الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الاجتهاد في تفسير القرآن الكريم

التفسير : مبالغة في الفَسْر بمعنى الكشف و الإبانة .


قال تعالى : ﴿ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا 1 ، أي تبييناً و توضيحاً .
و الفَسْر و السَّفْر من أصل واحد ـ في الاشتقاق الكبير ـ كلاهما بمعنى الإبراز و الإظهار .
قال الراغب الإصفهاني : هما متقاربا المعنى كتقارب لفظيهما ، لكن جُعل الفَسْر لإظهار المعنى المعقول ، و السَفْر لإبراز الأعيان للأبصار . يقال : سفرت المرأة عن وجهها و أسفرت ، أي كشفت عن وجهها بمعنى رفع النقاب . و أسفَرَ الصبحُ إذا بدا و طلع الفجرُ .
و الفَسْر و التفسير ـ مجرداً و مزيداً فيه ـ كلاهما بمعنى الكشف و الغبانة ، متعديان إلى المفعول به . . غير أن في التفعيل مبالغة ليست في المجرد . . نظير الكشف و الاكتشاف ، معديين إلى المفعول به ، يقال : كشفه و اكتشفه ، بمعنىً واحد ، سوى أن في الانتقال مبالغة و صرف جهد لم يكن في الثلاثي . . فمطلق الكشف عن الشيء لا يقال له الاكتشاف إلا إذا كانت في كشفه و إظهاره مزيد عناية و بذل جهد كثير . . و هكذا الفرق بين الفسر و التفسير ، لا يكون تفسيراً إذا لم يكن هناك عناء و بذل جهد في رفع الإبهام عن وجه الآية ، و إلا فمجرد ترجمة الألفاظ أو تبديلها بنظائرها في افادة المعنى ، لا يكون تفسيراً .
و من ثم كان التفسير ـ في المصطلح ـ هو : بذل الجهد في رفع الإبهام عن اللفظ المشكل . . فلا بد هناك من إشكال في اللفظ قد أوجب ابهاماً في المعنى ، فيبذل المفسر عنايته برفع ذلك الإبهام و دفع الإشكال ، حسبما أوتي من حول وقوة و ما تهيأ له من أدوات التفسير و أسبابه .

المنهج في تفسير القرآن

و التفسير ـ في ماهيته ـ على نوعين : أثري و نظري .
و يعني الأول : التفسير بما ورد من آثار الأقدمين من أقوال و آراء حول تبيين الآيات الكريمة . . في مثل أحاديث الرسول ( صلى الله عليه و آله ) و أقوال صحابته المرضيين و آراء التابعين لهم بإحسان . . مضافاً إليها ما ورد من روايات أهل بيته الطاهرين ( عليهم السلام ) و هذا ما يسمى بالتفسير بالمأثور أو التفسير النقلي .
و في هذا قد يكتفى بذكر الأثر ، مجرداً عن أي نقد أو بيان ، كما دأب عليه جلال الدين السيوطي في تفسيره الدر المنثور ، و السيد هاشم البحراني في البرهان ، و العروسي الحويزي في تفسيره نور الثقلين .
و الآخر ما يصحبه البيان و النقد أحياناً ، كما نجده في تفسير جامع البيان للطبري ، و تفسير ابن كثير ، و تفسير الصافي للفيض الكاشاني ، وكنز الدقائق للمشهدي .
و النوع الثاني من التفسير ، هو التفسير الاجتهادي المبتني على إعمال الرأي و النظر في فهم معاني القرآن الكريم .
و للاجتهاد في التفسير أسس و دعائم ترسو عليها قواعده و تبتنى أصوله . . على ما شرحه الراغب في مقدمته في التفسير ، و سنشير إليها .
و التفسير يرتفع في أصوله إلى زمن الرسول ( صلى الله عليه و آله ) حيثُ كان الصحابة ربما أشكل عليهم فهم آية فيراجعون النبي و يسألونه الإيضاح و التبيين ، فيجيبهم عليه حسب وظيفته الرسالية في تبيين مفاهيم القرآن .
قال تعالى : ﴿ ... وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ 2 .
فقد أنزل القرآن على النبي ليبين للناس معانيه مما أشكل عليهم فهمه . . و ليكون ذلك ذريعة إلى مزاولة فهمهم و فكرتهم هم في استخراج معانيه و البسط فيها .
و مما سئل النبي ( صلى الله عليه و آله ) عن المعنى المراد من الآية ، ما جاء سؤالاً عن "السائحين" في قوله تعالى : ﴿ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ ... 3 ، حيثُ وقع هذا الوصف مدحاً يزاوله المؤمنون .
فقال ( صلى الله عليه و آله ) : " هم الصائمون " .
قال الطبرسي : السائح ، مِنْ ساحَ في الأرض يسيح سيحاً إذا استمر في الذهاب ، و منه السيح للماء الجاري . قال : و من ذلك يسمى الصائم سائحاً ، لاستمراره على الطاعة في ترك المشتهى . قال : و روي عن النبي ( صلى الله عليه و آله ) انه قال : " سياحة أمتي الصيام " .
نعم ، إنما كان الصيام سياحة للمؤمن ، لأنها عبادة خالصة يقوم بها العبد ، طالباً وجه ربه ، بعيداً عن شوائب الرياء و الضمائم التي قد تعتري سائر العبادات . . فالصائم خالص بوجهه لله ، هائم في بيداء عبادة ربه الكريم . . لا يثنيه عن عزمه شوائب الأكدار و دنائس الأقذار .
و سأله رجل من هذيل عن قوله تعالى : ﴿ ... وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ 4. ما هو المراد من الكفر هنا ، حيث كان ترك الحج ـ و هو فريضة كسائر الفرائض ـ لا يوجب تركه كفراً بالله تعالى ، فقال ( صلى الله عليه و آله ) : " مَن تركه لا يخاف عقوبته و لا يرجو مثوبته " أي مَن ترك الحج ترك جحود ، ناشئاً عن عدم الإيمان بشريعة الله تعالى .
و هكذا في سائر الموارد ، حينما يجدون إبهاماً في وجه الآية ، يرجعون إليه و يسألونه الحل و الإيضاح . . و قد أوردنا غرراً من ذلك في كتابنا " التفسير و المفسرون " .
و أيضاً كان ( صلى الله عليه و آله ) يتعرض للتفسير بنفسه عندما يلقي على أصحابه بعضاً من آيات الذكر الحكيم .
و كان ( صلى الله عليه و آله ) يتلو على أصحابه العشر من الآيات ، لا يتجاوزها حتى يعلمهم تفسيرها و تأويلها . . فقد أخرج ابن جرير باسناده عن ابن مسعود ، قال : " كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات ، لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن و العمل بهنّ " .
و قال أبو عبد الرحمان السُّلَمي : " حدثنا الذين كانوا يقرئوننا ، أنهم كانوا يستقرئون من النبي ( صلى الله عليه و آله ) فكانوا إذا تعلموا عشر آيات ، لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل . قال : فتعلمنا القرآن و العمل جميعاً " .
و هكذا دأب رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) على تعليم أصحابه الأجلاء معاني القرآن و تفسير ما أُبهم منه ، إلى جنب تعليم قراءته و تلاوته .
و المقصود من العمل به : كيفية استنباط المسائل منه ، بمعنى الاجتهاد في استخراج مفاهيمه العامة الجارية مدى الأيام .
غير أن المأثور من التفسير المرفوع إلى النبي ( صلى الله عليه و آله ) قليل جداً ، حسبما جمعه جلال الدين السيوطي في آخر كتابه الإتقان ، حيث نقل ما يقرب من مئتين و خمسين حديثاً مرفوعاً إلى النبي ( صلى الله عليه و آله ) ، و قال : " الذي صح من ذلك قليل جداً ، بل أصل المرفوع منه في غاية القلة " .
و أخيراً قام السيد محمد برهاني نجل العلامة المحدث البحراني صاحب تفسير البرهان ، بجمع ما أثر من تفاسير مرفوعة إلى النبي ( صلى الله عليه و آله ) مروية عن طريق أهل البيت ( عليهم السلام ) فبلغ لحد الآن نحو أربعة آلاف حديث مرفوع إلى النبي ( صلى الله عليه و آله ) في التفسير ، و لا يزال يزيد ما دام العمل مستمراً .

التفسير في عهد الصحابة و التابعين

و أما في عهد الصحابة و التابعين ، فلم يزل الأمر على ذلك ، حيث كانوا مراجع الأمة في فهم ما أشكل من القرآن . . و كان من الصحابة أربعة اشتهروا بعلم التفسير ، و هم : علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) ـ و كان رأساً و أعلم الأربعة ـ و عبد الله بن مسعود ، و أُبي بن كعب ، و عبد الله بن عباس ، و كان أصغرهم سناً و أوسعهم باعاً في نشر التفسير ، و ذلك لتفرغه في ذلك ، دون من عداه .
قال الإمام بدر الدين الزركشي : " و صدر المفسرين من الصحابة هو علي بن أبي طالب ثم ابن عباس ، و هو تجرد لهذا الشأن ، و المحفوظ عنه أكثر من المحفوظ عن علي ، إلا أن ابن عباس كان قد أخذ عن علي ـ ( عليه السَّلام ) ـ " .
ثم يجيء دور التابعين ، ليتوسعوا في التفسير ، توسعاً مطرداً مع الزمان و متناسباً مع توسع قطر الإسلام .
و قد درج التفسير مدارجه إلى الكمال في هذا الدور ، فأخذ يتشكل بعد أن كان مبعثراً ، و ينتظم بعد أن كان متقطعاً منتثراً ، و يزداد حجماً و يتوسع بعد أن كان محدوداً مقتصراً ، و فوق ذلك أخذ الاجتهاد و إعمال الرأي و النظر و البحث و النقد ، يتسرب في التفسير ، و يأخذ مأخذه في تبيين و تفهيم معاني القرآن الكريم .
و هذا حسبما ورد من الأمر بالتدبر و التعمق في القرآن و البحث و النظر في فهم معانيه : ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ 5 . ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا 6 .
و قد كان بعض السلف يتحرجون من القول في القرآن بغير أثر صحيح ، و يجتنبون النظر فيه ، خشية أن يكونوا قد أقحموا في القول في القرآن برأيهم ، و قد جاء النهي عن تفسيره بالرأي ، " مَن فسّر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار " .
فعن عبيد الله بن عمر قال : " لقد أدركت فقهاء المدينة ، و أنهم ليعظمون القول في التفسير ، منهم : سالم بن عبد الله ، و القاسم بن محمد ، و سعيد بن المسيب ، و نافع " .
و عن يحيى بن سعيد قال : " سمعت رجلاً يسأل سعيد بن المسيب عن آية من القرآن ، فقال : لا أقول في القرآن شيئاً . . و كان لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن " .
و عن ابن سيرين ، قال : " سألت عبيدة السلماني عن آية ، قال : عليك بالسداد ، فقد ذهب الذين علموا فِيمَ أُنزِلَ القرآن " .
لكن ـ على الرغم من ذلك ـ تصدّى علماء الصحابة و نبهاء التابعين للتفسير ، و اجتهدوا فيه و اعملوا النظر و الرأي فيه ، لكن على الطريقة المستقيمة ، التي كان يقبلها الشرع و العقل ، و هي الطريقة التي مشى عليها العقلاء في تفهمهم للكلام ، أياً كان وحياً من السماء أم كان كلام إنسان منثوراً أو منظوماً . الأمر الذي لا يعنيه حديث النهي عن التفسير بالرأي ، إنما يعني التفسير بالرأي ـ الممنوع شرعاً و عقلاً ـ الاستقلال و الاستبداد بالرأي فيه ، قال الإمام أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) : " مَن استبدّ برأيه هلك . . " و هذا عام يشمل تفسير الكلام أيضاً ، فان للتفسير أصولاً و مباني يجب الجري عليها و مواكبة العقلاء في طريقة فهم الكلام ، فالحائد عن الطريق ، ضالّ لا محالة .
و لابن النقيب محمد بن سليمان البلخي كلام في تفسير حديث النهي عن التفسير بالرأي ، قال : " إن جملة ما تحصّل في معنى الحديث خمسة أقوال :
أحدها : التفسير من غير حصول العلوم التي يجوز معها التفسير .
ثانيها : تفسير المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله .
ثالثها : التفسير المقرر للمذهب الفاسد ، بأن يجعل المذهب أصلاً و التفسير تابعاً ، فيردّ إليه بأي طريق أمكن ، و إن كان ضعيفاً .
رابعها : التفسير بأن مراد الله كذا على القطع من غير دليل .
خامسها : التفسير بالاستحسان و الهوى .
و لكن هذه الوجوه الخمسة ترجع في النهاية إلى وجهين أساسيين :
أحدهما : الاستبداد بالتفسير من غير اعتماد على أصول التفسير و منابعه الأصيلة أو مراجعة مبانيه المعتمدة المتفق عليها . . و منها الآثار الصحيحة الواردة عن النبي و صحابته العلماء و عترته الأذكياء . . و كذا من غير ملاحظة أسباب النزول و الشواهد و الدلائل الموفورة المؤثرة في فهم معاني الآيات و طريقة الاستنباط .
و هذا هو الاستقلال بالرأي و الاستبداد فيه . . و هو مرفوض في شريعة العقل الرشيد .
الثاني : التحميل على القرآن ، بأن يحاول تحميل رأيه على القرآن ، حتى و لو كان ظاهر النص متأبياً عنه . . و هذا كأغلب أصحاب المذاهب الفاسدة و الآراء الكاسدة ، يحاولون تبرير عقائدهم المنحرفة بتطبيقها على ما أمكن من ظواهر النص المحتملة ، و من ثَمّ يتجهون في الأكثر نحو الآيات التي بظاهرها متشابهة ، فيتبعونها ابتغاء تأويلها و تصريفها إلى حيثُ مراميهم السيئة . . تمويهاً على العامة .
و من ثَمَّ نرى كثيراً من أصحاب القول بالجبر و القدر حاولوا التمسك بظواهر آيات ، فحرّفوها و تصرفوا في معانيها ، و هذا هو التحريف في المعنى و التفسير .
و إن كثيراً من الآيات ، التي تشبث بها هؤلاء ، لم تكن متشابهة من قبل ، و إنما عرض عليها التشابه بصنيع أصحاب الجدل في الكلام و محاولات بذلت فيما بعد بصدد تبديل مفاهيمها و تحريف معانيها .
نعم قد لا يكون هناك غرض سوء ، لكن الغباوة الذاتية دعت بأناس حملوا القرآن على معانٍ تتوافق مع أهدافهم عن حسن نية . . و هذا في أكثر الوعاظ و الناسكين الذين حاولوا تنفيق بضائعهم المزجاة ـ في سبيل الوعظ و الإرشاد ـ بمرافقة آيات فسّروها على غير وجهها ، أو وضعوا أحاديث مرفوعة إلى النبي ( صلى الله عليه و آله ) بهتاناً و زوراً ، زاعمين أنهم قد كذبوا له و لم يكذبوا عليه .
فالصوفي يشير إلى قلبه ، و يتلو قوله تعالى : ﴿ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى 7 مؤولاً الفرعون الطاغية إلى طغيان القلب و هوى النفس الغالبة .
كل ذلك ممنوع ، لأنه قول على الله بغير علم و افتراء عليه ، حتى و لو لم تكن النية سيئة . . لأن الهدف لا يبرر الوسيلة في الإسلام . . فلا تجوز الكذبة حتى و لو كان الهدف رواج الإسلام ، حيثُ الإسلامُ في غنىً عن الكذب و التزوير 8 .

تعليق واحد