تقيمك هو: 2. مجموع الأصوات: 62
نشر قبل 9 سنوات
القراءات: 9042

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

عقيدة النشور

لقد مات من غبر من الناس ، وسيفنى الموجود منهم ، وسيلحق بالقافلة من سيوجد بعد ، نعم وستطوى هذي الحياة وتنطمس معالمها وتعفى آثارها ، فهل هذه هي النهاية الأخيرة ؟
إذن فأين جلبة تلك الأحكام ؟ وأين قعقعة تلك الحجج ؟ .
الأحكام التي وضعها الشرع والحجج التي أقامها العقل وعضدتها الفطرة . .
إن الله حكيم . . . ولا حد لحكمته .
وإن الله عدل . . . ولا منتهى لعدله .
وان الله غني . . ولا منقطع لغناه . ولا مراء في ذلك كله . والله هو مشرّع الدين لهذا الإنسان . وفروض الدين إنما هي أوامره ، ومحرمات الدين إنما هي منهياته، وحدود الدين إنما هي حرماته . ولا ريب في شيء من ذلك كله أيضاً .
فلو قدرنا أن الموت هو النهاية . هو النهاية الكبرى ، التي ليست ورائها منقلب وليس بعدها مصير لخوى تشريع الله من الحكمة ولحاف عدل الله في الجزاء أو قصرت ملكته عن الوفاء .

وإذن فلا مناص من أن ننتظر وراء الموت منقلباً منقلباً آخر يوفى فيه المطيع ثواب إطاعته ويلقى المفرط جزاء تفريطه وتضييعه .
لا مناص لنا من أن ننتظر وراء الموت منقلباً يكون هو النهاية ، ما دام الدين حقاً لا مراء فيه ، وما دامت عقائده وهداياته صحيحة لا يسمو إليها ريب ، وما دام وجود الغاية الصحيحة هو الفارق بين الفعل العابث والفعل الحكيم .
نعم . وهذا ما عرفه منكروا البعث أنفسهم ، فإنهم لما أنكروا البعث أنكروا الدين ورفعوا حدوده وأبطلوا أحكامه .
وقد يقول إن الدين إنما هو شريعة شرعها الله للمجتمع الإنساني ، وحكمة الله من هذه الشريعة هي إقامة المجتمع على أمتن الأسس وأحكم القواعد ، ورفعه إلى أكرم مقامات الفضيلة وأكبر درجات الإنسانية ، وهذه الغاية الخطيرة دنيوية خالصة يفيدها المجتمع في حياته هذه متى سار على هدى الله الذي شرع واتبع وصاياه التي أمر بها . أما من يتردى مع هواه من الأفراد فيصدف عن أحكام الله ويتبع مساخطه ، أما هذا المتردي فيكفيه ببؤرته التي ينحدر إليها عقاباً وهواناً ، ويبعده عن الهدف الإنساني الأعلى حرماناً .
قد يقول هذا أحد لينكر أن الجزاء ضرورة لن تتم الشريعة إلا بها ، ولن تنهض الحكمة إلا عليها ، ولرد هذه الشبهة يكفينا أن نتذكر أن الوجهة الاجتماعية ليست هي الناحية الوحيدة التي يستهدفها دين الإسلام ، بل هي من الأهداف المهمة فيه وفي كل دين حق ، ولكنها ليست كل ما هنالك ، فقد عرفنا فيما تقدم كيف يتعهد الدين كل نواحي الإنسان وكيف يسع كل جهاته تقويماً وكل صلاته إحكاماً وكل صفاته إعلاءاً .
ومن ظواهر الإنسان أن آماله أوسع من حياته ، وهو يعلم بذلك حق العلم حين يفكر في تسلسل آماله وتعقد أسباب الحصول عليها . ومعنى ذلك أن كثيراً من هذه الآمال سوف لا يتحقق له لا في حاضره ولا في مستقبله ، وهي حقيقة يصعب على الإنسان جداً أن يذعن بها وأن يقر عليها ، ونتيجة ذلك أن ينطلق في شهواته انطلاقاً قوياً لا يقبل الحدود ، ليحقق لنفسه أوفر قسط يمكنه من الآمال . أن ينطلق هذه الانطلاقة الشديدة إذا هو لم يعتقد البعث ولم يخش أمامه جزاءاً ولم يحذر من ورائه رقيباً .
ومظالم العباد بعضهم بعضاً ، والدماء التي يسفكها السافكون بغير حق ، والحقوق التي يغتصبها الغاصبون بغير عدل ، والحرمات التي ينتهكها الظالمون دون مبرر. هذه الأمور التي اهتم الشرع بها فوضع لكل حادثة منها حداً ، وجعل على كل من يتعدى ذلك الحد حدً ؟ كيف تصان هذه الحدود وكيف تستوفي هذه المظالم إذا نحن لم ننتظر للعدل الأعلى يوماً ، ولم نتوقع لاستيفاء التبعات موقفاً ؟ ويد العدالة في هذه الحياة الدنيا قد لا تستطيع أن تنال الظالم بشيء وقد لا تملك أن تدينه بتبعة .
وبعد فما أنكل الأفراد من عامة الناس عن إلتزام القانون والقيام بحدوده والمحافظة على تعاليمه متى علموا أن الغاية فيه إنما تخص المجتمع أو تخص النوع ، ولا غاية فيه للأفراد ولا رعاية لآحادهم وما أقصر القانون في الملاحظة إذا كان يهدر الفرد إهداراً تاماً لمصلحة المجتمع أو لمصلحة النوع .
وأخيراً فما أبعد القوانين عن غاياتها إذا لم تكلأها عين حارسة على التنفيذ ، وعقوبة محذورة على المخالفة ، ما أبعد القوانين عن غاياتها إذا لم تكن لها تلك الرقابة الحازمة من بين يديها ، وهذه القوة المرهوبة من خلفها . إن أحكامها لو لا هاتان ستنقلب نصائح خاوية ، وإن حكمتها ستتحول فلسفة صامتة . وكم في العالمين من يؤمن بالمثالية لأنها مثالية ، ومن يحذر الاسفاف لأنه اسفاف .
نعم لا بد لاحترام القانون من الجزاء .
ولا بد للحث على عمل الصالحات من المكافأة .
ثم لا محيص من يوم للدينونة تقاس فيه الأعمال وتنال فيه الغايات وتستوفى فيه التبعات : ﴿ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ 1 .

أهواء تتحكم

كما يحتكم الطفل الصغير في ما بيديه من اللعب ، كما يقيس الأشياء ما يجهل منها بما يألف ، يستحب بعض الناس أن يحتكم ، ويؤثر أن يقيس !
يؤثر أن يصنع كذلك حتى في ما يهمه من الأمور ، وحتى في ما ينذره من المخاطر ! .
إن هؤلاء لا زالوا أطفالا وان كبروا وشاخوا ، وحلومهم وأقسيتهم لم تبرح بعد أطفال الحلوم وأطفال الأقسية .
وقد تناول هذا الفريق عقيدة البعث فيما تناوله من الأمور، فلم يبتعد عن هذه الحدود ، ولم يتنكب عن هذه الخطة .
قالوا : نجد الأنام يموتون ثم لا يعودون إلى الحياة ، ومن مات من الأنام رمت عظامه وتوزعت أشلاؤه . حتى تصبح العين منه أثراً ، وحتى يعود الأثر عدماً .
وإذن فلا حياة بعد الموت ولا اجتماع للأجزاء بعد التفرق .
بعيد . بعيد ، ومحال محال أن يحدث ذلك وأن يتحقق . لأننا لم نبصر بمثله أبداً ، ولم نعهد وقوعه في سوالف القرون : ﴿ قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ 2 .
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ 3 ﴿ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ ... 4 .
بعيد ومحال أن نبعث بعد الموت ، وكيف حياة الأجسام وقد عادت هباءاً ؟ وكيف تأليف ذراتها وقد ذهبت في فجاج الأرض أشتاتاً ؟ ومن هذا العليم بموضع كل ذرة القدير على رد كل هباءة ،الخبير بحصة كل عضو منها عند التركيب وبمكان كل واحدة منها قبل التفرق ؟
من هذا القادر المحيط ليرد الأجزاء المتباعدة جسماً،ويعيد الجسم التالف حياً ؟ : ﴿ وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ... 5 ويفتنون في احتجاجهم كثيراً ويذهبون بعيداً إذ يقولون : ﴿ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ * فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ 6 وكأنهم في قولتهم هذه يحذرون موتة ثانية فهم ينكرون من أجلها حياة ثانية!وحجتهم هذا التعجيز التافه : فأتوا بآبائنا .
أتدّعون أن الموتى ينشرون لحياة ثانية ، ينشرون بعد موتتهم الأولى ؟
أتقولون هذا جادين غير هازلين ؟
إن هذه دعوى غير عسيرة البرهان . فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين .
أحيوا لنا من غير من أسلافنا لنعرف مبلغكم من الصدق .
وقد جمع القرآن كثيراً من أقاويلهم وعرض أنواعاً من حجاجهم . ولعله إنما عني بذلك ليرى الإنسان سقطته في التفكير إذا جمح به التعصب .
متى كان الألف قاعدة ثابتة تحكم بموجبها الأشياء وتناط بها صحة العقائد ؟ !
ثم متى كان الاستبعاد دليلاً على الاستحالة ؟ !
لقد كان المرء جنيناً في بطن أمه ، وكان قبل ذلك نطفة وعلقة . أ فليس من المضحك أن يقول وهو في تلك الأدوار ـ ولنفرضه هناك عاقلاً له رأي وله قول ـ أ ليس من المضحك أن يقول في تلك الأدوار: ليس لي مستقبل يأتي وراء هذا الحاضر ، لأني لم أجد أثراً لهذا المستقبل ؟ . أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه ؟
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ 7 بعد تمزقها بالموت وصيرورتها رميماً فهو لهذا الحسبان ينكر البعث ويحيل وجوده ويجحد توابعه ؟
إن كان هذا هو حسبانه وهذه هي تعلته فقد اخطأه الوهم وأضله التعليل .
ولم لا نجمع عظامه ؟ ولم يخال هو ذلك ؟ ولم ينكر قدرتنا عليه ؟
﴿ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ 8 .
أرأيت البنان بدقة تركيبها وبراعة تصويرها ، حتى لا تجدها في إنسان تشبهها في إنسان آخر ؟ أرأيت البنان بخطوطها ومدوراتها ومميزاتها ؟ إننا قادرون على أن نسويها بعد العدم ونضم اجزائها بعد التفرق ، حتى ليست تختلف عن وجودها الأول في مادة ولا في شكل ولا في مقدار .

هكذا يجيبه القرآن على حسبانه

إنها دعوى تقرع بدعوى . و لكن دعوى القرآن ليست مجردة عن الدليل ، فلقد علم الإنسان بفطرته أنه له خالقاً سوّاه بعد العدم فلن يشك أبداً في قدرة ذلك الموجد ، وليس أدل على القدرة من الإيجاد ، إذن فلا مسرب لذلك الوهم إلى يقينه ، وإن ذهب وهمه إلى فهو وهم زائل غير مستقر ، تذهب به وبآثاره لفتة واحدة لمظاهر القدرة الموجودة ، فليس وهماً ثابتاً يوجب الحيرة للإنسان ، ولم يكن هو العلة المباشرة لإضلاله .
﴿ بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ 9 لهذه البغية ينكر الإنسان النشور وينكر الجزاء وينكر توابعهما ولوازمهما . يريد لينطلق في فجوره ، و يمعن في غروره فلا يلذ له أن تقيد إرادته شريعة أو تحول دون شهواته عقيدة . يريد ليندفع مسعوراً منهوماً فلا يلقى أمامه رقيباً من دين ، ولا يخشى من ورائه حسيباً من جزاء ، فهو يختلق الوهم ويجحد البعث، و إذا لم يكن بعث فلا جزاء ولا حظر ولا خشية ولا رقابة. من أجل هذا القصد ينكر الإنسان النشور وما يتبع النشور .. ﴿ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ 10 .
يسأل هكذا كمن لا يعنيه من أمر القيامة شيء ، وكأن مواقف هذا اليوم العظيم وشدائده إنما أُعدت لسواه ، أو كأنه خرافه يسأل عنها للتندر ، ويتعمد ذكرها لّلمز .
هذه خطة المرء حين تناول عقيدة البعث في التفكير .
وحين فلسف إنكاره فهل ارتفع عن هذه الخطة ؟.
الواقع انه لم يستطع ذلك وأن ادعاه وأصر عليه وأمعن في إصراره .
أنكر الروح لينكر بقاءها بعد الحياة ثم عودتها إلى الجسم بعد الموت .
وأنكر اتساع العناصر الموجودة في الكون لحياة أخرى بعد انقضاء الحياة الأولى . وأحالها لأوهام دارت على لسان القديم وعدّلت في فكرة الجديد .
صنع كل هذا ليبث أن موت الإنسان هو منقلبه الأخير . ثم أخرسه أن قام العلم . العلم التجريبي الحديث يذري شبهاته واحدة واحدة .
أما بعد فإن الدلائل التي أثبتت ضرورة وجود الدين ، أثبتت ضرورة النشور وضرورة الجزاء ، لأن الدين لن يكون صحيحاً إذا لم تتحقق له غاية .
وان الشواهد الكثيرة التي أبانت صدق الإسلام أبانت كذلك صدق هذه الدعوى ، لأنها أصل من أُصوله وركن من أعظم أركانه .
وإن الكتاب الذي دل بإعجازه على نبوة محمد (ص)، وعلى صدق دعوته دل بإعجازه أيضاً على صحة هذه العقيدة لأنه أعلن بها في أكثر سوره ولمح إليها في أغلب آياته .

وبعض الكتّاب يقلّل من جدوى هذه العقيدة

ويحاول بعض الكتاب أن يقلل من جدوى هذه العقيدة . عقيدة الجزاء الأخروي . يحاول أن يقلل من جدواها ، ومراده بالطبع أن يتخذ من ذلك وسيلة لانكارها . يقول : (( إن الدوافع التي يستعين بها هذا الضمان أقل تأثيراً من الدوافع التي يتأثر بها السلوك من ناحية رقابة الرأي العام . لأنه يعتمد على جزاء وعقاب مؤجلين ، وقد يتعرضان للشك في قيام الميزان الذي سيحاسب الناس به )) .
كذا يقول هذا الكاتب ، وهو يفرض شيئاً غير ما تفرضه الأديان في عقيدة الجزاء، وغير ما يفرضه دين الإسلام منها بالخصوص .
إن الإسلام يفرضها عقيدة يقينية ثابتة راسخة لا بد من الاستيقان بها ، ولا بد من الإيمان الموطد المؤكد قبل التوجه لأي عمل تأمر به الشريعة ، وقبل العزيمة على أي سلوك ينصح به الدين . . عقيدة يقينية ثابتة جحودها يوجب الكفر، والامتراء بها يقتضي الخروج عن الدين واستحقاق العذاب المهين . ونصوص القرآن والسنة تتعهد تنمية هذه العقيدة وترسيخها وتوجيه المشاعر والعواطف نحوها، وهي تكرر هذا وتفتن في تكراره وفي ربط الأحاديث به عند ذكر كل حكم وعند تقديم كل إنذار. فلن يغفل المسلم أبداً ولن يشك ولن يجحد . وإذا كان العقاب مؤجلاً فإن فكرة هذا العقاب ورقابة المحاسب العظيم الذي لا يغفل لحظة ، ودقة الكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة . والضمير اليقظ الواعي الذي أيقظته هذه العقيدة وأرهفت حسه وأطلقت حكمه ، كل هذه تراود فكرة المسلم في كل آن وتحاسب إرادته عن كل خطوة .
فمتى تكون الغفلة إذن ، ومتى يكون الشك ؟ .