الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الاستماتة‌ و الجزع‌ من‌ الموت‌ في‌ ساحة‌ عاشوراء

دراسة موضوعية شيقة لجانب من أحداث الثورة الحسينية العظيمة ، لسماحة العلامة المحقق الشيخ‌ محمد مهدي‌ الآصفي‌ حفظه الله .

مسألة‌ الموت‌ في‌ المسيرة‌ الحسينية‌

مسألة‌ ( الموت‌ ) و طريقة‌ التعامل‌ معه‌ من‌ ابرز العناصر التي‌ تدخل في‌ تكوين‌ ملحمة‌ الطف‌ في‌ يوم‌ عاشوراء .
و عاشوراء حدث‌ متميّز من‌ بين‌ الأحداث‌ الكبيرة‌ في‌ التاريخ من‌ هذه‌ الزاوية‌ .
فقد أعلن‌ الحسين‌ ( عليه السلام ) عند مغادرته‌ الحجاز إلى العراق‌ : انه‌ سوف‌ يلقى ‌مصرعه‌ في‌ هذه‌ الرحلة‌ : " و خيّر لي‌ مصرع‌ أنا لاقيه‌ ، كأني‌ بأوصالي‌ تقطّعها عسلان ‌الفلاة‌ بين‌ النواويس‌ و كربلاء " .
و نعى‌ نفسه‌ إلى الناس‌ ، و طلب‌ منهم‌ أن‌ يبذلوا مهجهم‌ في‌ هذا السبيل‌ ، و يوطِّنوا معه‌ أنفسهم‌ للقاء الله : " من‌ كان‌ باذلاً فينا مهجته‌ ، مُوطّناً على‌ لقاء الله نفسه ، ‌فليرحل‌ معنا " .
و بدا خطابه‌ العجيب‌ هذا بتقديم‌ صورة‌ زاهية‌ جميلة‌ للموت‌ ، تمهيداً لدعوتهم‌ إلى أن‌ يبذلوا له‌ مهجهم‌ ، فقال‌ ( عليه السلام ) : " خط‌ّ الموت‌ على‌ ولد آدم‌ مخط‌ّ القلادة‌ على جيد الفتاة‌ " .
و على‌ امتداد الطريق‌ إلى كربلاء كان‌ الحسين‌ ( عليه السلام ) يصارح‌ الناس‌ و يصارح‌ أصحابه‌ أنهم‌ سائرون‌ إلى الموت‌ الذي‌ لا بدّ منه‌ ، ولم‌ يكن‌ يشك ‌في‌ ذلك‌ أصحاب الحسين‌ ( عليه السلام ) إنهم‌ كانوا على‌ يقين‌ من‌ هذا الأمر ما بعده‌ يقين‌ .
و كان‌ عذر مَن‌ يتخلّف‌ عن‌ نصرة‌ الحسين‌ ( عليه السلام ) إلى الحسين‌ : إن‌ّ نفسه‌ لا تطيب‌ بالموت‌ ، و الشواهد على ذلك‌ كثيرة‌ في‌ مسيرة‌ الحسين‌ ( عليه السلام ) إلى كربلاء ، و هذه‌ هي‌ الصفة‌ المميّزة‌ لحادثة‌ الطف‌ .
فلسنا نجد أو قلَّما نجد في‌ قادة‌ الحركات‌ و الثورات‌ مَن‌ يدعو الناس الى الموت‌ ، إنهم‌ يدعون‌ الناس‌ إلى الحركة‌ و الثورة‌ ، و يطلبون‌ منهم‌ أن ‌يكونوا على استعداد لتقديم‌ دمائهم‌ للثورة‌ كلما اقتضي‌ الأمر .
أما الحسين‌ ( عليه السلام ) فله‌ شان‌ آخر . إنه‌ لا يطلب‌ في‌ رحلته‌ هذه‌ فتحاً عسكرياً بالمعني‌ الذي‌ يتصوّره‌ الناس‌ ، و إنما يريد أن‌ يقدم‌ على تضحية ‌مأساوية‌ فريدة‌ في‌ التاريخ‌ يهزّ بها ضمير الاُمّة‌ .
لقد وجد الحسين‌ ( عليه السلام ) إن‌ بني‌ اُمية‌ تمكّنوا من‌ ترويض‌ إرادة‌ الناس ‌و تطويعهم‌ بعامل‌ الإرهاب‌ و الترغيب‌ و سلب‌ إرادتهم‌ ، و في‌ هذا الجوّ حاول‌ بنو اُمية‌ أن‌ يستعيدوا قيم‌ و مواقع‌ الجاهلية‌ في‌ المجتمع‌ الإسلامي ‌الجديد ، دون‌ أن‌ يجدوا مقاومة‌ تذكر من‌ ناحية‌ الاُمة‌ ، فكان‌ لا بدّ من‌ هزّة‌ قوية‌ لنفوس‌ الناس‌ ، تعيد إليهم‌ إرادتهم‌ السليبة‌ ، و لا تتم‌ هذه‌ الهزّة‌ القوية‌ إلا بتضحية‌ مأساوية‌ فريدة‌ في‌ التاريخ‌ ، فاعدّ الحسين‌ ( عليه السلام ) أهل‌ بيته ‌و أصحابه‌ لمثل‌ هذا المشهد المأساوي‌ ، و انطلاقاً من‌ هذا الفهم‌ قلت‌ : إن ‌ّهذه‌ الصفة‌ هي‌ الصفة‌ المميّزة‌ لحادث‌ الطف‌ من‌ الأحداث‌ الاُخرى‌ في ‌التاريخ‌ .
و من‌ أعظم‌ الخيانة‌ للتاريخ‌ أن‌ نجرّد ( عاشوراء ) من‌ هذه‌ الصفة‌ المميّزة‌ لها ، فلا يبقي‌ من‌ عاشوراء إذا جرّدناها عن‌ ( الاستماتة‌ ) و طلب‌الشهادة‌ إلا ثورة‌ على النظام‌ الاُموي‌ غير متكافئة‌ مع‌ قوّة‌ الظلم‌ ، فلم‌ تنجح‌ في‌ تحقيق‌ أهدافها كما كان‌ يتوقّع‌ ذلك‌ الذين‌ كانوا ينصحون‌ الحسين‌ ( عليه السلام ) ألا يخرج‌ إلى العراق‌ ، و لم‌ يكن‌ الحسين‌ ( عليه السلام ) يتّهم‌ أولئك‌ في‌ صدقهم‌ في ‌النصح‌ .
لكن‌ الإمام ( عليه السلام ) كان‌ يري‌ ما لا يرون‌ ، و يريد ما لا يعرفون‌ .

كيف‌ يواجه‌ الناس‌ الموت‌ ؟

للموت‌ شان‌ كبير في‌ تنظيم‌ حياة‌ الناس‌ ، و الناس‌ أمام‌ هذه‌ الظاهرة‌ الطبيعية‌ من‌ سنن‌ الله مثال‌ القهرية‌ في‌ الحياة‌ طائفتان‌ : طائفة‌ و هي‌ الأكثرية ‌الساحقة‌ من‌ الناس‌ يجزعون‌ عن‌ مواجهة‌ الموت‌ و يهربون‌ منه‌ . و طائفة‌ و هي‌ الأقلية‌ من‌ الناس‌ يتحدّون‌ الموت‌ و يشتاقون‌ إليه ‌و يستقبلون‌ الموت‌ .
و لهذه‌ الحالات‌ : ( الجزع‌ من‌ الموت‌ ، و تحدّي‌ الموت‌ ) شان‌ كبير في‌تنظيم‌ حياة‌ الناس‌ و تقرير مصيرهم‌ ، فالاُمّة‌ التي‌ تجزع‌ من‌ الموت‌ لا تحوج‌ الطغاة‌ و الجبابرة‌ إلى جهد كبير لتطويقها و ترويضها و تذليلها و تعبيدها لإرادتهم‌ و سلطانهم‌ ، فتتحول‌ حياتها إلى نوع‌ من‌ التبعية ‌و الانقياد للطاغية‌ و الجبابرة‌ و الطغاة‌ ، و بالتدريج‌ يفقدون‌ الوعي‌ و الفطرة ‌و مقومات‌ الحياة‌ الكريمة‌ ، و هذه‌ صورة‌ من‌ الحياة‌ .
و الاُمّة‌ التي‌ تملك‌ القدرة‌ على تحدّي‌ الموت‌ و لا تجزع‌ منه‌ ، و تملك‌ القدرة‌ على تجاوز الموت‌ لا يمكن‌ ترويضها و تذليلها لإرادة‌ الطغاة ‌و الجبابرة‌ ، و لا يمكن‌ مصادرة‌ إرادتها و مقاومتها .
و هذه‌ صورة‌ ثانية‌ من‌ الحياة‌ ، و فيما يلي‌ نحاول‌ أن‌ نتوقف‌ بعض ‌الوقت‌ عند هاتين‌ الحالتين‌ :

الجزع‌ من‌ الموت‌

الجزع‌ من‌ الموت‌ ظاهرة‌ واسعة‌ في‌ حياة‌ الناس‌ ، و لهذه‌ الظاهرة‌ آثار واسعة‌ في‌ المجتمع‌ من‌ حيث‌ الحركة‌ و المقاومة‌ ، و هذه‌ الظاهرة‌ تستحق‌ أن‌ نتوقف‌ عندها و ننظر فيها ، و فيما يلي‌ نستعرض‌ إن شاء الله تعالى‌ :
أسباب‌ هذه‌ الظاهرة‌ أولاً .
و آثارها و أعراضها السلبية‌ في‌ المجتمع‌ ثانياً .
و الوسائل‌ التربوية‌ المفيدة‌ لعلاج‌ هذه‌ الحالة‌ في‌ نفوس‌ الناس‌ ثالثاً .

أسباب‌ الجزع‌ من‌ الموت‌

( التعلّق‌ بالدنيا ) من‌ أهم‌ّ أسباب‌ الجزع‌ من‌ الموت‌ ، و لو أن‌ّ إنساناً يعيش‌ في‌ الدنيا كما يعيش‌ الناس‌ ، و يتمتع‌ بطيباتها كما يتمتع‌ الناس‌ ، و لكن‌ قلبه‌ لا يتعلق‌ بالدنيا و لا يخيفه‌ الموت‌ و لا يخرج‌ منه‌ إذا حل‌ّ به‌ . و سوف‌ نتحدث‌ عن‌ هذه‌ النقطة‌ فيما يأتي‌ إن شاء الله .
و من‌ أسباب‌ الجزع‌ من‌ الموت‌ أيضا سوء الإعداد للآخرة‌ ، فيجزع‌ الإنسان‌ من‌ أن‌ يقدم‌ على مرحلة‌ جديدة‌ من‌ حياة‌ خالدة‌ لا تفنى ، و هو لم ‌يعدّ لها في‌ حياته‌ الدنيا إعدادا كافياً ، و الى‌ هذا المعنى‌ تشير الآية‌ الكريمة‌ مخاطبة‌ اليهود الذين‌ كانوا يعتقدون‌ إن‌ّ الله يؤثرهم‌ على غيرهم‌ من‌ الاُمم‌ ، و انّهم‌ أولياء الله من‌ دون‌ سائر الناس‌ : ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ 1 .
و قد روي‌ في‌ هذا المعنى عن‌ الإمام الصادق‌ ( عليه السلام ) : " من‌ احب‌ّ الحياة‌ ذل‌ّ " .
و تحليل‌ هذه‌ الرواية‌ و تفسيرها : إن‌ّ حب‌ الدنيا و التعلّق‌ بها من‌ أسباب ‌الجزع‌ من‌ الموت‌ ، و هما وجهان‌ لقضية‌ واحدة‌ ، فمن‌ أحب‌ الدنيا جزع‌ من ‌الموت‌ ، و بينهما نسبة‌ طردية‌ دائماً ، و هذه‌ هي‌ المعادلة‌ الأولى‌ .
و المعادلة‌ الثانية‌ : إن‌ّ مَن‌ يجزع‌ من‌ الموت‌ يذل‌ّ ، لأنه‌ لا يملك‌ القدرة‌ على‌ اتخاذ الموقف‌ و القرار الصعب‌ ، و إذا عجز الإنسان‌ عن‌ اتخاذ الموقف‌ و القرار الصعب‌ كان‌ آلة‌ طيّعة‌ للمستكبرين‌ ، و تبعاً لهم‌ في‌ الموقف‌ و القرار ، و هذا هو الذل‌ّ الذي‌ يحدّثنا عنه‌ الإمام الصادق‌ ( عليه السلام ) في‌ هذه ‌الرواية‌ .
و هو اختبار دقيق‌ لدرجة‌ إعداد الإنسان‌ للآخرة‌ في‌ الدنيا ، فكلّما كان‌ هذا الإعداد أكثر و أفضل‌ كان‌ جزع‌ الإنسان‌ من‌ الموت‌ اقل‌ّ .
قال‌ رجل‌ لأبي ‌ذرّ : مالنا نكره‌ الموت‌ ؟
قال‌ : لأنكم‌ عمّرتم‌ الدنيا و خرّبتم‌ الآخرة‌ ، فتكرهون‌ أن‌ تنتقلوا من‌ عمران‌ إلى خراب‌ .
قيل‌ له‌ : فكيف‌تريى قدومنا على الله ؟
قال‌ : أما المحسن‌ فكالغائب‌يقدم‌ على أهله‌ ، و أما المسي‌ء فكالآبق‌ يقدم‌ على مولاه‌ .
قيل‌ : فكيف ‌ترى حالنا عند الله ؟
قال‌ : اعرضوا أعمالكم‌ على كتاب‌ الله تبارك‌ و تعالى : ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ 2 .
قال‌ الرجل‌ : فأين‌ رحمة‌ الله ؟
قال‌ : إن ‌ّ رحمة‌ الله قريب‌ من‌المحسنين‌ .
و روي‌ في‌ هذا المعنى‌ إن‌ّ احدهم‌ سال‌ الإمام الحسن‌ ( عليه السلام ) : ما بالنا نكره‌ الموت‌ و لا نحبّه‌ ؟
فقال‌ ( عليه السلام ) : " إنكم‌ أخربتم‌ آخرتكم‌ ، و عمّرتم‌ دنياكم‌ ، فانتم ‌تكرهون‌ النقلة‌ من‌ العمران‌ إلى الخراب‌ " .

الموقف‌

و من‌ المؤكد ان‌ القوّة‌ و الشجاعة‌ و الإقدام‌ احد العنصرين‌ اللذين‌ يتكون‌ منهما الموقف‌ ، فإن‌ّ مقوّمات‌ الموقف‌ أمران‌ : الوعي‌ السياسي‌ ، و القوة‌ و الشجاعة‌ ، فإذا كان‌ الجزع‌ من‌ الموت‌ يضعف‌ الإنسان‌ فهو لا محالة‌ يفقده‌ القدرة‌ على اتخاذ الموقف‌ العملي‌ في‌ القضايا الصعبة‌ ، و قيمة ‌الإنسان‌ في‌ساحة‌ المواجهة‌ و الصراع‌ ليس‌ في‌ النيّة‌ و عقد القلب‌ و إنما في ‌الموقف‌ ، و قد كان‌ كثير من‌ المسلمين‌ في‌ عصر الحسين‌ ( عليه السلام ) لا يرتضون ‌يزيد و أعماله‌ ، و يكرهونه‌ اشدّ الكره‌ ، و لكن‌ الحسين‌ ( عليه السلام ) حوّل‌ هذه ‌الكراهية‌ و هذا الرفض‌ إلى موقف‌ عملي‌ ، و هذه‌ هي‌ قيمة‌ عمل‌ الإمام الحسين‌ ( عليه السلام ) .
الموقف‌ هو تجسيد الرأي‌ في‌ فعل‌ يبرز انتماء صاحبه‌ إلى هذا الرأي‌ ، و يحقّق‌ دفاع‌ صاحبه‌ عن‌ رأيه‌ .
إن الناس‌ جميعاً لا يرضون‌ الظلم‌ ، و لكن‌ هناك‌ مَن‌ يبرز هذا الرفض‌ في‌ فعل‌ و يعبّر به‌ عن‌ رفضه‌ ، و هذا الفعل‌ قد يكون‌ الخروج‌ عن‌ الطاعة‌ ، و قد يكون‌ الثورة‌ ، و قد يكون‌ التظاهر و الاعتصام‌ .
و من‌ الطبيعي‌ ان‌ّ الرفض‌ وحده‌ لا يكلّف‌ الإنسان شيئاً ، و إنما الموقف ‌هو الذي‌ يكلّف‌ الإنسان و يثقل‌ كاهله‌ ، فالموقف‌ هو الذي‌ يتطلب‌الضريبة‌ ، و صاحب‌ الموقف‌ هو الذي‌ يدفع‌ الضريبة‌ ، و لكن لا بدّ أن‌ نقول‌ : إن ‌ّ صاحب‌ الرأي‌ السلبي‌ و الرفض‌ لا يغيّر مجرى‌ التاريخ‌ ، و إنما يغيّر مجرى‌ تاريخ‌ صاحب‌ الموقف‌ ، و الرفض‌ و الكراهية‌ النفسية‌ لا يحرّك ‌الناس‌ و إنما الموقف‌ هو الذي‌ يحرّك‌ الناس‌ .
و أخيرا فإن ‌ّ المواجهة‌ و الصراع‌ يعني‌ الموقف‌ .

انقلاب‌ أللاموقف‌ إلى الموقف‌ المضاد

إن ‌مسالة‌ الصراع‌ لا تتحمّل‌ ( أللاموقف‌ ) ، فإذا لم‌ يتحمّل‌ الإنسان الموقف‌ الصعب‌ و ضعف‌ عن‌ اتخاذ موقف‌ الحق‌ فلا يمكن‌ أن‌ يبقى‌ من ‌دون‌ موقف‌ إلى الأخير ، و إنما ينقلب‌ أللاموقف‌‌ في‌ حياته‌ إلى موقف ‌مضاد .
و السبب‌ في‌ انقلاب‌ اللاموقف‌ إلى الموقف‌ المضاد هو السبب‌ في ‌انقلاب‌ الموقف‌ إلى اللاموقف‌ و هو الجزع‌ من‌ الموت‌ .
فإن الجزع‌ من‌ الموقف‌ إذا كان‌ يدعو الإنسان إلى التخاذل‌ من‌ الحق ‌إيثارا للعافية‌ ، فإن الطاغية‌ لا يتركه‌ إلى الأخير عنصراً غير ذي‌ لون‌ ، و إن ما يصبغه‌ بصبغته‌ و يسوقه‌ إلى جانبه‌ ، و نفس‌ السبب‌ الذي‌ أعجزه‌ عن‌ اتخاذ الموقف‌ الحق‌ يعجزه‌ عن‌ الامتناع‌ من‌ الانحدار إلى الباطل‌ ، و بذلك‌ يتم ‌تصنيفه‌ في‌ جهة‌ الباطل‌ ، فإن ‌ساحة‌ الصراع‌ ـ كما ذكرنا ـ لا تترك‌ الإنسان‌ من‌ دون‌ تصنيف‌ ، فإن لم‌ يبادر الإنسان ليُصنّف‌ نفسه‌ ضمن‌ جبهة‌ الحق ‌الذي‌ يؤمن‌ به‌ ، فإن ‌الساحة‌ تُصنّفه‌ ضمن‌ الخط‌ الحاكم‌ ، فيكون‌ عندئذٍ من ‌جند الطاغية‌ و إن كان‌ قلبه‌ و رأيه‌ في‌ اتجاه‌ معاكس‌ .
و هنا ينشطر الإنسان شطرين‌ متعاكسين‌ : رأيه‌ ( عقله‌ ) ، و عاطفته‌ ( قلبه‌ ) في‌ اتجاه‌ الحق‌ ، و موقفه‌ و موضعه‌ الرسمي‌ ( إرادته‌ ) المعلن‌ في ‌اتجاه‌ الباطل‌ .
و هذه‌ هي‌ ظاهرة‌ انفلاق‌ الشخصية‌ ، حيث‌ تنشطر شخصية‌ الإنسان‌ إلى‌ شطرين‌ متخالفين‌ : فيفقد الإنسان الانسجام‌ في‌ شخصيته‌ ، و يتضارب‌ ظاهره‌ مع‌ باطنه‌ .

سللتم‌ علينا سيفاً لنا في‌ إيمانكم‌ 

و هذا المفهوم‌ يطرحه‌ الإمام الحسين‌ ( عليه السلام ) على جند ابن‌ زياد في‌كربلاء يوم‌ عاشوراء : " سللتم‌ علينا سيفاً لنا في‌ إيمانكم‌ " . و هذا السيف‌ الذي‌ يذكره‌ الإمام هو القوّة‌ و القدرة‌ و السلطان‌ . و الإسلام‌ هو الذي‌ أعطاهم‌ هذا السلطان‌ . لقد كانوا اُمّة‌ ضعيفة‌ معزولة‌ في‌ الصحراء ، فأعطاهم‌ رسول ‌الله ( صلى الله عليه و آله ) هذه‌ القوّة‌ و هذا السلطان‌ بإيمانهم‌ ، فهذا السلطان‌ لرسول‌ الله و لمَن‌ آمن ‌برسول‌ الله ، و اخلص‌ و سار على خط‌ رسول‌ الله ، و من مع‌ رسول‌ الله و أهل‌ بيته‌ ، كما صرّح‌ به‌ ( صلى الله عليه و آله ) في ‌أكثر من‌ موقف‌ ، و هذا هو المعنى‌ الأول ‌لكلمة‌ ( سيفاً لنا في‌ إيمانكم‌ ) ، و المعنى الذي‌ يستتبع‌ المعنى الأول‌ : إن‌ هذا السيف‌ الذي‌ جعلناه‌ في‌ إيمانكم‌ لا بدّ أن‌ تقاتلوا به‌ أعداءنا و أعداءكم‌ ، و لكنّكم‌ وضعتم‌ هذا السيف‌ فينا نحن‌ أبناء رسول‌ الله و خلفاؤه‌ ، و وظّفتم‌ هذا السيف‌ في‌ خدمة‌ أعدائنا .
و هذا هو التشخيص‌ الدقيق‌ الذي‌ قدّمه‌ الفرزدق‌ عن‌ أهل‌ الكوفة‌ عندما سأله‌ الإمام الحسين‌ ( عليه السلام ) عمّا وراءه‌ ، فقال‌ : قلوبهم‌ معك‌ و سيوفهم ‌عليك‌ ، فإن ‌ّ أهل‌ الكوفة‌ كانوا في‌ الأغلب‌ علويين‌ ، و قلوب‌ العلويين‌ كانت‌ مع‌ الحسين‌ ، و لكن سيوفهم‌ انقلبت‌ عليه‌ ( عليه السلام ) ، و كثير من‌ الذين‌خرجوا في‌ جيش‌ ابن‌ زياد لقتال‌ الإمام الحسين‌ ( عليه السلام ) ، كانوا يحبّون‌ الحسين‌ ، و كانوا من‌ الذين‌ كتبوا إليه‌ يطلبون‌ منه‌ أن‌ يأتيهم‌ .
و الإنسان‌ رأي‌ ( عقل‌ ) ، و عاطفة‌ ( قلب‌ ) ، حب‌ و بغض‌ و موقف‌ ( إرادة‌ ) ، و هذه‌ الثلاثة‌ عندما تكون‌ منسجمة‌ و متكاملة‌ يكون‌ الإنسان قوياً ، فإذا تخالفت‌ و تضاربت‌ ضعف‌ الإنسان ، و اصبح‌ بذلك‌ أداة‌ طيّعة‌ بيد الطغاة‌ .

آخر مراحل‌ الردّة‌

لقد فات‌ الفرزدق‌ أن‌ يقول‌ ـ و كان‌ حرياً به‌ أن‌ لا يفوته‌ ذلك‌ ـ : إن‌ انسحاب‌ الإنسان يبتدي‌ أولاً و ثانياً من‌ الموقف‌ إلى اللاموقف‌ ، و من ‌اللاموقف‌ إلى الموقف‌ المضاد المعاكس‌ ، هذه‌ هي‌المرحلة‌ الأولى‌ و الثانية ‌من‌ الردّة‌ ، و المرحلة‌ الثالثة‌ إن‌ّ الموقف‌ المضاد يصادر الرأي‌ و الفكر ، و يوجّه‌ الإنسان إلى الرأي‌ الآخر و ينمّقه‌ له‌ ، و يوجّهه‌ حتى‌ يصادر الرأي ‌الأول‌ تماماً ، فينقلب‌ الرأي‌ إلى رأي‌ معاكس‌ ، و ينقلب‌ ( الحب‌ ) إلى ( بغض‌ ) ، و ينقلب‌ البغض‌ إلى الحب‌ ، و هذه‌ هي‌ المرحلة‌ الأخيرة‌ من‌ الردّة ‌التي‌ نسيها الفرزدق‌ ، و إذا غابت‌ عن‌ الفرزدق‌ هذه‌ المرحلة‌ الأخيرة‌ من‌الردّة‌ فإن القرآن‌ يسجّلها بوضوح‌ : ﴿ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون 3 .
و من‌ إساءة‌ السوء أن‌ يحمل‌ الإنسان المؤمن‌ السيف‌ على الله و رسوله‌ و أولياء الله ، و يقاتلهم‌ في‌ الدفاع‌ عن‌ الطاغوت‌ ، فإذا فعل‌ ذلك‌ فإن ‌الله تعالى ‌يسلب‌ عنه‌ التصديق‌ و الإيمان‌ و الوعي‌ و الرأي‌ ، فيكذّب‌ بآيات‌ الله ، و إذا كذّب‌ بآيات‌ الله و رسوله‌ و أولياءه‌ ، عاداهم‌ و ابغضهم‌ ، و هذه‌ الردّة‌ الكاملة‌ .

عودة‌ الانسجام‌ في‌ الطرف‌ المعاكس‌ و الانقلاب‌ على الأعقاب‌ 

و هكذا يعود الانسجام‌ بين‌ البؤر الثلاث‌ لشخصية‌ الإنسان : ( العقل‌ ، القلب‌ ، الإرادة‌ ) ، أو ( الرأي‌ ، العاطفة‌ ، الموقف‌ ) بعد أن‌ انفلقت‌ الشخصية‌ و اختلّت‌ و ظهر عليها الارتباك‌ و القلق‌ ، يعود الانسجام‌ مرة‌ أخرى‌ إلى شخصية‌ الإنسان ، و لكن هذه‌ المرة‌ في‌ خط‌ معاكس‌ تماماً ، و في‌ اتجاه ‌سلبي‌ باتجاه‌ عداء الله و رسوله‌ و أوليائه‌ .

الأطوار الثلاثة‌ في‌ حياة‌ الإنسان

و من‌ صور ذلك‌ نجد أن‌ّ هناك‌ ثلاثة‌ أطوار للإنسان‌ :
الطور الأول‌ : الانسجام‌ بين‌ القلوب‌ و السيوف‌ في‌ اتجاه‌ الحق‌ .
الطور الثاني‌ : التخالف‌ بين‌ القلوب‌ و السيوف‌ بين‌ الحق‌ و الباطل‌ .
الطور الثالث‌ : الانسجام‌ بين‌ القلوب‌ و السيوف‌ في‌ اتجاه‌ الباطل‌ .

الحالة‌ الأولى

حالة‌ الانسجام‌ بين‌ القلوب‌ و السيوف‌ هي‌ حالة‌ فطرية‌ و سليمة ‌و صحيحة‌ ، و فيها تجتمع‌ البؤر الثلاث‌ : ( العقل‌ ، القلب‌ ، الإرادة‌ ) فتُرجم ‌العمل‌ بالإرادة‌ .
هذه‌ الحالة‌ هي‌ حالة‌ الانسجام‌ و الاستقامة‌ و القوة‌ ، لان‌ّ اجتماع‌ هذه‌ البؤر الثلاث‌ يمنح‌ الإنسان القوة‌ ، و هي‌ حالة‌ طبيعية‌ و فطرية‌ ، و هذه‌ البؤر الثلاث‌ تتبادل‌ التأثير فيما بينها ، و بعضها يؤثّر في‌ البعض‌ الآخر .
و من‌ آثار هذه‌ الحالة‌ : إن‌ّ الإنسان يعيش‌ مطمئنّاً لا يعاني‌ من‌ القلق‌ ، لان‌ّ الراحة‌ النفسية‌ ليست‌ في‌ الأمن‌ و الرفاه‌ ، و إنما في‌ الاّنسجام‌ بين‌ البؤر الداخلية‌ لشخصية‌ الإنسان باتجاه‌ الفطرة‌ ، و يتكامل‌ الإنسان في‌ هذه‌ الحالة‌ و ينمو بصورة‌ سويّة‌ .

الحالة‌ الثانية‌

هي‌ حالة‌ تخالف‌ القلوب‌ و السيوف‌ عندما تخضع‌ إرادة‌ الإنسان‌ لعامل‌ الترغيب‌ و الترهيب‌ من‌ ناحية‌ الطاغوت‌ ، و الطاغوت‌ يعمل ‌لاحتلال‌ البؤر الثلاث‌ جميعاً ، و أول‌ قلعة‌ تسقط‌ هي‌ قلعة‌ الإرادة‌ تحت‌ ضغط‌ الإرهاب‌ ، و هذه‌ هي‌ بداية‌ السقوط‌ و المرحلة‌ الأولى‌ من‌ الردّة‌ ، و يبقي‌ العقل‌ و القلب‌ مستقرّين‌ ، و إن أول‌ انهيار يصيب‌ الإنسان في ‌مواقفه‌ العملية‌ و الرسمية‌ و البارزة‌ هو استسلامه‌ لضغط‌ الطاغوت‌ .
و الحالات‌ التي‌ ذكرناها سابقاً تنعكس‌ ، فيفقد الإنسان الراحة‌ و حالة‌ الاطمئنان‌ و الانسجام‌ النفسي‌ ، و يعاني‌ من‌ القلق‌ و عدم‌ الانسجام‌ ، و يضعف‌ و يفقد صبغة‌ الله في‌ شخصيته‌ و يفقد النمو ، و هذه‌ المرحلة‌ هي ‌مرحلة‌ ( الضعف‌ ) في‌ شخصية‌ الإنسان ، و يعمل‌ الضمير في‌ استعادة ‌التوازن‌ و التعادل‌ و الانسجام‌ ، فإذا نجح‌ فلا بدّ أن‌ تعود الشخصية‌ إلى توازنها في‌ انسجامها ، وإلا فإن الإنسان يسقط‌ إلى المرحلة‌ الثالثة‌ ، و يدخل‌ الضمير في‌ صراع‌ عنيف‌ في‌ المرحلة‌ الثانية‌ ، و ينقسم‌ الناس‌ فيها إلى شطرين‌ : شطر من‌ نموذج‌ شخصية‌ ( الحرّ ) يملك‌ ضميراً سليماً قوياً يعيده‌ إلى الله مرة‌ أخرى ، و شطر من‌ نموذج‌ ( عمر بن‌ سعد ) لا يملك‌ الضمير القوي‌ فيسقط‌ إلى المرحلة‌ الثالثة‌ ( المرحلة‌ الثانية‌ من‌ السقوط‌ ) .

الحالة‌ الثالثة‌

في‌ هذه‌ الحالة‌ يعود الانسجام‌ مرة‌ أخرى بين‌ البؤر الثلاث‌ ، و لكن في ‌اتجاه‌ السقوط‌ و الباطل‌ ، و كأن‌ الإنسان في‌ داخله‌ يطلب‌ الانسجام‌ ، فإذا لم ‌يتمكن‌ في‌ اتجاه‌ الحق‌ و ضعف‌ الضمير من‌ استعادة‌ الانسجام‌ في‌ طرف‌الحق‌ّ ، فإن الانسجام‌ يعود في‌ طرف‌ الباطل‌ ، فيكون‌ قلب‌ الإنسان و عقله ‌باتجاه‌ إرادته‌ و عمله‌ ، و هذه‌ هي‌ مرحلة‌ الصفر من‌ سقوط‌ الإنسان يستفرغ‌ فيها ( الطاغوت‌ ) و ( الهوى‌ ) الضمير ، و يحتلاّن‌ ( العقل‌ ) و ( القلب‌ ) ، و عندئذٍ يحتل‌ الطاغوت‌ المعاقل‌ الثلاثة‌ جميعاً لشخصية‌ الإنسان ، إضافة ‌إلى‌ استفراغ‌ الضمير من‌ كل‌ ما أودع‌ الله تعالى‌ فيه‌ من‌ المقاومة‌ ، و هي‌ حالة‌ الصفر في‌ شخصية‌ الإنسان ، و عندئذٍ تنقطع‌ الرحمة‌ الإلهية‌ عن‌ الإنسان ، لان‌ّ الرحمة‌ تنزل‌ على الضمير و القلب‌ و العقل‌ و الإرادة‌ ، فإذا نفذت‌ و استهلكت‌ جميعاً و صُودرت‌ فلا يبقى موقع‌ لنزول‌ رحمة‌ الله ، و هذه‌ حالة‌ ( الكفر ) ، و هناك‌ حالة‌ أخرى‌ تحت‌ الكفر ( تحت‌ الصفر ) ، و هي‌ حالة‌ ( النفاق‌ ) ، و في‌ هذه‌ الحالة‌ تعود السيوف‌ إلى جانب‌ الحق‌ ، و لكن للمكر بالحق‌ و ليس‌ استجابة‌ له‌ ، تبقى‌ القلوب‌ متعلّقة‌ بالباطل‌ ، و هذه‌ الحالة‌ تحت ‌الكفر ، لان‌ّ القلوب‌ لا تزال‌ فاقدة‌ في‌ هذه‌ المرحلة‌ للإيمان‌ و الوعي ‌و النور ، و لذلك‌ يقول‌ الله تعالى‌ : ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ... 4 .

آثار و نتائج‌ الجزع‌ من‌ الموت‌ في‌ المجتمع‌

لظاهرة‌ الجزع‌ من‌ الموت‌ آثار سلبية‌ واسعة‌ على حياة‌ الإنسان فهي ‌تسلب‌ الناس‌ القدرة‌ على المقاومة‌ ، و تمكّن‌ منهم‌ الطاغية‌ ، و تستنفذ ما أودع‌ الله تعالى‌ في‌ ضمائرهم‌ من‌ مقاومة‌ و في‌ إرادتهم‌ من‌ قوّة‌ و في‌نفوسهم‌ من‌ وعي‌ ، و من ثم‌ّ تستفرغ‌ كل‌ ما أودع‌ الله تعالى‌ في‌ نفوس‌ الناس‌من‌ قيم‌ و الأخلاق و إرادة‌ و مقاومة‌ .
و هذه‌ الحالة‌ من‌ الاستفراغ‌ و الاستنفاذ هي‌ حالة‌ الاستخفاف‌ التي‌ يذكرها الله تعالى‌ في‌ منهج‌ تعامل‌ الطغاة‌ مع‌ الناس‌ : ﴿ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ ... 5 ، إن ‌ّ فرعون‌ لم‌ يكن‌ يقدر على تطويع‌ الناس‌ لإرادته‌ و سلطانه‌ ، لولا إنه‌ استنفذ ما أودع‌ الله تعالى‌ في‌ نفوسهم‌ من‌ قيم‌ و أخلاق‌ و مقاومة‌ و إرادة و ضمير ، و عندئذٍ يكون‌ وزن‌ الإنسان‌ خفيفاً ، و ينقلب‌ إلى حالة‌ عائمة‌ من‌ التبعية‌ الكاملة‌ للطاغية‌ ، و أساس‌ هذه‌ الحالة‌ الإرهاب و هي‌ الأداة‌ المفضّلة‌ لدى المستكبرين‌ ، و ( الجزع‌ من‌ الموت‌ ) و ( الخوف‌ ) هو التربة‌ الصالحة‌ لزرع‌ الإرهاب في‌ المجتمع‌ .

المناهج‌ التربوية‌ لمكافحة‌ هذه‌ الحالة‌

و اهم‌ّ هذه‌ المناهج‌ منهجان‌ :
1 ـ تقصير الأمل‌ في‌ الحياة‌ الدنيا .
2 ـ تركيز الشوق‌ إلى لقاء الله تعالى‌ .
وهما من‌ أفضل‌ المناهج‌ التربوية‌ لمكافحة‌ حالة‌ الجزع‌ و الرهبة‌ من‌ الموت‌ ، و هناك‌ مناهج‌ حركية‌ لا يسعنا المجال‌ استعراضها و الحديث‌ عنها .
و المنهج‌ الأول‌ هو تقصير الأمل‌ في‌ الدنيا ، و ترقيق‌ العلاقة‌ بالدنيا ، فإن ‌ّ شدّة‌ التعلّق‌ بالدنيا و طول‌ الأمل‌ فيها من‌ اكبر الاُصر و الأغلال‌ التي‌ تعيق‌ حركة‌ الإنسان إلى الله ، فإذا تحرّر الإنسان منها خف‌ّ للقاء الله تعالى‌ ، و لم‌ يرهبه‌ الموت‌ و لم‌ يعبا به‌ ، وقع‌ الموت‌ عليه‌ أم‌ وقع‌ هو على الموت‌كما قال‌ علي‌ الأكبر ( عليه السلام ) لأبيه‌ عندما قارب‌ كربلاء :
" روى‌ أبو مخنف‌ عن ‌عقبة‌ ابن‌ سمعان‌ قال‌ : لما كان‌ السحر من‌ الليلة‌ التي‌ بات‌ الحسين‌ ( عليه السلام ) عند قصر بني‌ مقاتل‌ أمرنا الحسين‌ بالاستسقاء من‌ الماء ، ثم‌ّ أمرنا بالرحيل ‌ففعلنا ، فلما ارتحلنا عن‌ قصر بني ‌مقاتل‌ خفق‌ برأسه‌ خفقة‌ ثم‌ّ انتبه‌ و هو يقول‌ : إنا لله و انّا إليه‌ راجعون‌ ، و الحمد لله رب‌ّ العالمين‌ ، ثم‌ّ كرّرها مرتين‌ أو ثلاثاً ، فأقبل‌ إليه‌ ابنه‌ علي‌ بن‌ الحسين‌ ( عليه السلام ) وكان‌ على فرس‌ له‌ .
فقال‌ : إنا لله و إنا إليه ‌راجعون‌ ، و الحمد لله رب‌ّ العالمين‌ ، يا أبت‌ ، جُعلت‌ فداك‌ مِم‌َّ استرجعت‌ و حمدت‌ الله ؟
فقال‌ الحسين‌ ( عليه السلام ) : يا بني‌ّ ، إني‌ خفقت‌ راسي‌ خفقة‌ فعن‌ّ لي‌ فارس‌ على فرس‌ ، فقال‌ : القوم‌ يسيرون‌ و المنايا تسري‌ إليهم‌ ، فعلمت‌ أنها أنفسنا نُعيت‌ إلينا .
فقال‌ له‌ : يا أبت‌ ، لا أراك‌ الله سوءاً ، السنا على الحق‌ ؟
قال‌ : بلى‌ و الذي‌ إليه‌ مرجع‌ العباد .
قال‌ : يا أبت‌ ، إذن‌ْ لا نبالي‌ ، نموت‌ محقّين‌ .
فقال‌ له‌ : جزاك‌ الله خير ما جزى‌ ولداً عن‌ والده‌ " .
و المنهج‌ الآخر تركيز الشوق‌ إلى لقاء الله من‌ خلال‌ الموت‌ ، فإن ‌ّالموت‌ للمؤمن‌ نافذة‌ إلى لقاء الله ، و لقاء الله للمؤمنين‌ لذّة‌ لا تفوقها لذّة‌ ، و الحياة‌ الدنيا تحجبه‌ عن‌ لقاء الله ، فإذا حل‌ّ به‌ الموت‌ زال‌ من‌ بصره‌ هذا الحجاب‌ ﴿ ... فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ 6 ، و عندئذٍ ينظر المؤمن‌ إلى أسماء الله و صفاته‌ الحسنى‌ و جلاله‌ و جماله‌ و جبروته ‌و كبريائه‌ تعالى‌ من‌ غير حجاب‌ ، و هو أعظم‌ اللّذات‌ عند المؤمنين‌ ، أين ‌منها الجنة‌ و نعيمها و حورها و ما خلق‌ الله فيها من‌ نعيم‌ ؟
و في‌ مكارم‌ الأخلاق‌ عن‌ رسول‌ الله ( صلى الله عليه و آله ) : " يا بن‌ مسعود ، قصّر املك‌ ، فإذا اصبحت‌ فقل‌ : إني‌ لا اُمسي‌ ، و إذا امسيت‌ فقل‌ : إني‌ لا اُصبح‌ ، و اعزم‌ على مفارقة‌ الدنيا ، و أحب‌ لقاء الله و لا تكره‌ لقاءه‌ ، فإن الله يحب‌ّ لقاء مَن‌ يحب‌ّ لقاءه‌ ، و يكره‌ لقاء من ‌يكره‌ لقاءه‌ " .
و عن‌ رسول‌ الله ( صلى الله عليه و آله ) : " إن‌ّ النور إذا دخل‌ الصدر انفسح‌ .
قيل‌ : هل‌ لذلك‌ من‌ علم ‌يعرف‌ به‌ ؟
قال‌ : نعم‌ التجافي‌ عن‌ دار الغرور ، و الإنابة‌ إلى دار الخلود ، و الاستعداد للموت‌ قبل‌ نزوله‌ " .
و عن‌ علي‌ ( عليه السلام ) : " شوّقوا أنفسكم‌ إلى نعيم‌ الجنة‌ تحبّوا الموت‌ و تمقتوا الحياة‌ " .

مشهد من‌ مشاهد الاستماتة‌ في‌ الطف‌

و فيما يلي‌ استعرضُ‌ مشهداً واحداً من‌ مشاهد الاستماتة‌ و الاستهانة‌ بالموت‌ و التشوق‌ إلى لقاء الله في‌ الطف‌ ، و هو من‌ أروع‌ ما يعرفه‌ التاريخ‌ برواية‌ السيد المقرّم‌ في‌ ( المقتل‌ ) .
جمع‌ الإمام أصحابه‌ و أهل‌ بيته‌ ليلة‌ العاشر من‌ المحرّم‌ ، و طلب‌ منهم‌ أن‌ ينطلقوا في‌ رحاب‌ الأرض‌ و يتركوه‌ وحده‌ ، و قد أراد أن‌ يكونوا على ‌هدى‌ و بيّنة‌ من‌ أمرهم‌ ، فقال‌ لهم‌ :
" اُثني‌ على الله أحسن‌ الثناء ، و احمده‌ على السرّاء و الضرّاء ، اللّهم‌ إني‌ أحمدك‌ على‌ أن‌ أكرمتنا بالنبوّة‌ ، و جعلت‌ لنا أسماعاً و أبصاراً و أفئدة‌ و علّمتنا القرآن‌ ، و فقّهتنا في‌ الدّين‌ فاجعلنا لك‌ من‌ الشاكرين‌ .
أمّا بعد ، فإني‌ لا اعلم‌ أصحاباً أوفى‌ و لا خيراً من ‌أصحابي‌ ، و لا أهل‌ بيت‌ ابرّ و لا أوصل‌ من‌ أهل‌ بيتي‌ ، فجزاكم‌ الله جميعاً عني‌ خيراً ، ألا وإني‌ لأظن‌ يومنا من‌ هؤلاء الأعداء غداً ، و إني‌ قد أذنت‌ لكم‌ جميعاً فانطلقوا في‌ حل‌ِّ ليس‌ عليكم‌ منّي‌ ذمام‌ ، هذا الليل‌ قد غشيكم‌ فاتخذوه‌ جملاً ، و ليأخذ كل‌ رجل‌ منكم‌ بيد رجل‌ من‌ أهل‌ بيتي‌ فجزاكم‌ الله جميعاً ، ثم‌ تفرّقوا في‌ البلاد في‌ سوادكم‌ و مدائنكم‌ حتّى يفرّج‌ الله فإن القوم‌ إنما يطلبونني‌ ، و لو أصابوني‌ لَهَو عن‌ طلب‌ غيري‌ " .
جواب‌ أهل‌ بيته‌ :
و لم‌ يكد يفرغ‌ الإمام من‌ كلماته‌ حتّى هبّت‌ الصفوة‌ الطيّبة‌ من‌ أهل ‌بيته‌ ، و هم‌ يعلنون‌ اختيار الطريق‌ الذي‌ يسلكه‌ ، و يتّبعونه‌ في‌ مسيرته‌ و لا يختارون‌ غير منهجه‌ ، فانبروا جميعاً و عيونهم‌ تفيض‌ دموعاً ، قائلين‌ :
" لِم‌َ نفعل‌ هذا ؟ لنبقيى بعدك‌ ؟ لا أرانا الله ذلك‌ أبداً " .
بداهم‌ بهذا القول‌ أخوه‌ أبو الفضل‌ العبّاس‌ ، و تابعته‌ الفتّية‌ الطيّبة‌ من ‌أبناء الاُسرة‌ النبويّة‌ ، و التفت‌ الإمام إلى أبناء عمّه‌ من‌ بني‌ عقيل‌ فقال‌ لهم‌ :
" حسبكم‌ من‌ القتل‌ بمسلم‌ ، اذهبوا فقد أذنت‌ لكم‌ " .
و هبّت‌ فتية‌ آل‌ عقيل‌ تتعالى‌ أصواتهم‌ قائلين‌ بلسان‌ واحد :
" وما نقول‌ للناس‌ ؟ نقول‌ : تركنا شيخنا و سيّدنا و بني‌ عمومتنا خير الأعمام‌ ، و لم‌ نرم‌ معهم‌ بسهم‌ ، و لم‌ نطعن‌ معهم‌ برمح‌ ، و لم‌ نضرب‌ بسيف‌ ، و لا ندري‌ ما صنعوا ؟ لا والله لا نفعل‌ ، و لكننا نفديك‌ بأنفسنا و أموالنا و أهلينا ، و نقاتل‌ معك‌ حتّى‌ نرد موردك‌ ، فقبّح‌ الله العيش‌ بعدك‌ " .
جواب‌ أصحابه‌ :
إنبري‌ مسلم‌ بن‌ عوسجة‌ و دموعه‌ تتبلور على وجهه‌ ، فخاطب‌ الإمام قائلاً :
" أ نحن‌ نخلّي‌ عنك‌ ؟ و بماذا نعتذر إلى الله في ‌أداء حقك‌ ؟ أما والله لا اُفارقك‌ حتّى‌ أطعن‌ في‌ صدورهم‌ برمحي‌ ، و أضرب‌ بسيفي‌ ما ثبت‌ قائمه‌بيدي‌ ، و لو لم‌ يكن‌ معي‌ سلاح‌ اُقاتلهم‌ لقذفتهم‌ بالحجارة‌ حتّى‌ أموت ‌معك‌ " .
و تكلّم‌ سعد بن‌ عبد الله الحنفي‌ قائلاً : " والله لا نخلّيك‌ حتّى‌ يعلم‌ الله إنّا قد حفظنا غيبة‌ رسوله‌ فيك‌ ، أما والله لو علمت‌ أني‌ اُقتل‌ ، ثم‌ّ أحيا ، ثم‌ّ اُحرق‌ ، ثم‌ اُذرى‌ ، يفعل‌ بي‌ ذلك‌ سبعين‌ مرّة‌ لما فارقتك‌ حتّى القى‌ حمامي‌ دونك‌ ، و كيف‌ لا افعل‌ ذلك‌ و إنما هي‌ قتلة‌ واحدة‌ ، ثم‌ هي‌ الكرامة‌ التي‌ لا انقضاء لها ابداً " ؟
و قال‌ زهير : " والله لوددت‌ انّي‌ قُتلت‌ ثم‌ نُشرت‌ ، ثم‌ قتلت‌ حتّى ‌اُقتل‌ كذا ألف‌ مرّة‌ ، و إن الله عزّ و جل‌ يدفع‌ بذلك‌ القتل‌ عن‌ نفسك‌ و عن ‌أنفس‌ هؤلاء الفتيان‌ من‌ أهل‌ بيتك‌ ... " .
و انبري‌ بقية‌ أصحاب الإمام فأعلنوا الترحيب‌ بالموت‌ في‌ سبيله‌ و التفاني‌ في‌ الفداء من‌ اجله‌ ، فجزَّاهم‌ الإمام خيراً ، و أكَّد لهم‌ جميعاً أنهم‌سيُلاقون‌ حتفهم‌ فهتفوا جميعاً :
" الحمد لله الذي‌ أكرمنا بنصرك‌ ، و شرّفنا بالقتل‌ معك‌ ، أو لا نرضى‌ أن‌ نكون‌ معك‌ في‌ درجتك‌ يابن‌ رسول‌ الله ؟ " .
لقد اختبرهم‌ الإمام فوجدهم‌ من‌ خيرة‌ الرجال‌ صدقاً و وفاءً ، قد أشرقت‌ نفوسهم‌ بنور الإيمان‌ ، و تحرّروا من‌ جميع‌ شواغل‌ الحياة‌ ، و كانوا ـ فيما يقول‌ المؤرخون‌ ـ في‌ ظمأ إلى الشهادة‌ ليفوزوا بنعيم‌ الآخرة‌ .
و قال‌ محمد بن‌ بشير الحضرمي‌ ـ و كان‌ قد بلغه‌ أن‌ّ ابنه‌ قد اُسر بثغر الرّي‌ ـ فقال‌ : ما اُحب‌ أن‌ يؤسر ابني‌ و انا ابقى‌ بعده‌ حيّاً ، فاستشعر الإمام من ‌هذه‌ الكلمات‌ رغبته‌ في‌ إنقاذ ابنه‌ من‌ الأسر ، فأذن‌ له‌ في‌ التخلي‌ عنه‌ قائلاً : أنت‌ في‌ حل‌ّ فاعمل‌ في‌ فكاك‌ ولدك‌ .
فقال‌ : " أكلتني‌ السباع‌ حياً إن ‌فارقتك‌ ... " .
فلمّا أن‌ استوثق‌ الحسين‌ من‌ إقبالهم‌ على الموت‌ و عزمهم‌ على ‌الشهادة‌ في‌ سبيل‌ الله قال‌ لهم‌ : " يا قوم‌ ، إني‌ غداً اُقتل‌ ، و تقتلون‌ كلكم‌ معي‌ ، و لا يبقى منكم‌ واحد " .
فقالوا : الحمد لله الذي‌ أكرمنا بنصرك‌ ، و شرّفنا بالقتل‌ معك‌ ، أولا ترضى‌ أن‌ نكون‌ معك‌ في‌ درجتك‌ يابن‌ رسول‌ الله ؟
فقال‌ : جزاكم‌ الله خيراً ، و دعا لهم‌ بخير .
فقال‌ له‌ القاسم‌ بن‌ الحسن‌ ( عليه السلام ) : " و أنا فيمن‌ يُقتل‌ ؟
فأشفق‌ عليه‌ ، فقال‌ : يا بنيَّ كيف‌ الموت‌ عندك‌ ؟
قال‌ : يا عم‌ احلي‌ من‌ العسل‌ " .
فقال‌ : إي‌ والله فداك‌ عمّك‌ ، إنك‌ لأحد مَن‌ يُقتل‌ من‌ الرجال‌ معي‌ بعد أن‌ تبلوَ ببلاء عظيم‌ ، و ابني‌ عبد الله ( الرضيع‌ ) " .
محمد مهدي‌ الآصفي
المجمع‌ العالمي‌ لأهل‌ البيت‌ : قم‌ المقدسة

لمزيد من المعلومات يمكنكم مراجعة الروابط التالية: