تقيمك هو: 2. مجموع الأصوات: 30
نشر قبل 7 سنوات
القراءات: 8490

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الحضارة و فن الحياة

لا ريب في أن الجزء الأكبر من آيات الذكر الحكيم ينير بصيرة الإنسان ويعلّمه فنّ الحياة ، ولكنّ هناك حقائق كبرى‏ينحسر عادة عنها وعي الناس العادييّن ، وإنما يرتفع إلى وعيها أولئك الرجال الذين تسامى علمهم ، وتعالت روحهم ‏وإرادتهم .

ومما لا شك فيه أن استيعاب هذه الحقائق الكبرى هو الذي يمنح الإنسان القدرة على التعامل مع الطبيعة تعاملاً سليماً ، وتسخير ما في الكون من أجل مصلحته ومصلحة سائر أبناء البشر .

الطريق الخاطئ مشكلة الإنسان‏

وكثيراً ما يسلك الإنسان طريقاً خاطئاً ، ولكننا نراه دائماً يفتش عن أفضل السبل لقطع المسافات ، ولكن ماذا ينفعه هذا التفتيش والاجتهاد إذا كان طريقه لا يوصل إلى هدف ؟ فالإنسان إنما يستطيع الاستفادة من تعبيد الطريق ، ومن‏البحث عن الوسيلة المناسبة للسير فيه إذا كان هذا الطريق سليماً مؤدّياً إلى هدفه .
إن غالبيّة الناس مثلهم كمثل الإنسان الذي تراه يفتش عن أصغر الأمور ، وأدقها ليدقق فيها موظفاً ما يتمتع به من‏وعي وعقل وذكاء ، ولكنه لا يكلّف نفسه عناء اكتشاف هل أن الطريق الذي يسير فيه مغلوط أساساً أم لا ؟
إن هذه الظاهرة تمثل إحدى المشاكل الكبرى التي يعاني منها الإنسان في حضارته ؛ فهو يهتم بالحقائق الجزئية الصغيرة دون الاهتمام بالحقائق الكبرى .
والقرآن الكريم يحدثنا عن هذه الحقائق الكبرى التي لو عرفها الإنسان لنجح في حياته ، ومن هذه الحقائق حقيقة الصراع الأبدي بين أهل الحق والباطل ، ولكننا للأسف الشديد وعلى الرغم من قراءتنا المتكررة للقرآن لم نستطع أن‏نعي أن هناك صراعاً أبدياً بين أهل الحق وأهل الباطل ، وأن العاقبة ستكون للمتقين .
إن هذه الحقيقة البسيطة يطرحها القرآن الكريم المرّة بعد الأخرى .

بين الدين و الحضارة

وقبل أن نتحدث عن علاقة الدين بالحضارة ، نذكّر أولاً ببصيرتين أساسيتين ؛
الأولى : تتمثل في أن مشكلة الحضارة تتلخص في أنها مبتورة إذا ما قيست بالدين ، فالدين يتحرك مع الحضارة لمسافة معيّنة ، ولكنّ هذه الحضارة سرعان ما تتوقف .
والثانية : إن الدين يمضي قدماً إلى النهاية السعيدة ، إذ الحضارة تحدثنا عن الوسيلة ، بينما الدين يحدثنا عن الهدف بعد أن‏يشير إلى الوسيلة أيضاً ؛ والحضارة تبين لنا الجزئيات ، بينما الدين يقولب هذه الجزئيات ضمن إطار عام ؛ والحضارة تزودنا العلم ، بينما الدين يمنحنا فقهاً ؛ والحضارة تعلّمنا ما هي الحياة ، والدين يعلّمنا كيف ننتفع منها ، ولماذا كانت الحياة ، وكيف ينبغي أن تكون . .

معرفة فن الحياة

إننا ـ كمسلمين ـ لابد أن ينصب جلّ اهتمامنا على المسائل الحياتية ، أو بتعبير آخر ؛ على معرفة فنّ الحياة ، مستلهمين‏ذلك من كتاب ربّنا تعالى ومن منهجه في فهم الحياة . أما أن نبقى نبحث في الجزئيات ـ سواء كانت هذه الجزئيات‏ مرتبطة بالدين أم بالحياة ـ ونلغي النظر في الكليات ، فإن هذه الحالة سوف تؤدّي إلى إصابتنا بهزائم متلاحقة .
إن من مشاكل كل أمة متخلفة أنها تبحث عن الجزئيات دون أن تربط بينها وتحوّلها إلى إطار واحد مشترك ، فالغالبية العظمى من الناس تكون تصوراتهم عن الحياة تصورات تجزيئية ؛ أي تصوّر الأشياء دون ربطها ببعضها .
ومشكلتنا نحن ـ المسلمين ـ تتمثل في أن معرفتنا بالقضايا السياسية والاجتماعية والدينية وما إلى ذلك ، هي معرفة متنافرة غير مجتمعة ضمن إطار واحد ، ولذلك فإن هذه المعرفة لا تعيننا على فهم الحياة .
ومما لا ريب فيه أننا نمتلك كوادر وأصحاب اختصاصات في مختلف العلوم ، ولكن أكثرهم علماء ، أمّا الذين أوتوا الحكمة ، وفنّ معرفة الحياة ، ومعرفة الخطوط العريضة فيها ؛ فإنهم لا يشكلون إلا أقلية هي أقل من القليل ، أما الغالبية العظمى فإنهم لم يحوّلوا معلوماتهم إلى رؤية وبصيرة ، وهذه هي المشكلة الرئيسية التي نعاني منها نحن المسلمين .
وبكلمة ؛ إن القرآن الكريم يعلّمنا فنّ الحياة الحرّة الكريمة ، وكيف نتعامل مع الأحداث المختلفة المحيطة بنا ، لذا يجدر بنا أن‏نتدبّر في آياته الكريمة ، ونتعمق فيها ، ونتدارسها لكي نستوحي منها برنامجاً ومنهاجاً متكاملين نستطيع من خلالهما أن‏نحصل على البرنامج الأفضل والأمثل في الحياة لكي نتمكن من الوصول إلى أهدافنا الحضارية المنشودة من أقصر السبل وأكثرها استقامة وصحّة ، ولكي لا نتيه ونضيع في متاهات الطرق الأخرى التي لا تزيدنا عن أهدافنا إلا بعداً وانحرافاً وضلالاً كما ابتليت بذلك الأمم والشعوب الأخرى ، ولم تعرف السبيل الأفضل في الحياة ، والطريق الأمثل‏لتحقيق الأهداف بسبب ابتعادها عن بصائر الرسالات الإلهية .

أصالة الحضارة

عندما اجتمع الكفار واستشكلوا على أهلية الرسول ‏صلى الله عليه وآله وسلم للرسالة متذرعين بأنه يتيم الأبوين ، ولا يمتلك من الأموال ‏والثروة ما يؤهّله لقيادة العرب ، أنزل اللَّه سبحانه وتعالى آيات بينات تؤكد على أن الرب الجليل هو مقسم الرزق بين‏العباد ، وأن الثروة ليست مقياساً للحق والباطل أو المجد والضعة ، وبالتالي فإنه لا يحق لأي إنسان أن يقرر على من يجب‏أن تهبط الرسالة ، لأن الرسالة أعظم مجد من الممكن أن يحظى به الإنسان ، وهي عطاء اللَّه تبارك وتعالى لخيرة عباده .
لقد قال الكفار في هذا المجال كما جاء في القرآن الكريم : ﴿ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ﴾ 1 ؛ أي على رجل عظيم من مكة أو الطائف ، فأجابهم اللَّه تعالى قائلاً : ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا ... 2 .

التفاوت ليس مقياس الافضلية

إن الدرجات التي يتفاوت بها الناس ما بين فقير وذي ثروة طائلة ، وأسير ومأمور ، وصحيح الجسم وسقيم . . . كل ذلك‏ليس دليلاً على أن اللَّه سبحانه وتعالى يفضلّ بعض الناس على بعض دون سبب ، بل هي تدبيرات إلهية لتنظيم حياة البشر . فاللَّه تبارك وتعالى وزّع المعادن فوق كوكبنا بحيث تمتلك بعض المناطق معادن لا توجد في المناطق الأخرى ،والحكمة في ذلك أن يحتاج الناس إلى بعضهم البعض ، وأن تتشابك مصالحهم ، ويتعاونوا في الحياة الدنيا .
ومع ذلك فإن رحمة اللَّه ، ورسالاته وقيمه خير من حطام الدنيا الذي يتكالب عليه أبناء البشر ، كما يشير إلى ذلك قوله‏ عز من قائل : ﴿ وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ 3 .
فلولا أن اللَّه يعلم أن حيازة الكفّار لمباهج الدنيا وزخرفها تؤثر في الناس ، وتجمعهم في ملّة الكفر ، لخصّهم بهذه النعم‏الزائلة ، كما يقول رسول اللَّه‏ صلى الله عليه وآله وسلم : ( لو كانت الدنيا عنده ( عند اللَّه‏ ) تعدل جناح بعوضة لماسقى كافراً به مخالفاً له شربة ماء ) 4 .

التطور لا يعني تفوق المذهب‏

إن تلك الآيات والأحاديث تؤكد قضية هامة ترتبط بالتقدم والتخلف ، فهناك الكثير من الناس عندما يرون التقدم‏التكنولوجي والعملي ، وتكدّس الثروات ، وتراكم الإمكانات في الغرب ينبهرون وينهارون أمامها ، فيقولون مستندين ‏إلى تصوّراتهم الخاطئة هذه : مادام اللَّه قد أعطى اليابانيين ـ مثلاً ـ هذه الأدمغة الممتازة التي صنعوا بها المخترعات‏الإلكترونية ، ومادام الأمريكيون يمتلكون قوّة هائلة ، ويبعثون بمركباتهم الفضائية إلى الكواكب البعيدة ، ومادام الروس ‏يتمتعون بقوة عسكرية هائلة يستطيعون بها تدمير الكوكب الذي نعيش عليه . . . فإن دينهم لابد أن يكون هو الأفضل ، وأخلاقياتهم وسلوكياتهم هي المثلى ، وعليه ؛ فلا مناص لنا من أن نخضع لمناهجهم ونتبعها!
إن هؤلاء يتجاهلون التشريعات الإلهية التي تقول أن التقدم المادي ليس دليلاً على سلامة المذهب والمنهج لسببين :

التقدم ليس محكوما بالارادة دائما

1. إن تقدم أمة ما ليس محكوماً بإرادتها فحسب ؛ فالهنود الحمر ـ مثلاً ـ لو لم يقعوا لسبب من الأسباب فريسة لمجموعة من العوامل الطبيعية والحضارية المختلفة لكانوا أكثر تقدماً من الشعب الأمريكي ، إلا أن الأخير وبسبب توفر العوامل الخارجية والذاتية فيه ، وبسبب هجرة العقول إلى تلك المنطقة ، وانعدام الضمير لدى المهاجرين الأوائل إلى‏أميركا استطاع أن يقطع أشواطاً طويلة من التقدم على حساب تخلف السكان الأصليين ، ولو كانت تلك العوامل قد توفرت لهؤلاء السكان لكان التقدم من نصيبهم .
وقد قرر علماء الحضارات أن شعوباً كانت أكثر ذكاءً ، وهمّة ، وسعياً ، وخلقاً فاضلاً ، وتعاوناً فيما بينها ، ولكنها مع ذلك لم‏تستطع أن تتقدم لعدم اكتمال أسباب وعوامل الحضارة عندها مثل انعدام الخصوبة في الأرض وما إلى ذلك ، في حين‏ توفّرت عوامل التقدم لشعوب أخرى .
فالإنسان الذي يولد في بلد نفطي تُهيّأ له أسباب المعيشة الرغيدة ، ويذرع بطائرته الخاصة عواصم العالم ، ثم ينسى رغم‏كل ذلك أن اللَّه جل جلاله هو الذي فجّر في أرضه الآبار البترولية ، فإنه لا يؤدي في الحقيقة واجب شكر هذه النعمة التي ‏تستلزم التقدم في سائر المجالات ، واستثمارها في تقدم العالم الإسلامي .

التقدم ليس خيرا دائما

2. ليس من الضروري أن يكون تقدم مجموعة ما خيراً لها ، فقدرتها على الوصول إلى القمر ، وتمكنها من صنع أكثر الأجهزة تعقيداً ، فكل ذلك قد لا يكون في صالحها بقدر ما هو ضرر لها . فقد تكون هذه الوسائل سبباً لدمار الإنسان‏وضياعه ، ودافعاً لابتعاده عن قيمه وذاته ، وبالتالي قد تكون معبراً لفساد ضميره ، فما قيمة إنسان بلا إنسانية ؟ إن من‏ينسى اللَّه سبحانه وتعالى ينسيه نفسه فيصبح كالأنعام ؛ لا يبحث في حياته إلا عن سراب وخيالات حتى تنتهي فترةبقائه فيعود إلى بارئه صفر اليدين ، كما يؤكد على ذلك تعالى في قوله : 5 .
وعندما ينبهر الإنسان بأصحاب الثروات ، والمسيطرين على الإمكانيات المادية ، ويركز جهده على الدنيا وما فيها ،فحينئذ تتهيأ نفسه لضلالات الشيطان كما يقول عز من قائل : ﴿ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ﴾ 6 . وكلمة ﴿ ... يَعْشُ ... 6 تعني تعامي الإنسان ، فمع أن عينه سليمة إلا أنه يتعامى ‏بمحض إرادته عن الرؤية . وإذا نسي القلب ذكر الرب ، وغفل عن المنعم ، وابتعد عن خلقه ، فحينئذ ستكون نفسه‏مسرحاًً وميداناً لعمل الشيطان الذي يكون له قريناً في الدنيا والآخرة .
وبمعنى آخر ؛ فإن أراد الإنسان الابتعاد عن آثار الإعلام والدعايات التضليلية ، فلابد أن يكون قلبه متصلاً بذكر اللَّه أبداً .

لنحذر التضليل الاعلامي‏

ومن المعلوم أننا الآن خاضعون لموجة هائلة من التضليل الإعلامي ، فينبغي أن ننتبه لذلك حتى لا نقع ضحية الإعلام‏ الاستكباري ، وذلك من خلال الاتصال قلبياً باللَّه تقدست أسماؤه دائماً وأبداً ، لأن الشيطان محدق بالإنسان ، فبمجرد أن‏يبتعد الأخير عن ذكر اللَّه ويغفل ، فإن الوساوس الشيطانية سوف تقبل عليه ، لتعشعش في نفسه ، وتبعده عن سواء السبيل ، وتوحي له بأنه على طريق الهدى كما يقول تعالى : ﴿ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ 7 .
وفي أيامنا هذه نستطيع أن ندرك خبث الإعلام وطبيعة مكائده ، فقديماً كان أعداء الإسلام في الشرق والغرب يشيعون‏أن الإسلام ضعيف ، وأنه قد انتهى ، ولم يعد بإمكانه أن ينظم مجتمعاً ويدير شؤونه أو أن يخلق واقعاً سياسياً ، ولا يمكن أن‏يكون فاعلاً في الساحة .
وعلى ضوء ذلك ؛ برزت في المجتمع الإسلامي تكتلات شرقية وغربية ؛ فالمتأثرون بالإعلام الشرقي كانوا يبثون‏ادعاءات تفيد أن الأفكار الإسلامية رجعية ، وداعية إلى التخلّف ، فدعوا الناس إلى الانتماء إلى أحزاب الكادحين ‏والبروليتاريا لزعمهم أنها قادرة على ضمان التقدم للعالم!
أما المتأثرون بالإعلام الغربي ؛ فكانوا يوحون بأن الأفكار الإسلامية إنما هي أفكار بالية قد أكل الدهر عليها وشرب ، وإن كان لابد من الإسلام فلنأخذ منه بعض الشعائر والطقوس ثم نكون بعد ذلك أحراراً في اقتصادنا وتجارتنا لنكون ‏في مستوى العصر!
إذا أردنا أن نتحوّل إلى مسلمين حقيقيين علينا أن ننبذ هذه الأطروحات والمشاريع التي تستهدف القضاء على‏الإسلام ، وحسر تأثيره في النفوس ، وأن نعود إلى ينابيعه الصافية المتمثلة في القرآن والسنة الشريفة ، وبذلك نستطيع‏اللحاق بركب الحضارة ، وإذ ذاك سنتحوّل إلى أمة فاعلة تمارس التأثير الأكبر في مسيرة الحضارة البشرية ، كما كان ذلك ‏ديدننا في العصور السالفة عندما كانت الشريعة الإسلامية في جانبيها العقيدي والتشريعي هي التي تدفع المسلمين إلى‏أداء دورهم في الحياة . وبالفعل فقد أدوا دورهم كأحسن ما يكون الأداء ، وإن المطلوب منّا الآن أن نحيي هذا الدور ، وأن نعود خير أمة أخرجت إلى الناس 8 .