الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

التعارف منطلق الحضارة الإيمانية

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ * قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ 1.
لا شك أن الإنسان بحاجة ماسة إلى هزة عنيفة ، أو إلى هزات عنيفة متواصلة لئلا يصاب بداء الخلود إلى الأرض ؛ الأرض ذات الجذب الشديد ، بما فيها من الرغبات الجامحة إلى إبقاء ما كان على ما كان ، واستصحاب التراث ، واستصعاب التغيير والتحول والتطور ، والبقاء على ما هو عليه . . تبعاً إلى أن حقيقة التغيير والتطور بحاجة إلى ثمن‏ مناسب ، عادةً ما يبخل المرء في بذله . .
ولعل الفرق الأساسي بين الإنسان من جهة ، والحيوانات والنباتات والجمادات من جهة أخرى يكمن في أن ابن آدم ذو قابلية وقدرة على التطور ، بل وذو فطرة تدفعه إلى التحول . . ولكن انجذابه إلى الأرض هو الذي يؤثر فيه ويحاول قمع‏تلك الفطرة النزيهة . ولكن المخلوقات الأخرى المشار إليها مجبولة على الثبات والبقاء والمراوحة في مكانها ؛ فالجماد ـ كما هو واضح ومعروف ـ يبقى في مكانه ما شاء اللَّه ، حتى يأتي من يحركه ويزحزحه عن مكانه الذي هو قابع فيه .
إن الإنسان السويَّ الأصيل معابٌ عليه أن يبقى على حاله ، لأن رأس ماله الوحيد هو عمره وأيام حياته في الدنيا ، فإذا لم يحصل على الفائدة المرجوة ـ التي لا تتحقق أبداً دون تغيير وتطور ـ والمغنم الجديد ، سيكون كمن قدّم ما لديه دون‏قبضه شيئاً وثمناً لذلك أبداً .
لقد ورد في الرواية الكريمة عن الإمام جعفر الصادق ‏عليه السلام : ( من استوى يوماه فهو مغبون ، ومن كان آخر يومه شرهما فهو ملعون ، ومن لم يعرف الزيادة في نفسه كان إلى النقصان أقرب ، ومن كان إلى النقصان‏أقرب فالموت خير له من الحياة ) 2 . فالعمر يتجه إلى الانقضاء ، ولا توقف ـ أبداً ـ في هذا التوجه والمسيرة ،في حين أن ابن آدم قد يصرف عمره ولا يحصل على ما ينفعه ، وهو إن لم يحقق التطور والتغيير والتحول في كيانه وفيما حوله ، فإن حياته ستكون إلى غبن وخسران وهباءٍ . .
واستناداً إلى هذا المنطلق وهذه الاستراتيجية السامية نلاحظ أن القرآن الكريم حينما يحدّث الإنسان كأكرم مخلوق ـ أو هكذا يفترض فيه ـ ، يبعث في ضميره صاعقةً تجري في دمه كما التيار الكهربائي القوي ، ليوقظه من غفلته ، ولينفض عنه‏ غبار الكسل والجمود .
وقد أخذ القرآن الكريم عيّنة مثيرة وجديرة بالتوجه لإثبات هذه الحقيقة ، وهي قصة الأعراب الذين قالوا آمنا ولم‏ يكن الإيمان قد دخل إلى قلوبهم بعد . . نظراً لأنهم يعيشون في الصحراء ويتنقلون بين منازلها ، بحثاً عن الماء والكلأ ، فلا يجدون فرصة لتحصيل العلم والمطالعة والتثقف . . حتى أن اللَّه سبحانه وتعالى قال عنهم في كتابه : ﴿ الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا ... 3، ولعلهم كانوا من بني سليم الذين نزلوا المدينة فوجدوا أهل المدينة أناساً متثقفين‏ بثقافة الإسلام على يد رسول اللَّه‏ صلى الله عليه وآله وسلم ، ويقرؤون القرآن ويتداولون الأحاديث النبوية الشريفة . . فظنوا جهلاً أن‏ القضية قضية يسيرة ؛ لا تعب ولا نصَب فيها . . فـ ﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ... 4. فقال لهم اللَّه عز وجل : ﴿ ... قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ 4 . إذ الإيمان أمر بحاجة لئن تستوعبه الأفئدة وتمارسه الجوارح .
ففي هذه القصّة والعيّنة القرآنية أوضح اللَّه تبارك أسمه مجموعة حقائق تمثل محور الإسلام ونظرته إلى ما ينبغي أن يكون‏ عليها الإنسان ، وأكد القرآن عبر ذلك أن للإيمان شروط ثلاثة :

  1. القول وتلفظ الشهادتين ، كمدخل إلى الإيمان ، في حين أن الأعراب اكتفت ـ جهلاً ـ بهذا المقدار .
  2. العقد بالقلب ، وهذا هو أصل الإيمان وجوهره .
  3. العمل ، وأشار إلى ذلك قوله سبحانه : ﴿ ... لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ... 4. فقولٌ بلا قلبٍ ، وقلبٌ بلا عملٍ ، لا يعني شيئاً أبداً ، إذ الكل جزءٌ لا يتجزأ مهما تقلبت الأحوال واختلفت الظروف . . ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ 5، و ﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ﴾ 6، وكفى بالعمل شعاراً رفعه الإسلام على مدى التاريخ . . العمل الذي يقف خلفه قلب نظيف .

وهذه هي الهزة العنيفة والصعقة التوحيدية التي نزل بها الوحي المقدس على قلب الإنسان ليحرك فيه فطرته ، ويبعث‏ فيه روح التطور والتحول إلى الأحسن .
يقول اللَّه تقدست أسماؤه : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ... 7فاللَّه لم يخلق الناس بجنسيات أو ضمن حدود جغرافية معينة . فالأرض كانت كلها لآدم وحواء عليهما السلام دون‏ حدود أو تمايز أو حواجز ، وكان دم الإنسان واحداً وتركيبته واحدة . ثم إن اللَّه سبحانه قسم الناس تقسيماً كانت الحاجة إليه ضرورية لإحراز التكامل الإنساني وبنائه ، فجعلهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا فيما بينهم ويعترفوا بالعوامل المكمّلة لبعضهم البعض .
أقول : إن المادة الإنسانية الأولى كانت واحدة ، ولكن التقسيمات جاءت على أساس ضروري وعادل لحكمة أخرى .
إن التعارف هو الاعتراف ، فضلاً عن المعرفة والتعرف . فيعترف البعض بحقوق الآخرين ويسلّم بوجودهم ، فلا يسخر قوم من قوم ، ولا يحتقر بعض بعضاً ، حتى يكون الجميع على صعيد واحد ، ينظرون إلى الحياة على أنها ميدان للتكامل‏من جهة ، وللتسابق إلى الكمال والسمو من جهة أخرى .
وهذا يعني امتناع الأغنياء عن احتقار الفقراء ، وامتناع الأقوياء عن مصادرة حقوق الضعفاء . .
إن الإنسان المسلم لا يعترف بحق المسلمين فحسب ، بل هو مأمور وملزم بالاعتراف بحقوق كل إنسان . . والحديث‏الشريف المروي عن رسول اللَّه‏صلى الله عليه وآله وسلم يؤكد بهذا الصدد : ( لكل كبدٍ حرّا أجر ) 8 ؛ أي أن المسلم إذا صادف‏ كافراً مشرفاً على الهلاك عطشاً في صحراء ـ مثلاً ـ عليه أن يسقيه الماء ، ليحصل على الثواب والأجر . وهكذا عمل‏ أمير المؤمنين‏ عليه السلام في معركة صفين ، حيث أباح الماء لجيش معاوية الذين جاؤوا لقتاله ، وهو الجيش نفسه الذي كان قد منع على أصحابه الماء بادئ الأمر ، رغم أن علياً عليه السلام كان بإمكانه منع جيش معاوية من الماء كردّ المثل بالمثل . وهكذا أيضاً قام الإمام الحسين‏ عليه السلام بسقي الذين خرجوا لحربه الماء ، رغم علمه بأنهم قاتلِوه لا محالة ، ورغم أنه يعلم ويعي‏ حقيقة أن الخارج على إمام زمانه محكوم بالكفر ، ولكنه سقاهم ـ حتى بيديه الكريمتين مباشرةً ـ ليؤكد لهم وللتاريخ‏ الأصل الإسلامي الأصيل القائل بضرورة احترام حقوق الإنسان كإنسان . وقد قال الإمام أمير المؤمنين‏ عليه السلام في‏ معرض عهده لمالك الأشتر النخعي حينما بعثه إلى مصر والياً : ( فإنهم ( الناس‏ ) صنفان ؛ إما أخٌ لك في‏الدين أو نظيرٌ لك في الخلق‏ ) 9 . وهذا لعمري إقرار تام وصريح ومطلق بحرمة الإنسان ، وهو دعوة مباشرة للاعتراف بحقوق الإنسان في المبدأ والعيش .
إن من الواجب الصريح على كل إنسان أن يسعى جهده ليسد أبواب الظلم والبغي والاعتداء والخداع ، وليفتح باباً واحدة هي باب التنافس الشريف والمسابقة إلى الخير . فكل منّا ليس له الحق في مصادرة حق جاره أو صديقه ، بل على‏الجميع أن يبحثوا عن طريق لاستصلاح الأرض والاستفادة من الإمكانات الواسعة والطائلة في هذه الأرض ، فيحصلوا على رزقهم ، دون المساس برزق الآخرين عن طريق الغزو والاعتداء والتطاول . وقد قال تبارك وتعالى : ﴿ ... إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ... 7. فابن آدم في غناً مطلقٍ عن حطام الدنيا والتشاجر من أجله عبر الحروب ‏وافتعال الأزمات التي يقع ضحيتها الفقير والضعيف .
ها هو كتاب اللَّه ؛ خالق الخلق جميعاً ، يخاطبهم بقوله المبارك : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ... 7، ويدعوهم إلى التعارف ، لأن‏ التعارف والاعتراف ينتجان المحبة والتفاهم ، ولذلك كان من الأمور الهامة في الإسلام هو التعرف إلى الناس والسير في‏ الأرض . وقد كان من الفوائد الجمة لفريضة الحج هو أن يشهد الناس منافع لهم ، لأن الجميع يجب عليهم أن يقصدوا بيت‏ اللَّه الحرام ومجمل البقاع المقدسة هناك ليتعارفوا فيما بينهم .
إننا كمسلمين وموالين لأهل البيت عليهم الصلاة والسلام ملزمون بالتعايش السلمي فيما بيننا ، وملزمون بأن ندعو الآخرين إلى ذلك ، فنعترف ببعضنا ، ونتنافس تنافساً شريفاً وكريماً قائماً على أساس التقوى ، وليس على أساس‏ العدوان . فإذا كانت دعوتنا إلى الناس هي التعايش والتنافس ، فيكون من الأحرى بنا أن ندعو أنفسنا قبل ذلك بهذه‏ الدعوة .
لقد أضحى من المؤسف جداً أن القاعدة التي تقوم عليها مجتمعاتنا قاعدة هشة مضطربة ، إذ ما أن تحدث مشكلة ما ، أو يقع اختلاف بين مجموعتين أو شخصين مشتركين في العمل ، حتى تراهما يفترقان في خضم جوٍ من تبادل التهم‏ والافتراءات . . وهذا الواقع المؤسف ليس هو الذي حرضنا عليه ربنا وشريعتنا في الحياة!!
فإلى مَ نعيش مثل هذه الأجواء الموجودة ؟ ومتى نحاسب أنفسنا ونقودها باتجاه ما أوصى به القرآن وما دعانا إليه النبي‏ وأهل بيته‏ عليهم السلام ؟
وقد قال الشاعر :
الأممُ الأخلاقُ ، ما بقيت بقوا
وإنْ هُمُ ذهبتْ أخلاقُهم ذهبوا
أما الحديث الشريف المروي عن الإمام محمد الباقر عليه السلام ، يقول : ( وإنَّ اليمين الكاذبة وقطيعة الرحم لتذران‏ الديار بلاقع من أهلها ) 10 . فترى ما هي العلاقة بين اليمين الكاذبة وبين انهدام المجتمع وتلاشي الحضارة وخراب‏البلاد ؟!
والجواب ؛ إن ما يجمع الناس هو الثقة ، وأن أساس الحضارة هو الثقة المتبادلة بين أفرادها ، فإذا تبخرت الثقة تبخرت‏ معها الحضارة وتهدمت وتلاشت . واليمين الكاذبة لا تعني إلا محاولة قائلها استغفال الآخرين لاستغلالهم ، وحينما تتفشى‏ ثقافة الاستغلال هذه تذهب الحرمات . ولا شك أنه لا حضارة دون قوانين وحرمات ، والالتزام بالقوانين ورعاية للحرمات . .
وبهذا الصدد يقول الكاتب الجزائري مالك بن نبي كلمة جميلة ـ رغم تحفظنا عليها من وجهة النظر التاريخية و العقائدية ـ : لقد ارتفعت الأمة الإسلامية وسمت يوم آخى رسول اللَّه‏ صلى الله عليه وآله وسلم بين الأنصار والمهاجرين . . ولكن العد العكسي لهذا الارتفاع سرعان ما بدأ حينما اقتتل المسلمون في حرب صفين ، فأصبح مجتمعاً بلا أُخوّة .
ورغم ذلك أقول : نحن لدينا ـ بتوفيق اللَّه ـ بقايا من آثار الوحي ، وبقايا من أخلاق أجدادنا وآبائنا ، ولدينا بقايا من‏تعاليم ديننا . . ولكن هذه البقايا لم تعد تكفي لبناء حضارة ، والأمر الملحّ هنا هو تعميقها وتكريسها وتوسيعها ووضعها على أسس واضحة . . فلا يكون أكبرُ همِّ أحدنا التفكير بنفسه ، بل لابد من التفكير بالآخرين ومطالبهم واحتياجاتهم‏ وحقوقهم وحرماتهم . ومن طريف ما يذكر نتيجة الإحصائية التي أجريت في الولايات المتحدة الأميركية ، حيث علم‏أن معظم الكلمات المتبادلة عبر الهاتف هي كلمة ( أنا ) مما يعني تصاعد حدة الأنانية في هذا البلد ذي المظهر القوي . .
نعلم وتعلمون أن الحضارة تعني التقدم والازدهار ، ولكن هذا التقدم والازدهار ليس له أن يحدث في ظل السعي‏ الفردي البحث ، إذ اليد الواحدة عاجزة على التصفيق . .
فتعالوا إلى البدء بالضد من ذلك ، فنفكر بالفقراء في مقابل كل مرة نفكر بأنفسنا ، ولنسعَ إلى نجدة المحتاجين إزاء ما نوفر لأنفسنا المستلزمات ، ولننظر إلى من هو أدنى منا ، كما نتمنى مواقع من هم أعلى منّا . . وقد قال رسول اللَّه‏ صلى الله عليه وآله وسلم : ( من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم‏ ) 11 . فإن كنا عاجزين عن تقديم خدمات إلى ‏الناس ، فلنهتم بهم ونتعاطف معهم على الأقل ، لأن ذلك ينتهي إلى أن ننصفهم من أنفسنا من جهة ، وإلى أن اللَّه سبحانه‏ وتعالى حينما يرانا نهتم بالآخرين ، فإنه سينزل علينا رزقه الكريم ويفتح علينا أبواب رحمته إن شاء اللَّه تعالى 12 .