الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

معالم النفاق

بادئ ذي بدء لابد من ان نستعرض حقيقة مهمة في ظاهرة النفاق ، ألا وهي ان النفاق يعد من الظواهر الاكثر خفاء في حياة الإنسان والمجتمعات . فلابد ان تكون هنالك رؤية واضحة لدى الامة الإسلامية وقيادتها ، من اجل ان تستطيع اكتشاف وتشخيص هذه الظاهرة الخفية الخطيرة ، ومعرفة خطوط النفاق ، وعناصره ، و اساليب المنافقين . وفي نفس الوقت فان على كل انسان مؤمن ان يمتلك رؤية واضحة ، وبصيرة نافذة يتعرف من خلالهما على صفات المنافقين ، لكي لا يتورط في ممارسة هذه الصفة المريضة الذميمة متوهما انه بعيد عنها .

لابد من رؤية واضحة

ولان آثار النفاق لا يمكن ان تظهر على الإنسان بشكل واضح وملموس ، فلابد من ان نزوّد انفسنا برؤية واضحة لتمييز واكتشاف النفاق على مستوى الفرد والمجتمع . والقرآن الكريم يزودنا بهذه الرؤية سواء كنا نمثل قاعدة ام قيادة ؛ وسواء كان النفاق يمثل صفـة او ظاهرة ، او كان يمثل طبقة اجتماعية معينة . وقد قال ربنا عز وجل :
﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ * لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ * وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَٰكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّىٰ جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ 1.
وقبل ان نبدأ بتفسير هذه الآيات الكريمة يجدر بنا ان نقول اننا لا نستطيع ان نفهم القرآن بمجرد ان نعرف رؤاه ، بل يجب ان نطبقه على واقعنا الاجتماعي الذي نعاصره ، وان نطبقه ايضاً على واقعنا كأفراد لكي نفهم هذا الواقع من خلال القرآن .

المؤمن في أهبة الاستعداد

في البدء يقـول القرآن الكريم عن المنافقين : ﴿ لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ﴾ 2، وهذا القول يعني ان المؤمن الحقيقي يعيش دائماً حالـة الانذار والاستعداد . فهو ممتلئ بروح الجهاد والعمل المستمر ، ولا يحتاج إلاّ الى مجرد توجيه بسيط من الرسول صلى الله عليه وآله ، ومن القيادة الشرعية لكي يتحرك للجهاد .

ان النبي صلى الله عليه وآله لا يحرك المؤمنين ، لانهم متحركون ومتحمسون للجهاد بذاتهم . ولذلك فانهم لا يتملصون من المسؤولية ولا يتقاعسون ولا يستأذنون القيادة في الجهاد ، بل يندفعون اليه اندفاعاً . فالجهاد بالنسبة الى المؤمنين اشبه شيء بالطاقة الكهربائية الموجودة دائماً في الاسلاك المتصلة بمصدر هذه الطاقة ، فما علينا إلاّ ان نوصل رؤوس هذه الاسلاك مع بعضها لكي تنفجر وتنبعث تلك الطاقة . فالإنسان المؤمن هو طاقة بحد ذاته ، وهو يميل الى الجهاد دائماً .

المنافق متقاعس

اما الإنسان المنافق فهو على العكس من ذلك تماماً ، فأنت بحاجة الى ان تدفعه دفعاً جديداً كلما وجهت له أمراً جديداً . فهو لا يمتلك في نفسه طاقة ذاتية للتحرك . والاسوء من ذلك انه يريد دائماً ان يبرر تكاسله وتقاعسه عن الجهاد بأن يجعل عليهما غطاء من التبرير الشرعي ، ولذلك فانه لا يكتفي بعدم القيام بالعمل الجهادي بل يريد ايضاً ان يبرر عدم قيامه هذا بالسؤال والاستئذان . فلا يريد ان يجاهد ولا يريد ان يطيع اوامر رسول الله صلى الله عليه وآله . والادهى من ذلك انه يريد منه صلى الله عليه وآله ان يوافقه على تقاعسه ، وتبريره لتكاسله . وهذه صفة مقيتة تميز بين المنافقين والمؤمنين .

الاستئذان ديدن المنافقين

وعن المؤمنين والروح الجهادية لديهم يقول القرآن الكريم : ﴿ لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ﴾ 2. في هذه الآية تعريض الى الذين يستأذنون على اعتبار انهم لا يؤمنو بالله واليوم الاخر ، ولذلك فانهم يطلبون الاذن . وهذا ما يشير اليه تعالى في قوله : ﴿ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ﴾ 3. فهم عندما يصلون فانهم لا يصلون عن ايمان ، وعندما يعطون الزكاة فانهم لا يعطونها بدافع من اليقين ، وهكذا الحال عندما يشتركون في العمل الجهادي . . فاعمالهم كلها تتقلب بين الريب والشك .
ويبدو لي أن هذه الصفة ليست هي المعيار الاساس في تمييز الفئة المنافقة عن غيرها ، بل اننا نستطيع على ضوئها ان نميز حالات النفاق عن الحالات الاخرى . فالإنسان لا يبقى على مستوى واحد ، ومن الخطأ ان نتصور ان احدنا اذا اصبح مؤمنا بالله تعالى ، وادى الصلاة بشكلها الصحيح ، وزكى امواله ، وصدق مع الاخرين ، وكانت جميع اعماله مستوحاة من الإسلام ، فانه قد اصبح مؤمناً صادقاً ، ووصل الى حقيقة الإيمان . فالإنسان له في كل يوم شأن ، بل هو يتغير مع مرور الساعات . فقد يكون في فترة من الفترات مؤمناً صادقاً مخلصاً ، واذا به يتحول بفعل الظروف والمفاجآت التي تحدث في حياته الى منافق من الدرجة الاولى ـ لا سمح الله ـ وهو لا يشعر بذلك . ذلك لانه لا يمتلك مقياسا لتشخيص حالة النفاق ، وتمييزها عن الصفات الاخرى ، واذا ما امتلكه فان كبرياءه لا تسمح له بان يطبق هذا المقياس على نفسه .

ضرورة المحاسبة الذاتية

ومن هنا وردت الروايات الكثيرة عن الائمة المعصومين عليهم السلام لتؤكد على ضرورة المحاسبة الذاتية يومياً ، بل وفي كل يوم مرات . ففي هذا المجال يقول الامام أمير المؤمنين عليه السلام : " ليس منا من لم يحاسب نفسه كل يوم فان عمل خيراً حمد الله واستزاده وان عمل سوء استغفر الله " 4 . فالإنسان الذي لا يحاسب نفسه في كل يوم مرة على الاقل ، ولم يعرض نفسه على المقاييس الصحيحة بخصوص الإيمان والنفاق ، والصلاح والفساد ، فانه ليس من الدين في شيء .
وهكذا فان صفة ( الاستئذان ) والتكاسل عن العمل الإسلامي بمجرد تلقي الأوامر ، بل والاسوء من ذلك محاولة اقناع المتشرعين والفقهاء بأن يضعوا للانسان المتقاعس حلاً شرعياً لاعماله الفاسدة ، هي من صفات المنافقين التي نستطيع من خلالها ان نميز حالاتهم عن حالاتغيرهم .
ومن الملاحظ ـ وللاسف الشديد ـ ان كثير من الناس يفتشون عن دين تهواه انفسهم . لذا تجدهم لا يرغبون في قيادة حازمة تأخذهم بالشدة والصعوبة ، بل يبحثون عن قيادة ضعيفة بحيث تجعلهم يسترسلون في اهوائهم ورغباتهم ، وتبرر لهم تملصهم من مسؤولياتهم وتقاعسهم عن اداء مهماتهم الرسالية . . وهذه هي العلاقة الفارقة بين الإنسان المنافق وغيره ، و علينا ان نحول هذه الميزة الى رؤية لاكتشاف الفئة المنافقة في المجتمع ، وان نعوّد انفسنا على استخدام ذات هذه الرؤية لاكتشاف نفاقنا في بعض الاوقات . واذا ما اكتشف أحدنا انه مؤمن ،صادق ، مخلص . . فليحذر من ان يعجب نفسه ، ويصيبه الغرور . فمن الممكن ان يتحول غداً الى انسان منافق ، فعليه ان يحاسب نفسه ، ويعيد النظر فيها بين الحين والآخر .

التبرير علامة النفاق

ثم يحدثنا القرآن الكريم عن صفة اخرى من صفات المنافقين ، والتي تميزهم عن المؤمنين الصادقين : ﴿ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَٰكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ﴾ 5.
فمن الناس الذين يمكن ان نضمهم الى فئة المنافقين اولئك الذين لا يعملون من اجل ان يربوا انفسهم على بعض الصفات التي تعينهم على القيام بدورهم الرسالي في الحياة . فالإنسان لا يمكن ان يصبح مبلغاً ، وعاملاً رسالياً في المجتمع إلاّ إذا كان أديباً او شجاعاً و معروفاً بين الناس ، وهذه الصفات يستطيع الإنسان الرسالي ان يوظفها في سبيل الدعوة ، وفي سبيل تبليغ رسالات الله .
ان الإنسان الذي يتهاون في اداء المقدمات رغم سهولتها يتهاون عن تربية نفسه و اعدادها للقيام بدورها الآتي . فانه عندما يكلف من قبل القيادة الشرعية للامة بعمل ما ، تجده يختلق الأعذار والتبريرات كقوله ـ على سبيل المثال ـ : أنا لست اديباً وهذا العمل يحتاج الى معرفة بالادب . . أو أنا لست مقاتلاً لانني لم ادرب على السلاح . .
والحق ان المنافقين لو كانوا صادقين في استئذانهم لكانوا قد اعدوا العدة في ايام الرخاء لايام الشدة ، ولذلك تراهم يلجؤون الى التبريرات عندما تحين ساعة الجهاد والبذل والعطاء .
اما المؤمن الصادق فان ديدنه اعداد نفسه لكل خدمة ، لانه يحبها ويفتش عنها دائماً . فهل يمكن للانسان ان يخوض غمار الجهاد دونما تدريب ؟!
اننا جميعاً نتمنى ان نحارب بين يدي الامام الحجة عجل الله فرجه ، ولكن هذه الامنية يجب ان تكون مسبوقة بالتدريب والاستعداد ، والعدة التي وردت في قوله تعالى : ﴿ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً ... 5. تعني التدريب الذاتي بالسلاح ، وبالاعداد الروحي والنفسي .
غير ان المنافقين لم يوفروا في انفسهم ذلك ، لذا قال الله عز وجل عنهم : ﴿ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَٰكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ﴾ 5. فلانهم لم يستعدوا ، ولم يتهيؤوا للعمل الرسالي فان القرآن الكريم يقرر انهم ليسوا اهلاً لها ، وذلك لان للعمل في سبيل الله فضل لا يناله كل انسان ، بل يتشرف به الشخص الذي احبه ، وجاهد في سبيله ، وهيأ نفسه له . فهو وحده الذي يوفقه الله عز وجل له . اما الإنسان الذي يمن بعمله على الله جل وعلا سوف يضل ضلالاً مبيناً .

أولئك هم المنافقون

وهكذا فان القرآن الكريم يتحدث عن الطبقة المنافقة ، ويزود الامـة المجاهدة المخلصة بالرؤية الواضحة ، فيقول ذاكراً صفات اخرى للمنافقين : ﴿ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ 6.
فالقرآن الكريم يحذر من الاتصال بالفئة المنافقة ، ويوصي بإبعادها وطردها من بين المؤمنين ، مقرراً ان المؤمنين ـ مهما كان عددهم قليلاً ـ هم افضل من المنافقين ولو كان عددهم كبيراً . .
فالمنافقون من شأنهم ان يعيقوا طريق المؤمنين ﴿ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ ... 6فهم يريدون تشكيل جبهة داخلية ضد المؤمنين الذين كثيراً ما نرى بعضهم سماعين لإشاعات وأراجيف المنافقين .
ومن ثم يقول ربنا جل وعلا : ﴿ لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّىٰ جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾ 7.
فعلى الامة الإسلامية ان لا تنخدع بهذه الفئة التي تعلن الحرب دائماً ضد الإسلام باساليبها الخبيثة ، بمجرد ان تقوى شوكتها وتجد في نفسها شيئاً من القوة ؛ وذلك من خلال لبس قناع الدين ، والنفوذ في اوساط المؤمنين ، وهدم الإسلام من الداخل .
وفي آية اخرى يخاطب عز وجل المؤمنين قائلاً : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا ... 8فلا ينبغي للانسان المسلم ان يطلب من القيادة ان تخفف عنه الاحكام الدينية . فأوامر الله لا يمكن ان تتبدل ، وفي هذه الحالة سنكون قد انهزمنا نفسياً ، ولم نهيىء انفسنا لتطبيق احكام الشريعة . وبدلاً من ذلك لابد لاحدنا ان يوحي لنفسه منذ اللحظة الاولى بالشجاعة ، والعزم ، والتصميم ، وان يعمل بما انزل الله جلت قدرته ، ويطبق احكامه على الواقع العملي . وبهذه الصراحة والثقة بالذات ينبغي ان ننطلق في اعمالنا .
والقرآن الكريم يصف المنافقين بانهم يريدون ان يجعلوا من الدين تبعاً لأهوائهم ومصالحهم وشهواتهم وتبريراتهم . والقرآن يتحدث عن صفاتهم هذه قائلاً : ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي ... 9. وهنا يقرر الخالق عز وجل ان مجرد الاستثناء وطلب الاستئذان والتخصيص من دون الاخرين انما هو فتنة يبتلى الإنسان من خلالها ، وينكشف نفاقه عبرها . ولذلك يعلق القرآن على تبريراتهم تلك قائلاً بكل حزم وتحذير يشعر بنزول العذاب القريب : ﴿ ... أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا ... 9.
وفي الحقيقة فان الإنسان عندما يبدأ باختلاق الحجج الواهية ، والتبريرات السخيفة من اجل ان يخفف عن كاهله اعباء ومسؤوليات الرسالة ، فانه سوف ينجرف في تيار النفاق والانحراف ، لتحيط به في يوم القيامة نار جهنم كما يشير الى ذلك تقدست اسماؤه في قوله : ﴿ ... وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ 9.

ضرورة اكتشاف ظاهرة النفاق

وخلاصـة القول ؛ فان من الضروري ان نكتشف ظاهرة النفاق المرضية بجميع ااقسامها واشكالها ، سواء على مستوى الجماعات ام الافراد ، ام على صعيد ظاهرة النفاق نفسها كصفة سلبية لها جوانبها وحالاتها وابعادها الخاصة بها .
ولذلك فان من الواجب ان تمتلك الامة الإسلامية رؤى تمكنها من معرفة الفئة المنافقة وتمييزها عن الفئة المؤمنة ، كما ان من الضروري ان يمتلك الفرد المؤمن نفس الرؤية لكي يكتشف حالات النفاق التي يبتلى بها هو نفسه بين الحين والاخر . والآيات القرآنية السابقة تمكننا اذا ما درسناها دراسة وافية في تزويد انفسنا بتلك الرؤية التي تعتبر الان مهمة اكثر من اي وقت مضى ، نظراً لكثرة المتقاعسين والمتملصين من المسؤوليات والمهام الرسالية .

حقيقة النفاق

في الآيات التالية من سورة البقرة يفصل لنا الله سبحانه وتعالى القول عن طائفة اخرى من الطوائف الإنسانية المختلفة بعد ان يحدثنا عن المؤمنين المتقين ، ثم عن الكفار ؛ ألا وهي طائفة المنافقين ، الذين يعرفهم بكلمة ثم يبين صفاتهم بان يقول انهم هم الذين يدعون الإيمان بالله تعالى واليوم الاخر . . . ولكنهم يضمرون الكفر .
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ 10.
وهذا التقسيم القرآني الذي يبين لنا الله تبارك اسمه عبره صفات المؤمنين المتقين ، والكفار الجاحدين ، ثم المنافقين هو البديل المبدئي عن التقسيمات القومية والاقليمية وما الى ذلك من تقسيمات لا يعترف بها الإسلام والقرآن . ولعل هذا هو السبب الذي جعل القرآن يستخدم تعبير ﴿ وَمِنَ النَّاسِ ... 10؛ اي ان الناس على ثلاثة اقسام : المتقين ، والكفار ، والمنافقين الذين يعتبرون البرزخ بين الطرفين .

تعريف المنافق

وربما يتبادر الى الاذهان في هذا المجال التساؤل التالي : لماذا لم يقل تعالى : ومن الناس المتقون ، او الكفار ، او المنافقون ؟
والسبب في ذلك ان وجود المتقين في المجتمع هو شيء ظاهر كوجود الكفار ، إلاّ ان الامر الذي يحتاج الى بيان وايضاح هو وجود الإنسان المنافق في المجتمع . لان الكافر لا يستطيع ان يخفـي كفره ، والمتقي يكون واضح التقوى . في حين ان المنافق الذي يستمر كفره بغلاف من ادعاء الإيمان ، فان القرآن لابد ان يفضحه .
لذا قال ربنا جل وعلا : ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ ... 10. اي ان الإيمان الذي يدعيه هؤلاء المنافقون هو ايمان شامل ، فهم لا يدعون الإيمان بالله تعالى وحسب ، بل يزعمون انهم يؤمنون باليوم الآخر ايضاً . ومن المعلوم ان الإيمان باليوم الآخر هو الإيمان الذي لابد ان تظهر آثاره على اعمال وسلوك الإنسان .
ولذلك فان الله جلت قدرته يستعمل كلمة الإيمان ولا يقول : اسلمنا ، لان هناك مسافة بين الإسلام والإيمان . فالإسلام ـ في ظاهره ـ هو الخضوع للهيمنة الإسلامية ، والسلطة الدينية كما تشير الى ذلك الآيـة القرآنية التاليــة ، مميزة بين الإسلام والإيمان : ﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ... 11.
وهكذا فان الإسلام هو مجرد الاعتراف بالسلطة ، والحكومة الدينية . وهذا هو ادنى مراتب الدخول في الدين ، اما المراتب الإيمانية العليا فهي تلك التي يشير اليها الامام علي عليه السلام في قوله : " لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبها احد قبلي ولا ينسبها احد بعدي ؛ الإسلام هو التسليم " 12 . فالإسلام هو التسليم ، اما ادنى مراتب الإسلام فهو الاعتراف بالسلطة الدينية .
وعلى هذا فان ادعاء الإيمان هو الادعــاء العظيم الذي لابد ان يثبته العمل ، ولذلك يقول عز من قائل : ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ 10. وهذا هو التعريف الموجز للمنافقين .

الخداع اصل النفاق

وتعتبر صفة الخداع من أهم وأبرز صفات المنافقين ، بل ان الخداع هو اصل النفاق ، لان القرآن الكريم يقول : ﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ 13اي انهم يحاولون خداع الله تعالى وخداع المؤمنين ، ولكنهم لا يخدعون إلاّ انفسهم .
وعلى هذا فان صفة الخداع هي جذر صفات المنافقين ، الذين تتفرع منه سائر الصفات . فهم يحاولون خداع رب العالمين ، وحتى في يوم القيامة نرى بعض هؤلاء المنافقين الذين يحملون صفة النفاق من الدنيا الى البرزخ ، بل وحتى في يوم الحشر يحلفون لله تعالى كذباً ، وهوشاهد عليهم .
ومع ذلك فان المنافق الذي يحاول خداع الطرف الاخر ، فانه يبتلى ـ في الواقع ـ بالخداع الذاتي ، لان الناس لا يقبلون منه خداعه . ولكنه ولكي يثبت خداعه ، فانه يبحث لنفسه عن بعض الادلة الواهية التي تتراكم في ذهنه بمرور الزمن وبشكل تدريجي حتى تتحول الى قناعة كاذبة .
ان هذه المحاولة ـ محاولة خداع الاخرين ـ انما تتحول الى خداع ذاتي للسبب التالي الذي سنحاول ان نوضحه من خلال ضرب هذا المثال :
عندما تريد ان تقنع شخصاً ما بان ما في القدح الذي في يدك هو عصير برتقال وليس ماء ، فانك ستقول له ان هذا السائل الذي في القدح هو عصير ، او ماء مضاف ، او ماء برتقال . ولكي تثبت ادعاءك هذا فانك ستحاول ان تبحث عن دليل فتقول له ـ على سبيل المثال ـ ان عصير البرتقال ليس برتقالي اللون ، بل هو عديم اللون . فيقول لك الطرف المقابل ان عصير البرتقال برتقالي اللون . وكذلك تقول له ان هناك نوعا من البرتقال في بعض بلدان العالم عصيره عديم اللون ، فيجيبك : ولكنه يفقد الطعم . فتقول له : نعم ولكن حاسة ذوقك مخطئة ، فيشرب وهو يوحي الى نفسه ان فيه طعم البرتقال . وهكذا تحاول ان تقنعه بشتى الادلة بان الذي يشربه هو عصير البرتقال وليس ماء .
وهكذا تتراكم الادلة حتى تقتنع انت من الناحية النفسية بان السائل الذي في القدح هو فعلا عصير برتقال ، في حين ان الطرف المقابل اكتشف منذ البداية انك غير صادق فيما تدعي ، ولكنك شيئا فشيئا تورطت واصبحت اسير كذبك .
وفي هذا المجال تروى قصة لطيفة تقول ان شخصين اتفقا على ان يدعيا للناس ان احد المواضع مدفون فيه احد ابناء الائمة عليهم السلام ، فأصبح احدهم سادناً ، والاخر خادماً . فما كان من اهل القرية الا ان التفوا حول هذا الموضع بسبب بساطتهم وسذاجتهم ، وبالطبع فانهم في هذه الحالة مثابون لانهم فعلوا ذلك بنيات صادقة ، واهداف زاكية . وعندما جمع الاهالي مقداراً من المال ، واعطوه لذينك الشخصين ، اختلف هذان الشخصان على المال ، فقال احدهما ؛ لي ثلثاه باعتباري سادناً ، ولك الثلث لانك خادم . اما الآخر فقد قال : لقد اتفقنا منذ البدء على المناصفة ، فلابد ان يكون لكل منا نصف المال . واذا باحدهما يحلف للآخر قائلاً : بحق المدفون في هذا القبر فان هذا المال لي . فضحك الآخر وقال : واي مدفون تقسم به ، ان هذا القبر الوهمي ليس فيه اي احد ! وهكذا و بسبب تكراره الكذب على الآخرين اقنع داخلياً بسلامة وصحة كذبه .
والملاحظ ان القرآن الكريم في الآية السابقـة لم يقل ( و ما يعقلون ) ، بل قال ﴿ ... وَمَا يَشْعُرُونَ 13، لان الشعور ادنى من العقل . فالإنسان الذي يكذب على الآخرين ثم يصبح هو نفسه اسير كذبته بسبب كبريائه وغروره ، واخذ العزة له بالاثم ، فانه لا يمتلك العقل فحسب ، بل انه لا يمتلك الشعور ايضا نتيجة لهذا الخداع الذاتي .

حقيقة النفاق

وبسبب شذوذ هؤلاء ، وانحراف مسيرتهم ، فان جميع ابعاد حياتهم سوف تنحرف كعلاقتهم بانفسهم ، وعلاقتهم بالطبيعة من حولهم ، وعلاقتهم بالله تعالى وبالناس . . فكل هذه العلاقات سوف تنحرف عن مسيرتها الصحيحة .
ثـم يقول ربنـا عز وجل : ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ... 14. وقد جاء في الروايات ان هذا المرض هو مرض الشك ؛ اي ان في قلوبهم شكاً ، فزادهم الله سبحانه شكاً الى شك .
ويبدو لي ان هذا المرض ليس مجرد الشك ؛ فالسبب الحقيقي للنفاق هو ان الإنسان عندما لا يستطيع ان يواجه وضعاً اجتماعياً معيناً مواجهة شجاعة فانه يلجأ الى النفاق . فلو كان المنافقون يمتلكون شجاعة وثقة بالذات ، لدخلوا اما في صف المتقين والمؤمنين ، واما فيصف الكفار . ولكننا نراهم مذبذبين لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء ، يريدون ان يكتسبوا خيرات المؤمنين ، وان لا يحرموا ـ في نفس الوقت ـ من مكاسب الكفار . وهذا التذبذب ان دلّ على شيء فانما يدلّ على وجود مرض في قلوبهم هو مرض الجبن ، والانهزام النفسي ، والاستسلام للواقع الاجتماعي دون ان يجرؤوا على تحديه .
وهذا المرض يزداد و يتفاقم من خلال النفاق . فالشيطان يخدع الإنسان ويدفعه في اتجاه خاطىء بسبب هوى النفس ، او سوء التربية وما الى ذلك . فاذا اعترف هذا الإنسان بواقعه المنحرف هذا فان من المحتمل ان يعود الى الطريق المستقيم . اما اذا تعقد قلب هذا الإنسان ،وفتش لنفسه عن تبرير لانحرافه ، فان الامل في اصلاحه ضعيف . وعلى سبيل المثال فقد يقول شخص انه يعرف ان الصلاة واجبة ولكنه ـ مع ذلك ـ لا يصلي ، فانه من الممكن في يوم من الايام ان يهتدي ، ويتوب الى الله تعالى بنصيحة من احد المؤمنين . اما الذي لا يصلي ولايعترف بوجوب الصلاة فان الشيطان سيخدعه في هذه الحالة ، فيتحول بشكل تدريجي من كافر وفاسق بسيط الى جاحد بالصـلاة وباحث عن تبرير لعـدم صلاتـه .

في قلوبهم مرض

وهكذا فعندما يتلبس الكفر والفسوق بلباس من التبرير والخداع الذاتي ، فان الامل في اصلاح مثل هؤلاء الناس يصبح ضئيلا ، لانهم يبتلون بمرض الجبن والاستسلام والشك . عندما يجدون لانفسهم غطاء من النفاق ؛ اي يحاولون خداع الله سبحانه وتعالى ؛كأن يبرر أحدهم عدمادائه لصلاة الصبح بانه يتعب في الليل ، ويعمل من اجل عياله . ويبرر الآخر عدم جهاده في سبيل الله لتكفله برعاية زوجته واطفالـه . .
ان من القبيح ان يحاول الإنسان خداع الله تبارك وتعالى . والادهى والاسوء من ذلك ان لا يعترف بخطئه ، بل يحاول ان يبرر خطأه هذا بفكرة يبحث عنها هنا وهناك . وفي هذه الحالة يتكرس هذا المرض في نفوس هؤلاء الاشخاص ويصدق عليهم قول الله عز وجل : ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ... 14 بسبب محاولة خداع الخالق .
فمن الجهل والسذاجة ان نخادع الله ، وهو الخبير بنا ، والاقرب الينا من حبل الوريد . وهو الذي يعلم من انفسنا مالا نعلمه ، فربما يقوم الواحد منا بعمل ويعتقد بانه على طريق صحيح ، ولكن الله تعالى يعلم ان نيته غير خالصة .
وقد جاء في حديث مروي عن الامام أمير المؤمنين في وصيته لابنه عليهما السلام ، يقول : " ان من البلاء الفاقة ، وأشد من ذلك مرض البدن ، وأشد من ذلك مرض القلب " 15 . فربمـا يبتلي شخص بمرض السرطان وبمجرد ان يخطر على بالـه بانه مبتلى بهذا المرض الخطير يهتز ضميره حتى الاعماق . ولكن هل تدري ان بعض الذنوب اشد على الإنسان من السرطان ، كتلك الذنوب التي نرتكبها ونستهين بها . فمن اسوء الذنوب ذلك الذنب الذي يستصغره صاحبه ، فلربما تكون هناك كلمة واحدة تسقط الإنسان من اعلى عليين الى اسفل سافلين . وفي هذا المجال يقول نبينا الاعظم صلى الله عليه وآله : " وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلاّ حصائد السنتهم " 16 .
وهذا الكذب يتحول الى عذاب اليم في الدنيا كما يقول تعالى : ﴿ ... وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ 14. ذلك لانهم يعيشون دائماً حالة الخوف والارهاب الذاتي من ان يفتضح أمرهم امام الاخرين ، وهذه الحالة من التردد تقتلهم داخلياً .

الطبيعة المفسدة للمنافق

ومن ثم يقول ربنا عز وجل : ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴾ 17.
وبناء علـى ذلك فان علاقتهـم بذاتهـم هـي علاقـة انطـواء وتعقيد و امراض نفسية وعذاب اليم . وهذا في واقع انفسهم ، اما في واقع الطبيعة من حولهم فان حياتهم مليئة بالفساد والافساد .
اما الإنسان المؤمن فان طبيعته الصلاح والاصلاح . فهو ـ مثلاً ـ عندما يسير في طريق ويرى في هذا الطريق اذى فانه يبــادر الى اماطته عن الطريق ، وديدنه البحث عن طريقة لخدمة المجتمع والاحسان الى الاخرين . وباختصار فان حياته عبارة عن كتلة من العطاء والاحسان والاصلاح . اما الإنسان المنافق فانه على العكس من ذلك تماماً من طبيعته نشر الفساد ، حتى تتحول حياته الى سلسلة متصلة من عمليات الافساد . في حين ان الإسلام يأمر بالاصلاح وذلك في قوله تعالى : ﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ 18فالإسلام انما هو دين الاصلاح ، كما ان المجتمع المسلم النموذجي هو مجتمع مصلح ، وحياته ذات طابع اصلاحي . فالاستهلاك اقل عنده من الانتاج ، ولا يفكر ـ على سبيل المثال ـ في ان يستصلح الارض من اجل قوته ، بل هو يفعل ذلك لان الارض التي تبقى بوارا ، في حين يمكن لصاحبها ان يزرعها ويعمرها تأتي يوم القيامة شاكية الى الله سبحانه وتعالى صاحبها . في حين ان المنافق على العكس من ذلك تماماً ، ولذلك يقول عز من قائل : ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِنْ لَا يَشْعُرُونَ 19.

انقلاب المقاييس

ترى من الذي جعل هؤلاء يزعمون انهم مصلحون ؟
ان المقاييس قد انقلبت عندهم بسبب محاولة خداع الاخرين ، واخـذوايزعمون ان فسادهم انما هو اصلاح . اما علاقتهم بالناس فهي علاقة التعالي ، ولانها علاقة التعالي والتسفيه والاعتقاد بانهم لا يفهمون شيئاً ؛ فاننا نجدهم لايستفيدون من الاخرين ، ولا يعتبرون بتجاربهم ، ولا يتفاعلون مع المجتمع المحيط بهم . . والى هذا المعنى يشير سبحانه في قوله : ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَٰكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ 20.
والإنسان عندما يتعالى على الاخرين فانه يصنع بينه وبينهم حجابـاً ، فلا يستفيد من تجاربهم ، ولا من افكارهم . . ولذلك لا تنمو معارفه وتجاربه ، ولا تتكامل نفسه ، فيتحول الى سفيه . في حين ان الإنسان المؤمن يعترف بالاخرين وبافكارهم وتجاربهم . فالناس المحيطون بنا ليسوا سفهاء ، فقد تكون بصيرتهم ورؤيتهم اكثر وضوحاً من بصيرتنا ورؤيتنا . ومشكلة الإنسان هو انه قد يكـون سفيهـاً دون ان يعلم انه سفيـه ، لان الجهل المركب لا يدع صاحبه يفهم شيئاً كما يقول الشاعر :
قــال حمار الحكيم يوما *** لو انصف الدهر كنت اركب
فانني جاهـل بسـيـط *** و راكبــي جاهـل مركب
ثم يقول تعالى مشيراً الى علاقتهـم بـه : ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ 21.
فليس هناك مصدر للخير سوى الله تعالى ، فاذا انغلق هذا المصدر عن الإنسان فماذا يبقى له ؟ والله ارحم الراحمين ، ومع ذلك فان هؤلاء يغلقون ابواب الرحمة دون انفسهم الى درجة ان الله جل وعلا يمدهم في طغيانهم فلا يرجى لهم الفلاح أبداً .

الله يستهزء بهم

وهناك في هذا المجال حديث يفسر هذه الآية يقول : ان الله سبحانه يسهزىء بهم في يوم القيامة ، بعد ان يدخل الصالحين في الجنة . وكما نعلم فان جهنم موضع ضيق ومظلم والناس فيها يقتحم بعضهم البعض وينشب الصراع بينهم ، والمنافقون يدخلون جهنم ايضاً بين الكفار .
وبينما هم يعذبون في النار واذا بباب يفتح امامهم في الطرف الاخر فينظرون الى نعيم الجنة فيقومون من مجالسهم باتجاه ذلك الباب ، علماً ان الطريق الذي يوصلهم الى باب الجنة تكمن فيه العقارب والحيات والنيران . وبعد ان يمضي عليهم تسعون عاماً يصلون الى مقربةمن ذلك الباب ، واذا به يغلق في وجوههم ، ويفتح لهم باب في الطرف الاخر فيبدؤن بالتحرك في الاتجاه المضاد ، ويبقونعلى هذه الحالة ، آلاف السنين !
ثم يقول سبحانه : ﴿ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾ 22.
فهم باعوا الهدى واشتروا الضلالة بما فيها من ألم وعذاب في الدنيا ، وعذاب عظيم في الاخرة . فنعوذ بالله سبحانه من النفاق . ونعوذ به من غواية الشيطان ، والاستهزاء بآيات الله ، والتعالي على عباده . . ونعوذ به عز وجل من مرض القلب ، ومن ان ترين الذنوب والسيئات على قلوبنا .

احذروا النفاق

ومن خصائص القرآن الكريم انه يضرب للناس الأمثال لعلهم يتفكرون في واقعهم ، ويعتبرون بمصير الغابرين ، وبالتالي يفقهون حقائق الأمور . . حتى لا تفوتهم فرصة الهداية ، ولا يغيب عنهم نور الحق .
ومن تلك الأمثـال ما ذكره لنـا القـرآن الكريم عن طائفة من الناس يتيهـون في الصحراء ؛ واذا بالظلمات تلفهم ، والوحشة تهز أعماقهم . . فنراهـم يفتشون عن جذوة نار ، وعندما يوقدون النـار ، واذا بريح صرر تهب عليها فتخمدها ، فلا يعودون يمتلكون ضياء ولا دفأ ؛كما ذكر ذلك ربنا عز وجل في قوله : ﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 23.
ترى ما هي العلاقة بين هذا المثل وبين المنافق ؟
ان الحياة صحراء ، والشهوات في هذه الحياة ظلام ، واليأس والتردد والقلـق هو بمثابـة البرد في الصحراء . والإيمان هو نار ونـور ، ففيه دفء النار ، وضياء النور . وهذا الإيمان يتقد لهم ، والله سبحانه وتعالى ينزله عليهم . والبعض من المنافقين ، بل جميع المنافقين إلاّ من شذ وندر تتنور ـ في لحظة طيبة من لحظات حياتهم ـ قلوبهم بضياء الإيمان ، وتستنير انفسهم بدفئه . ولكن لا تلبث الشهوات وحجب الكفر والعناد والاستكبار ان تطفىء في قلوبهم ضياء الإيمان ، فلا يعودون يمتلكون ايماناً ولا دفئاً ولا نوراً .
والقرآن الكريم لا يقول مثلهم كمثل الذين استوقدوا نارا بصيغة الجمع ، بل يقول : ﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا ... 24. لان المنافق يعيش فردا حتى وان كان يعيش ضمن فئة ، والإنسان عندما يكون على شكل جماعة في الصحراء فان بعض هذه الجماعة سيؤنس البعض الآخر . اما اذا كان فرداً في صحراء موحشة ، وفي ظلمات بعضها فوق بعض ، وكان محتاجاً الى دفء ، فانه سوف يحـاول بمفـرده ان يحصل على قبس من نـار . ولكن هذا القبس ما يلبث ان يخمد ، ويذهب بأمله .
ولنتدبر هنا في دقائق كلمات القرآن الكريم ؛ انه يقول : ﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ ﴾ 24. فالملاحظ هنا ان القرآن يأتي مرة بضمير المفرد ، ثم يعود ويأتي بضمير الجمع في نهاية الآية .

ظلمات الشهوات و الذنوب

وهؤلاء المنافقون عندما يذهب الله تعالى بنورهم ؛ اي يذهب بنور الإيمان من قلوبهم ، فانه يتركهم في ظلمات لا يبصرون . والظلمات ما هي إلاّ شهوات الإنسان ، وذنوبه وحجب الكبرياء والغرور وسائر امراض القلب ، وهي ظلمات بعضها فوق بعض . وقد كان الامل الوحيد لهذا الإنسان في التخلص من الظلمات ، هو الله سبحانه وتعالى ، ولكنه تركه جزاء نفاقه .
وقد جاء في الحديث عن الامام الرضا عليه السلام : ان الله تبارك وتعالى لا يوصف بالترك 25 . والقرآن الكريم عندما يقول ان الله تركهم في ظلمات لا يبصرون ، فان ذلك لا يعني ان هؤلاء كانوا بأيدي الله ثم تركهم ونبذهم . بل ان معنى الترك في هذه الآية : ان الله عز وجل منع التوفيق عنهم ، واذا ما تركهم الخالق ، فهل هناك من احد يستطيع ان يعطيهم شيئاً ؟
﴿ ... وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ 26.
فلو انه تبارك وتعالى ذهب بالشمس ، فهل هناك من يأتي بشمس مثلها ؟ وهكذا الحال بالنسبة الى نور الإيمان .

السمع اداة الحضارة

ثم يقول عز وجل ذاكراً حالة اخرى من حالاتهم : ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴾ 27.
فهناك آذان تسمع ، ولكن بثقل . ولكن اذا كانت الاذن منعدمة السماع كالإنسان الذي يولد اصم ، فان هذه الحالة تسمـى بـ (الصمـم) .
والملاحظ في هذا المجال ان السمع جاء في القرآن الكريم مفرداً في اكثر الاحيان ، في حين ان البصر جاء بصورة جمع . والسبب في ذلك ان السمع اقرب الى العقل من البصر ، كما انه اقرب الى الامور المجردة من البصر . فالبصر يرى اشياء يحدد مسافاتها وابعادها والوانها المختلفة ، ولكن السمع يأخذ عادة التجارب ملخصة وموجزة وبشكل كلي ومطلق . ولذلك فان السمع يعتبر اداة الحضارة ، لان الإنسان يستطيع ان ينتفع من تجارب الاولين من خلال سمعه ، وحتى القراءة فان الإنسان لا يمكن ان يعلمها إلاّ بالسمع .
وهكذا فان السمـع الذي هـو بمثابـة الاداة الناقلـة للتجارب ، هــواصم بالنسبة الى اولئك المنافقين ؛ اي انهم لا يستفيدون من تجارب الاخرين وافكارهم . فقد تجلس لساعات مع شخص وتقدم اليه النصائح ولكنه لا يسمعك بوعي ، في حين ان هناك اذناً تعي وتستوعب وصفها الله سبحانه وتعالى في قوله : ﴿ ... وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ 28. واذا لم تكن هذه الاذن تسمع بوعي ، وتستوعب النصائح والارشادات والانذارات ، فانها ستكون صماء لا تسمع اساساً .
ونحن عادة ما نرى الاطفال الذين يولدون وآذانهم صماء ، فهؤلاء الاطفال لا يمكنهم ان يتحدثوا ايضاً ، لانهم لا يسمعون حتى يعرفوا النطق . وعندما يفقد هؤلاء القدرة على سماع واستيعاب تجارب الاخرين ، فان كلماتهم تصبح عديمة الفائدة . فهم صم بكم عمي لا ينتفعون من التجارب ، ولا يمكنهم ان ينقلوا الى الآخرين تجارب جيدة ، ولا يستطيعون ان يستفيدوا بانفسهم من تجارب الحياة ، لانهم صم بكم عمي فهم لا يرجعون ؛ اي ان هؤلاء لا يمكنهم ان يرجعوا الى الإيمان ، والى التقوى . فالإنسان قد يذنب ذنبا ثم يتوب ، ومن تاب يجد الله غفوراً رحيماً ، ولكن المنافق لا أمل له بالعودة .

لنحذر النفاق

وربما يزعم البعض ان المنافقين هم فقط اولئك الذين يحملون السلاح ضد النظام الإسلامي ، او اولئك الذين حاربوا الامام علي عليه السلام كالقاسطين ، والناكثين ، والمارقين . . صحيح انهم كانوا نماذج واضحة للمنافقين ، ولكننا نحن ايضاً قد نتورط في النفاق . فعندما نستمع الى آيات الذكر الحكيم ، فلابد من ان نضع امامنا هذاالاحتمال ، وهو ان يكون الواحد منا تنطبق عليه هذه الآية في يوم من الايام .
والله سبحانه وتعالى يضرب لنا الامثال لكي لا يصبح الواحد منا منافقاً . وهناك ـ بالاضاف الى المثل السابق ـ مثل آخر يذكره تعالى في قوله : ﴿ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 29.
وباعتبارنا بعيدين عن الزراعة ، ولا نعرف اهمية المطر ، الا ان المزارع يفهم هذه الحقيقة وهي ان كل زخة مطر تحمل معها بركات السماء . والمزارع عندما يحرث الارض ، ويبذر البذور ، ويتعب نفسه في اصلاح الارض وتسويتها ، والبحث عن السماد ، فانه يفعل كل ذلك ثم يجلس وهو يرقب السماء ، حتى تجود بمطرها . فاذا رأى ان وابلاً من المطر نزل على ارضه فانه يطير فرحاً ، ولا تسعه الارض من السرور .
ولذلك يضرب الله تعالى لنا مثلاً بالصيب من السماء ؛ اي المطر الشديد . ولكن المطر قد لا ينزل بالبركات ، بل قد يكون معه الخوف . فقد يقترن المطر بالرعد ، والبرق ، والظلمات . ولذلك فان اولئك الذين يسكنون في بيوت من طين يحتملون في كل لحظة ان ينهار السقف عليهم ، ولذلك فانهم يجعلون اصابعهم في آذانهم من الصواعق حذرا من الموت .
وهكذا يضرب لنا القرآن الكريم مثلين ؛ المثل الاول يتجسد في الإنسان الذي يعيش في الصحراء تحيط به ظلمات السحب ، والرعد ، والبرق ، وشدة الصوت ، فمن الذي ينقذه في تلك اللحظـة ؟ لا احد سوى الله سبحانه وتعالى . والكافر الذي يزعم انـه خارج عن اطار ارادة الله جل جلاله ، وخارج عن سلطانه ، ألاّ يفكر بمن ينقذه في مثل هذه اللحظات ؟
والمثـل الثاني حول المنافقين الذين يقول القرآن عنهم : ﴿ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ... 30من شدة البرق الذي يمكن ان يذهب بأبصارهم ﴿ ... كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ ... 30لانهم في ظلمات ، وفي صحراء لا يملكون نـوراً . ولذلك فانهم يحاولون ان يستضيئوا بنور البرق ﴿ ... وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا ... 30فعندما يخطف البرق ابصارهم فانهم يمشون لانه يضيء لهم الطريق ، واذا ذهب وقفوا ، ﴿ ... وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 30.

علاقة الامثال بالمنافقين

ترى ما علاقة هذا المثل بالمنافقين ؟

ان هناك علاقتين هما

1 ـ ان الله تبارك وتعالى يضيء للمنافق ؛ اي يعطيه الضوء ، وهذا الضوء يتمثل في القرآن الكريم ، وفي الرسول الأمين ، والائمة الهداة الميامين . ولكن المنافق لا يستفيد من هذا الضوء ، في حين ان المؤمن اذا اضاءت الرسالة الالهية له طريقه ، فانه يستمر بالسير في طريقه هذا حتى يصل الى غايته .
2 ـ ان باب الله تعالى الذي جاء بالصيب من السماء ، والذي يأتي بالبرق منها ، هو الذي يأتي بالرسالة من السماء ايضاً . فكيف يستضيء الإنسان بنور الشمس ولا يستضيء بنور الرسالة ، في حين ان الرسالة اشد ضياء من الشمس واكثر دفئا ؟ ولذلك يقول تعالى : ﴿ ... وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 30.

حرمة التقليد في اصول الدين

ترى ما هي مشكلة المنافقين مع الإيمان ، وما الذي يمنع الإنسان من الدخول في رحاب الإيمان ؟
هذه التساؤلات يجيب عنها القرآن الكريم في الآية التالية : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ 31. فالإنسان قد يزعم ان العامل الذي اوجده هو ابوه وجده ، وهذا ما يجعل الإنسان ينتميالى آبائه اكثر مما ينتمي الى رسالات السماء . وحتى الدين الذي يعتنقه الإنسان ، فانه لا يأخذه من مصدر العقل ، بل لان أباه كان منتمياً اليه .
وعلى سبيل المثال فان الإنسان الذي يصوم شهر رمضـان ، ولكنه لايجد خلال الصيام مانعاً من ان يتكلم على الناس بالغيبة والتهمة والنميمة . . وعندما ينتهي شهر رمضان يبيح لنفسه ان يمارس ويرتكب المحرمات ، ويؤجل الالتزام بالاحكام الى السنة القادمة ؛ فان مثل هذا الإنسان لايمكن ان تقبل منه عباداته ، وسيبتلى بالنفاق .
ترى لماذا هذه الممارسات المجزئة للدين ، ولماذا هذه الاعمال القشرية الفارغة ، ولماذا نجهل روح الدين ؟
السبب في ذلك اننا عندما اخذنا الدين فاننا لم نأخذه بعقل ولا برؤية واضحة ، بل أخذناه بالتقليد .
ومن الامور التي يجهلها البعض ان التقليد قي اصول الدين حرام . فأنت يجوز لك ان تقلد في الصلاة والصيام والحج . . واما في اصول الدين ، ووحدانية الله تعالى ، وفي رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وامامة المعصومين وولايتهم . .
صحيح اننا عرفنا الائمة عليهم السلام من خلال آبائنا ، ولكن علينا في نفس الوقت ان نبحث عن احوال وسيرة وحياة هؤلاء الائمة ، لا ان تكون تبعيتنا لهم تقليداً في تقليد . فعلى كل انسان مسلم عندما يبلغ الرشد ان يبحث في نفسه عـن جوهر الدين ولبابـه .
والقـرآن الكـريـم يريد ان يبيّـن لنا ان تقليد الاباء لايجوز من دون وعي وتمحيص ، لان الله تبارك وتعالى هو الذي خلقنا ، وخلق آبـاءنـا . فهو الاصل اذن ، ولذلك فانه يذكر بهذه الحقيقة قـائـلاً : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ 31. اي ان الذي خلقكم هو الذي خلق الاولين من آبائكم . فانتم عندما تعبدون الله تعالى عبادة خالصة ، فان هذه العبادة تمثل بداية مسيرة التقوى ؛ ومن أهم شروط التقوى ان نعرف الله ، ونعبده حق عبادته .

سبب الانحراف

ثم يضيف القرآن الكريم قـائـلاً : ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ ... 32.
ومن أجل ان نفسر هذه الآية ، لابد ان نقول ان الإنسان ينحرف عن الله عز وجل لسببين : فاما ان يعتقد ان آباءه واجداده هم اصل وجوده ، وفي هذه الحالة يقول القرآن الكريم ان اصل وجودنا ووجود آبائنا هو الله تبارك شأنه . واما ان يعتقد ان النعم المتوفرة له انما تتوفر من خلال الطبيعة التي من حوله ، فيعتقد ان السماء هي التي تمطر عليه ، والارض هي التي تنبت له الزرع والفواكه . . والقرآن ينفي هذا التصور قائلاً : ان لله تعالى الشمس والارض والسماء وكل مظاهر الطبيعة من حولنا ، ومأمورة بأمره .

من مظاهر القدرة الالهية

ثم يقول عـز مـن قائل : مستعرضاً مظاهر اخرى من نعمه التي لاتعد ولا تحصى : ﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ 32.
وفي هذا المجال يقال ان ارض كوكب الزهرة صخرية لا يمكن ان تزرع ، وهذه الظاهرة من المفترض ان تدفعنا الى ان نفكر في عظمة القدرة الالهية التي جعلت ارضنا صالحة للزراعة والعمل والعمران ، خلافـاً للكواكب الاخرى .
وحتى المعادن فان علماء الفيزياء والكيمياء قد اكتشفوا وجود ذرات غير منظمة داخل الكتروناتها . وقد حاول هؤلاء العلماء البحث عن سبب هذه الظاهرة ، فاكتشفوا مؤخراً ان مسيرة ذرات الالكترون داخل الذرة لو كانت منظمة لما كان من الممكن ان يتعامل الإنسان مع المعادن ويستغلها ، ولذلك يقول عز وجل مؤكداً على الإنسان على ان لا يشرك به وهو يرى الآيات العجيبة والدقيقة المحيطة به : ﴿ ... فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ 32.
اي لا تتوجهوا الى غير الله جلت قدرته وانتم تعلمون . فعندما تتعمقون في التأمل والتفكر ، سوف تكتشفون بالفعل انه سبحانه هو الذي خلقكم ، وسخر لكم كل تلك النعم . فلماذا تجعلون له انداداً ولماذا تشركون به ؟ 33