إلى ذلك فإنه يمكن حمل عمل شريح على هذه المحامل إن كان هو ممن يفهم هذه الأمور ، فمثلا قوله ( صلى الله عليه و آله ) : البينة على المدعي و اليمين على من أنكر ، و قاعدة حجية البينة ، لا ريب أنها قاعدة شرعية و طريق لإثبات الدعاوي و فصل الخصومات ، إلا أنها كذلك إذا كانت بحسب النوع تفيد الظن و يعتمد عليها العرف ، أما إذا تغير حال الناس و آل الأمر إلى ما آل من ظهور بني أمية و أعوانهم و أتباعهم على الأمور ، و رأى القاضي المسكين أن أعوان القاضي و الشهود الذين يشهدون على دماء الناس و أموالهم يتقربون إلى أرباب السياسة و الحكومة بالشهادة على المخالفين و الثائرين عليهم ، و يشهدون كذباً و زوراً على محبي أهل بيت النبوة و شيعة الحق ، فلا بد له أن يعتذر بعدم اعتماده على البينة ، و أنه باجتهاده استنبط من دليل اعتبار البينة أن مناط حجيتها حصول الإطمئنان بها للنوع غالباً و اعتماد العرف عليها ، فإذا انتفت تلك الخصوصية تنتفي حجيتها لا محالة ، و لا ريب أنه لم يمكن له في مثل ذلك العصر رد الشاهد ضد أهل البيت ( عليهم السلام ) و شيعتهم بسبب فسقه العملي و القولي .
على كل لا ريب في أن اختلاف آراء القضاة أو القاضي الواحد في القضايا المتشابهة كاختلاف أهل الفتيا في فتاويهم أو المفتي الواحد في فتواه في موضوع واحد لا ربط له بتغيير الحكم الشرعي ، بل الواقع أنه هو يجتهد و لا يرى مثلا لدليل حجية البينة أو الحلف أو غيرهما إطلاقاً يشمل بعض القضايا ، و إلا فلا يجوز لأي قاض كائناً من كان مع الإعتراف بشمول إطلاق النص و عمومه الإمتناع عن القضاء ، أو القضاء على خلاف النص .

5 ـ النبي و الإجتهاد

تقدم أن الكاتب قال : إن أحكام الرسول ( صلى الله عليه و آله ) في مثل هذه الأمور الجزئية . . . . إلى آخره ، و هذا التصريح منه بأن النبي ( صلى الله عليه و آله ) كان فيما يأمر به و ينهى عنه يعمل بالإجتهاد ، و عليه ، يجوز وقوعه في الخطأ كسائر المجتهدين ، و المسألة خلافية .
و الذي نذهب إليه و نؤمن به تنزيه النبي ( صلى الله عليه و آله ) عن الخطأ في الشرعيات فيما هو فيه أسوة للأمة و غيرها ، و هذا واضح للمتدبر بأدنى تدبر و تأمل ، لأنه إذا كانت سيرة الرسول و سنته القولية و الفعلية من مصادر اجتهاد المجتهدين و تفسير الكتاب و بيان مراداته ، و إذا كان هو العالم الأول بخصوصه و عمومه و ناسخه و منسوخه ، و محكمه و متشابهه ، و مفاهيم ألفاظه و معانيها الحقيقية و المجازية ، و كان هو العالم ـ بتعليم اللّه و وحيه ـ بموضوعات أحكام اللّه تعالى الكلية و تفاصيلها ، ففي ماذا يجتهد و هو العارف بكل ذلك ؟
و لو لم يكن عالماً بجميع تفاصيل الأحكام بتعليم اللّه و وحيه يبقى الدين ناقصاً فاقداً للمصادر الكافية لاستنباط جميع الأحكام منها .
اللهم إلا أن يقال : إنه يجتهد عند اشتباه الموضوع بغيره مع أنه مبين المفهوم عنده ، و لكن هذا غير الإجتهاد المصطلح الذي يقوم به الفقهاء و المجتهدون ، و هو خارج عما نحن فيه ، فالناس كلهم يجتهدون في تشخيص موضوع الحكم عند اشتباهه بغيره ، مثل اشتباه مايع بأنه دم أو ماء ، مع أن مفهوم الدم الذي هو موضوع الحرمة مبين لا سترة عليه ، فتارة يقعون في الخطأ و أخرى يصيبون الواقع ، و لكنه ليس من اجتهاد الفقيه المصطلح بشيء ، مضافاً إلى أن شأن النبي ( صلى الله عليه و آله ) أنبل و أجل من ذلك ، فهو مصون عن ذلك الخطأ و غيره من الأخطاء ، بل ربما يحطّ مثل هذا الخطأ مع كونه في الموضوع و تطبيقه الخارجي من كرامته ( صلى الله عليه و آله ) ، و شخصيته الرسولية ( صلى الله عليه و آله ) أكثر من خطئه في تبليغ أصل بعض الأحكام ، فهو مصون عنه ، و هو المؤيد من عند اللّه تعالى المحفوظ من الخطأ و الزلل .
و بالجملة ، المجتهد هو الذي يفحص عن أدلة الأحكام في الكتاب و السنة و يفتي بما ظفر به من الأدلة بعد النظر في عامها و خاصها و . . . . و تارة لا يظفر بالدليل الخاص مع وجوده فيفتي بعموم العام ، أو يظفر بسبب آخر . أما النبي ( صلى الله عليه و آله ) فهو العالم بالأحكام سواء كانت جزئية أم كلية ، فإطلاق المجتهد على النبي دون شأنه الجليل ، و كذا أهل بيته الذين هم عِدْل القرآن ، فهم معصومون عن الخطأ لأنهم و القرآن لن يفترقا ، و لأن التمسك بهم أمان من الضلال ، و هم سفينة النجاة ، كما وردت بذلك صحاح الفريقين .
نعم لا بأس بأن يقال إن النبي ( صلى الله عليه و آله ) بعد ما نزلت عليه الأحكام الكلية كان يبين جزئياتها و تفاصيل ما أوحى اللّه إليه ، إلا أنه في هذا أيضاً مصون عن الخطأ و الإشتباه ، و إن قلنا إن إخباره عن هذه الجزئيات بالخصوص ليس مما نزل به جبرئيل على قلبه الطاهر الأقدس ، بل هو بيان لجزئياته أو مصاديقه و لكنه في كل ذلك تحت رعاية اللّه الخاصة ، لا يخطئ و لا يقول إلا بوحي من اللّه تعالى : ﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى 8 .
هذا و لا يخفى عليك أن الدليل على أنه لا يخطئ في موضوعات الأحكام التي تشتبه على غيره هو عين الدليل على عصمته و عدم الخطأ في أصل الأحكام .

6 ـ الأحكام كليتها و جزئيتها

الأحكام الكلية هي الأحكام المحمولة على الموضوعات الكلية ، مثل الصلاة و الصوم و الحج و البيع و النكاح و الرهن . و هكذا تفاصيلها و شرائطها و أجزاؤها من السجود و الركوع و القراءة و خيار الغبن و خيار العيب . و كذا موضوعات الأحكام التحريمية مثل الخمر و الربا و الميسر و الغش و إيذاء المؤمن و الزنا و غيرها . . . فالحكم يكتسب كليته من موضوعه .
و أما الأحكام الجزئية فهي ما يتعلق بالجزئيات الخارجية للموضوع الكلي ، فالحكم الجزئي جزئي من جزئيات الحكم الكلي ، و هذا مثل حرمة شرب هذا الخمر ، أو حرمة غصب ملك زيد ، أو حرمة الزنا بامرأة معلومة ، أو حرمة نكاح هذه المرأة ، أو وجوب أداء زكاة هذا المال المعين ، أو وجوب صلاة ظهر هذا اليوم ، أو وجوب الوضوء لهذه الصلاة ، أو خيار الغبن في هذه المعاملة .
و لكن اشتبه الأمر على هذا الكاتب فعدّ نهي النبي ( صلى الله عليه و آله ) عن بيع الثمر قبل ظهور صلاحه و نضجه ـ الذي استقرت عليه فتاوى الفقهاء و بنوا على بطلانه ـ عده من الأحكام الجزئية و لم يتفطن إلى أن الجزئي و الكلي متلازمان ، لا يوجد أحدهما بدون الآخر ، فإذا كان هذا الحكم أي بطلان بيع الثمرة قبل بدو صلاحها جزئيا ، فما هو إذاً الحكم الكلي الذي هذا من جزئياته ؟ ! و ليت شعري كيف يخفى على الذي يكتب في الفقه و في مثل هذا الموضوع الذي شغل فكر أكثر أهل الثقافة العصرية المغترين بالأساليب الشرقية و الغربية أن الحكم ببطلان هذا البيع و النهي عنه هو من الأحكام و النواهي الكلية التي لا تحصى جزئياتها ، مثل بيع هذه الثمرة أو بيع تلك أو بيع هاتيك .

7 ـ فتاوى السابقين لا حصانة لها

نعم لا حصانة لرأي أحد من السابقين من الصحابة و التابعين فضلا عن غيرهم ، إلا رأي من نص النبي ( صلى الله عليه و آله ) على عصمته و حصانة رأيه ، و أنه مع الحق و الحق معه يدور حيثما دار ، و أنه مع القرآن و القرآن معه . و كذا رأي الأئمة من العترة النبوية ( عليهم السلام ) الذين لا يخلو الزمان من واحد منهم ، لأن النبي ( صلى الله عليه و آله ) نصَّ على عصمتهم فقال في الحديث المتواتر المشهور : " إنِّي تَاركٌ فيكُمُ الثَّقَلَيْن كتَابَ اللّه وَعِتْرَتي أَهْل بَيْتي إِنْ تَمسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلّوُا أَبَدا ، فَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَردَا عَلَيَّ الْحَوضَ " .
و لم يدّع أحدٌ تلك الحصانة و العصمة لأحد من الأمة إلاَّ للأئمة الإثنى عشر ( عليهم السلام ) المنصوص عليهم في أحاديث الخلفاء و الأئمة الإثنى عشر ( عليهم السلام ) المتواترة .
و يدل أيضاً على حصانة أقوالهم و آرائهم و أحاديثهم ( عليهم السلام ) أحاديث متواترة أُخرى ليس هنا مجال الإشارة إليها ، ذكرنا طائفة منها في كتابنا ( أمان الأمة من الضلال و الإختلاف ) .
و أما غيرهم من الصحابة و التابعين و الفقهاء و المجتهدين فلم يدّع أحد لهم ذلك ، بل ثبت خلاف العصمة لأكبرهم ، و مع ذلك ترى كاتب المقالة يستشهد بأقوالهم ، و يستشهد بعمل شريح و بكلامه ، و برأي سعيد بن المسيب ، و آراء غيرهما من المجتهدين و الصحابة و أعمالهم ، ثم يقول فتاوى السابقين لا حصانة لها .

8 ـ الآراء و الأحكام البشرية

الأحكام السلطانية و إن كانت بشرية غير إلهية ، و كانت لا محالة متأخرة عن الأحكام الإلهية لأنها لتحقيق إجراء الأحكام الإلهية و تنفيذها ، لكن أصل جواز الحكم للحاكم و ولايته على إصدار هذه الأحكام و إلزام الآخرين في الموارد التي قررها الشارع حكم شرعي كما أن وجوب طاعة الحاكم في أحكامه حكم شرعي أيضاً كما ذكرنا .
و إذا لم يكن الحاكم في هذه الأحكام من المعصومين و أولي الأمر الذين قرن اللّه إطاعتهم بطاعة الرسول ( صلى الله عليه و آله ) ـ و لو كان من عمّالهم و المنصوبين من قبلهم بالنصب الخاص أو العام ـ فإنه يجوز وقوعه في الخطأ و الإشتباه ، و لكن تجب إطاعته حفظاً للنظام إلا إذا علم خطؤه ، و حنيئذ فلا يجب على العالم بذلك إطاعته ، بل ينبغي في بعض الموارد تنبيهه على خطئه . و من لا يعلم ذلك و إن احتمله فيجب عليه إطاعة الحاكم ، على تفصيلات ليس هنا مقام ذكرها .
و هذا نظير تطبيق غير الحاكم الأحكام الشرعية على موضوعاتها الخاصة الخارجية ، فتارة يصيب فيها ، و تارة يخطئ ، و هذا يصيب و الآخر يخطئ . . و هذا مبنى قوله ( صلى الله عليه و آله ) في خبر أحمد و الترمذي و ابن ماجة و مسلم : " و إذَا حَاصرْتَ حِصناً فَأَرادوكَ أن تُنْزِلَهُم على حُكْمِ اللّه فلا تُنْزِلْهُم على حُكْمِ اللّه ، و لكنْ أَنْزِلْهُم على حُكْمِكَ فإنَّك لا تَدْري أتصيبُ حكَم اللّهِ فِيهم أم لا " فإن المراد منه ـ واللّه أعلم ـ أن إنزالهم على حكم اللّه لا بُدَّ و أن يكون بما هو حكم اللّه برأيه ، و حيث يمكن أن لا يكون في رأيه مصيباً حكم اللّه تعالى يمكن أن ينزلهم على غير ما شرط لهم و هو حكم اللّه الواقعي . و أما لو شرط عليهم إنزالهم على حكمه فإنه و إن أنزلهم على ما هو حكم اللّه برأيه لكن إن لم يصب حكم اللّه لم يتخلف عن الشرط ، مضافاً إلى أنه بذلك يسدّ باب مناقشتهم إياه بأنك ما أنزلتنا على حكم اللّه تعالى . و هذه الرواية صريحة بصحة القول بالتخطئة و بطلان التصويب .

9 ـ باب الإجتهاد في الأحكام مفتوح للجميع إلى يوم القيامة

من الأخطاء الكبيرة القول بسد باب الإجتهاد و حصر المذاهب الفقهية في الأربعة المعروفة ، و إلزام العامي بتقليد أحد أرباب هذه المذاهب ، و إلزام المجتهد أن يكون مجتهداً في الفقه المنسوب إلى واحد منهم فيسلبونه بذلك حرية التفكير و الإجتهاد الحر ، و النظر في الأدلة من الكتاب و السنة ، و الإفتاء بما يؤدي إليه نظره و إن خالف جميع المذاهب ، كما يسلبون بذلك العامي حريته في التقليد ، فلا يجوزون له تقليد مجتهد إذا خالف رأيه في المسألة رأي فقهاء هذه المذاهب ، و إن كان موافقاً لرأي كثير من الصحابة و التابعين ، و الفقهاء الذين كانوا قبل هذه المذاهب الأربعة !
لقد جعلوا هذه الأمة بذلك شيعاً مختلفين متفرقين ، و أحدثوا بهذه البدعة فتن الطائفتين الشافعية و الحنابلة و الأحناف و المالكية ، التي تسببت في حدوث حروب دامية بينهم ليس هنا مجال ذكر بعضها .
و ليت شعري ما مرادهم بأن فلاناً مجتهد حنفي أو شافعي ، أو أو....؟ فإن كان مرادهم أنه مجتهد في فقه فلان و أنه يعرف آراءه و فتاواه من النظر في كلماته فلا يخلو إما أن يقدر هو بنفسه على استنباط الأحكام الشرعية من الكتاب و السنة فهو مجتهد و الحجة له ، و لمن يأخذ بفتواه اجتهاده الشخصي لا اجتهاد الشافعي مثلا ، فهو مجتهد مثل الشافعي ، مستقل بآرائه و فتاواه ، و إن خالف فيها سائر الفقهاء .
و إن كان لا يتمكن من الإجتهاد فهو عامي يجب عليه تقليد المجتهد الجامع لشرائط التقليد و الإفتاء كائناً من كان ، أو عليه الإحتياط في الفروع .
لقد خسرت الأمة الإسلاميه بسبب قول إخواننا السنيين بسد باب الإجتهاد آراء علمية دقيقة ، و فتاوى هامة مفيدة كان بإمكانهم أن يستنبطوها من الكتاب و السنة بحرية تفكيرهم لولا هذه المقولة التي جعلوها ديناً يدان به ، بينما نرى مذهب الإمامية شيعة أهل البيت ( عليهم السلام ) ما زال ببركة فتح باب الإجتهاد و البحث الحر في الكتاب و السنة ينمو فقهه و يزداد قوةً و عمقاً و سعة ، و ما زال يظهر منهم في كل عصر فقهاء كبار ينتقدون آراء الفقهاء الماضين ، و يصلون بالتعمق في الكتاب و السنة إلى ما لم يصل إليه المتقدمون .
و الذي يسهل الخطب أنه بفضل جهود جمع من أكابر فقهاء إخواننا السنة ، و إداركهم عمق الخسارة التي تسبب فيها سد باب الإجتهاد ، قد تزلزل هذا البناء الذي بني لأغراض سياسية ، و سيأتي زمان إن شاء اللّه تعالى لا ترى بفضل جهود المصحلين المخلصين هذا التفرق المذهبي ، و لا يبقى من العلماء المجتهدين من ينسب نفسه إلى الشافعي أو مالك أو أبي حنيفة أو أحمد ، بل يتبع اجتهاده و استنباطه هو ، لأنه لم تدل آية و لا رواية على أنهم أولى من غيرهم ممن يأتي بعدهم ، و أن اجتهادهم أقوى من اجتهاد مجتهدي عصرنا ، فهم و اجتهادهم و نحن و اجتهادنا ، و الباحث يعرف قصة هذا الحصر في الإجتهاد الذي لم يكن في عصر الرسول ( صلى الله عليه و آله ) و لا في عصر الصحابة ، إلا أن أرباب السياسة خافوا أن يؤدي فتح باب الإجتهاد إلى ظهور شخصيات علمية مرموقة ، فلا يكون لهم بدّ من الخضوع لفقههم و آرائهم و زعامتهم الدينية ، الأمر الذي يتعارض مع سلطتهم الإستبدادية ، و أنظمتهم الكسروية و القيصرية ، لأن العلماء إذا ملكوا القلوب يقومون بواجبهم ، و يأمرون بالمعروف ، و ينهون عن المنكر و الظلم و الإستبداد و الإستعباد .
و هؤلاء علماء الإمامية بفضل نعمة فتح باب الإجتهاد ، و ما يترتب عليه من وجود مرجعية دينة نافذة القول في قلوب الناس ، ترى منهم رجالا في كل عصر يحرسون الإسلام و يُبَلِّغون رسالته ، و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر ، و يقفون في وجه ظلم الحكام و الأمراء ، و ربما ثاروا على المستكبرين الجبارين ، و بذلك يؤكدون على أن الدين هو العقيدة و السياسة و النظام و القضاء و العبادة و الأخلاق ، و أنه يجب أن يكون رجالات الدين رجالات السياسة و الإدارة و الحكومة ، لا تنفصل الأولى عن الثانية ، بل السياسة من الدين داخلة فيه دخول الجزء في الكل ، فالحكومة الشرعية الرشيدة هي الحكومة التي يتولاها الفقيه مباشرة أو يكون تحت رعايته و إرشاده و أمره و نهيه .
هذا و قد عرفت أن فقهاء الشيعة مع قولهم بفتح باب الإجتهاد اتفقوا خلفاً عن سلف على ثبات أحكام اللّه تعالى ، و لا يجوزون تغيير أي حكم من أحكام اللّه تعالى لأحد حتى لأئمتهم الذين يقولون بعصمتهم ، و مع أن فقهاء الإمامية لا يقولون بالرأي و القياس بل يفتون بالكتاب و السنة في المسائل المستحدثة كغيرها ، و يرون أن ما أدّى إليه اجتهادهم حكم اللّه تعالى الذي لا يتغير أبدا ، إلا أن ينكشف خطؤهم في إصابته .

10 ـ الأحكام الحكومية

تقدمت الإشارة إلى أن الأحكام الحكومية التي هي من أجل ضمان تطبيق الأحكام الإلهية تختلف بحسب الأزمنة و الأمكنة حتى لو كانت من حاكم واحد ، فيوماً يرى إرسال الجيش إلى شرق الدولة مثلا و في زمان يرى تسييرها إلى غربها ، و في زمان آخر يطلب من الناس أن لا يسافروا إلى بلاد الكفر مثلا ، و في وقت يطلب منهم السفر إليها تحصيلا لغرض خاص .
فهذه الأحكام طبيعتها عدم الثبات ، بخلاف أحكام المعاملات و نظائرها ، فإن قوانينها و أحكامها ثابتة لا تقبل التغيير .
و الذي اخترناه في الفقه ، بدلالة تقصِّي بعض الأحاديث المروية عن طريق العترة الطاهرة ، أن الأحكام إذا كانت نبوية صادرة عن رسول اللّه ( صلى الله عليه و آله ) ، و كان النص الدال عليها مطلقاً لا يخصها بزمان خاص أو ظرف خاص ، فلا يجوز رفع اليد عنها بالإجتهاد ، و حملها على أنها أحكام حكومية ، فمثلا نصٌّهُ ( صلى الله عليه و آله ) على أن " مَنْ أَحْيَا أرضاً مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ " و إن قلنا إن المستفاد منه ليس الحكم بسببية الإحياء للملكية ، و جواز التملك بالإحياء ، بل هو إذن منه في الإحياء و الإنتفاع من الأرض ، لكن مع ذلك لا يجوز لأحد ممن يلي الأمر بعده رفع هذا الأمر و هذا الإذن و منع الناس عن إحياء الأرض الموات ، أو جعله مشروطاً بشرط .
و لذلك نَقِمَ المسلمون فيما نقموا على عثمان أنه آوى الحَكَم بن العاص و رده إلى المدينة ، و أعطاه مأة ألف بعد ما كان منفياً في حياة النبي ( صلى الله عليه و آله ) و في زمان أبي بكر و عمر ، و قد سألهما إدخاله المدينة فامتنعا عن الإذن له ، و قال أبو بكر : هيهات هيهات أن أغير شيئاً فعله رسول اللّه واللّه لا رددته أبدا . و قال عمر : ويحك يا عثمان تتكلم في لعين رسول اللّه و طَرِيِده و عَدُوِّ اللّه و عدو رسوله !

11 ـ بعض الأمثلة

في الأمثلة التي مثل بها الكاتب خلط أيضاً بين الأحكام الإلهية و فتاوى الفقهاء التي ليست مصونة من التغيير و ليس ذلك بسبب أن الحكم الذي أفتى به المفتي يتغير فتتغير الفتوى بتغيره ، فإن المفتي إذا أفتى بحسب ما أدى نظره إليه يرى مؤدى نظره حكماً شرعياً لا يقبل التغيير ، و عندما يرجع عنه لا يرجع بسبب تغير الحكم الشرعي الذي استنبطه بل لأنه ليس مصوناً من عدم إصابة حكم الله تعالى ، فربما هو مخطئ في فتواه ثم يظهر له خطؤه فيرجع عن فتواه ، و رجوع المجتهد عن رأيه إلى رأي جديد ليس بعزيز .
فلا يقاس الحكم الشرعي الثابت المصون عن التغيير بفتوى المجتهد الذي ليس مصوناً من الإشتباه و الخطأ .
و بعض الأمثلة التي ذكرها الكاتب ليس من تغيير الفتوى أيضاً بشيء بل هي أشبه بالإجتهاد في مقابل النص و رد النص بالتأويل :
قال في مسألة كون المرأة ناخبة أو نائبة ( فقد صدرت مثلا فتوى في النصف الأول من هذا القرن بعدم السماح للمرأة أن تكون ناخبة أو نائبة ، و تجاوز الزمن هذه الفتوى كما تجاوزتها الفتوى البصيرة من العلماء الآن إذ لم يقروا الدليل الذي استند عليه المانعون ، و نظروا إليه من وجهة نظر أخرى ، فوق أن المرأة تعلمت و قطعت أشواطاً في العلم كالرجل ، و كذلك في الوظائف ، و برز الكثير في عملهن و تخصصهن فلم يعد من المستساغ باسم الدين منعهن من إبداء الرأي في الإنتخابات أو المجالس التشريعية أو الأعمال الإدارية بينما نعطيه الرجل الأمي ، على أن لكل بلد وضعاً يراعيه المفتون في فتاواهم قد لا يوجد في بلد آخر ) إلى آخره .
و نحن لا نريد الكلام و البحث في المسألة هنا لإبداء رأينا الفقهي ، و لكن حيث ندرك خطر المسار الخارج على الأحكام الشرعية الذي يسيره مثل هذا الكاتب ، لا نخفي أسفنا الشديد على هذه المواجهة الهدامة مع نصوص من الكتاب و السنة و إجماع الأئمة و الأمة ! فكأنه يرى أن لكل أحد أن ينظر إلى النصوص و الأدلة بأي وجهة شاء ، و لو انتهت وجهته إلى ترك النصوص ، فلا معيار و لا ميزان للنظر في النصوص و الإستنباط منها !
و كأنه ظن أن الشارع الحكيم العالم بالمغيبات الذي أرسل رسوله الخاتم بالدين الذي ختم به الأديان ، و شرائع الأحكام التي ختم بها الشرائع ، لم يكن عالماً بأن المرأة سوف تقطع أشواطاً في العلم .
و كأنه زعم أن ما جاء في الكتاب و السنة من الأحكام المختصة بالنساء أو الرجال مختص بعصر الرسول ( صلى الله عليه و آله ) و عصور لم تتقدم فيها المرأة التقدم الذي وصفه ! فقوله تعالى : ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء ... 11 ، و قول نبيه ( صلى الله عليه و آله ) " لَنْ يفلح أمر قوم أسندوا أمرهم إلى أمرأة " و غيرهما من النصوص ساقطة ـ و العياذ باللّه ـ عن الإعتماد و الإستناد إليها !
أو لم يكن في عصر الرسالة من النساء من كانت أبصر و أحذق في الأمور من كثير من الرجال ؟ ألم تتولَّ في إيران السلطنة و الملك امرأة من بني ساسان فقال رسول اللّه ( صلى الله عليه و آله ) فيها : ( لَنْ يُفْلح قومٌ أسندوا أمرهم إلى امرأة ) .
هذا مضافاً إلى أن الرجال كانوا إلا القليل منهم كالنساء في الأمية ، فلو كانت علة بعض الفروق الشرعية بين المرأة و الرجل أمية النساء كان اللازم جعل ذلك للأميين و غيرهم رجالا و نساءً .
فاتضح بذلك أن حكمة الفرق في بعض الأحكام بين الرجال و النساء ليست ما زعمه الكاتب من أمية النساء في عصر الرسالة و تأخرهن عن الرجال في بعض الكفاءات .
و قد ظهر مما ذكرناه أنه لا يجوز للمؤمن بالدين الحنيف و خاتميته و بقاء أحكامه إلى آخر الدهر مواجهة النصوص ، و ردها بهذه المحامل الفاسدة التي لو فتح بابها لا يبقى نص و لا حكم في مأمن منها ، بل تكون كل الأحكام و القوانين المالية و السياسية و الإجتماعية و الشخصية معرضاً للتغيير و التبديل المستمر .
فيمكن أن يقال مثلا إن الطلاق إنما جعل بيد الرجل دون المرأة حينما كانت المرأة تعيش عيشة الأمية ، و لا تعرف شيئاً عن حقوقها الإنسانية إلا أن تكون خادمة للزوج و البيت حاضنةً للطفل ، و أما في عصر تتنافس النساء مع الرجال في العلوم و الفنون ، و ظهور المرأة أكثر حذقة من الرجال في تدبير المجتمع و الدولة ، فكيف نسمح أن يكون أمر الطلاق بيد الرجل يطلق امرأته في أي زمان شاء ، و لا يكون للمرأة ذلك ؟ !
و هكذا يقال ( لا غفر اللّه لقائله ) في العدة و غيرها حتى تكون النتيجة ، أن يأتي هؤلاء الذين يعدون أنفسهم من أهل التنوُّر و الثقافة بشرع جديد ، و فقه حديث هو أبعد عن فقه ديننا الحنيف ، و شرعه القويم ، الذي جاء به رسولنا النبي الكريم ( صلى الله عليه و آله ) ، من المشرق عن المغرب ، لأنه فقه يحلل الربا المحرم و يسمِّيه استثماراً و فائدة ، و يحلل سائر المحرمات و يسميها بأسماء أخر ، أو يبقيها على أسمائها !
أعاذنا اللّه و جميع المسلمين و أحكام دينه المبين من هذا الفقه الخارج عن الكتاب و السنة و إجماع المسلمين ، الفقه الغربي الأمريكي الذي يؤيده و ينشره و يدعو إليه فقهاء الأنظمة العميلة المعروفة .
و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم ، و صلى الله على سيدنا محمد و آله الطاهرين
25 ذي الحجة 1410
لطف اللّه الصافي