تقيمك هو: 4. مجموع الأصوات: 14
نشر قبل 4 سنوات
القراءات: 6797

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الغناء حرمته ومفاسده الاجتماعية

عندما نريد أن نتكلم أو نكتب حول موضوع ما له ارتباط بحياة البشر عموماً من وجهة نظر الإسلام، لا يمكننا أن نحكم عليه مجرداً عن رأي الشريعة فيه، لأن ذلك شططٌ من القول وبُعْدٌ ومجافاة للإسلام وإنكار لحقه في إعطاء رأيه، وهو مجاراة ومتابعة لكل الذين ينطلقون في حكمهم على الأشياء من ناحية المصلحة أو المفسدة باللحاظ الدنيوي فقط.

لهذا فإنه عند البحث عن "موضوع الغناء" في الإسلام، لا بد من تحديد رأي الشريعة فيه أولاً حيث نستقيه من المصدرين الأساسيين "القرآن والسنة"، إما عبر العثور على نصوص تتعرض لنفس الموضوع المبحوث عنه، أو عبر القواعد العامة الآخذة بعين الاعتبار التطورات اللاحقة لحياة البشر من خلال الحركة الدائمة للإنسان التي قد تبدع أشياء لم تكن موجودة بأعيانها زمن التشريع، لكن الشريعة الإسلامية لحظت وجودها ضمن القواعد العامة الآنفة الذكر.
وبالرجوع إلى عنوان البحث وهو "الغناء" نجد ورود هذا اللفظ في تفسير بعض الآيات، ونجده أيضاً ضمن نصوص كثيرة.

أولاً: الغناء في القرآن

1- قال تعالى ﴿ ذَٰلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴾ 1.
حيث ورد عن الإمام الصادق"عليه السلام" أن المراد من "قول الزور" الغناء، ثم قال "عليه السلام": (إن المؤمن عن جميع ذلك لفي شغل، ما له والملاهي؟ فإن الملاهي تورث النفاق)2.
2- قال تعالى ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ... 3.
حيث روي عن الأئمة الباقر والصادق والرضا"عليهم السلام" أن لهو الحديث شمل كل ما يلهي عن سبيل الله وعن طاعته من الأباطيل والمزامير والملاهي والأغاني، وقد ورد عن ابن مسعود أيضا بأن"لهو الحديث "هو"الغناء"4.
3- قال تعالى ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ﴾ 5.
حيث ورد في تفسيرها عن الصادقين الإمامين"عليهما السلام" بأنهم الذين لا يحضرون مجالس الغناء والباطل والفحش واللغو، وإذا مروا بأهل اللغو كرموا أسماعهم عنهم، ونزهوا ألسنتهم عن التفوه به أيضاً، وأعرضوا عنهم ولم يجاوروهم ولم يخوضوا معهم، فهذه صفة الكرام6.

ثانياً: الغناء في السنّة

أ- حرمته

1- عن رسول الله صلى الله عليه وآله (....وبعثني لمحق المعازف والمزامير وأمر الجاهلية)7.
2- عن رسول الله صلى الله عليه وآله يوم فتح مكة (إنما بعثت لكسر الدف والمزمار) فخرج الصحابة يأخذونها ويكسرونها8.
3- عن الإمام الصادق "عليه السلام" (الغناء أخبث ما خلق الله، الغناء شر ما خلق الله)9.
فمن مجموع الآيات والروايات نجد أن حرمة الغناء أمر مفروغ عنه في الشريعة الغراء ولا مجال للنقاش فيه، وإن كان المجال واسعا حول تحديد المعنى المحرم من الغناء كما سنبين ذلك لاحقاً.

ب- حرمة التكسب به

1- عن صفوان بن أمية قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله إذ جاءه عمر بن قرة فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وآله إن الله كتب علي الشقوة فلا أراني أرزق إلا بدفي بكفي، فأذن لي في الغناء من غير فاحشة؟! فقال صلى الله عليه وآله لا آذن لك ولا كرامه ولا نعمة! أي عدو الله، لقد رزقك الله طيباً، فأخذت ما حرمه عليك من رزقه وكان ما أحل الله لك من حلاله؟! أما إنك لو قلت بعد هذه المقالة، ضربتك ضرباً وجيعاً)10.

ج- حرمة الإستماع إليه

1- سئل الإمام الصادق"عليه السلام" عن الغناء؟ (فقال: لا تدخلوا بيوتاً، الله معرض عن أهلها)11.
2- روي عن الإمام الصادق"عليه السلام" (أنه سأله بعض أصحابه فقال: جعلت فداك إن لي جيراناً، ولهم جوار مغنيات يتغنين ويضربن بالعود، فربما دخلت بيت الخلاء فأطيل الجلوس استماعاً مني لهم؟ فقال الإمام "عليه السلام" (لا تفعل)، قال الرجل: والله ما هو شيء آتيه برجلي(أي أستمع باختياري أو أذهب بإرادتي)، إنما هو أسمع بإذني؟ فقال"عليه السلام": بالله أنت، أما سمعت قول الله تبارك وتعالى: ﴿ ... إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا 12؟ وأروي في تفسير هذه الآية أنه يسأل السمع عما سمع، والبصر عما نظر، والقلب عما عقد عليه. فقال الرجل: كأني لم أسمع بهذه الآية في كتاب الله عز وجل من عجمي ولا عربي، لاجرم أني قد تركتها، وأني استغفر الله! فقال الإمام"عليه السلام": إذهب واغتسل وصل ما بدا لك، فلقد كنت مقيماً على أمر عظيم، ما كان أسوأ حالك، لو كنت بت على هذا؟! إستغفر الله واسأل التوبة من كل ما يكره، فإنه لا يكره إلا القبيح، والقبيح دعه لأهله، فإن لكل قبيح أهلاً)13.

د- حرمة التواجد في مكان الغناء

1- من جلس الى قينة يسمع منها صب في أذنه الأنك "الرصاص" يوم القيامة14.
2-آية ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ... 5 15 } أي لا يحضرون مجالس اللهو والباطل والغناء وأمثال ذلك. ومما لا شك فيه أن تفسير اللغو أو الزور بالغناء، وكذلك الروايات تدل على الحرمة بما لا يحتاج الى مزيد بيان وتفصيل بعد.

ثالثا: معنى الغناء لغةً وشرعاً

لا بد من الإشارة قبل كل شيء الى أنه لم يرو في المصادر الشرعية ما يدل على تحديد معنى الغناء المحرم، ولهذا لا بد من الرجوع الى المصادر اللغوية لمعرفة المقدار المحرم من الغناء، خاصة وأن المعاني التي ذكرها الفقهاء كثيرة، تبدأ من أن "الغناء هو مجرد مدّ الصوت" وصولاً الى أنه" مدّ الصوت مع الترجيع على النحو المتعارف عند أهل الفسق والفجور"، وهذه المعاني للغناء مأخوذة من العرف العام الذي يعتبر المرجع لكل لفظ لم يعلم معناه اللغوي تحديداً ولم يرد نص بالمعنى المراد منه شرعاً، لهذا لا يبعد القول بأن (الغناء مورد الحرمة هو المتعارف عند أهل الفسق والفجور والذي يتضمن الكلام المثير للغرائز والمهيج للشهوات والباعث على الفعل الحرام والمصاحب للموسيقى التي تزيد من التأثير وتحريك مكامن الشهوة عند الإنسان، أو الذي يقصد به اللهو والعبثية، وإن لم يكن مثيراً ومحركاً للغرائز ولا يفرق الحال في حرمته بهذا المعنى بين ما كان مثيراً للطرب كما هو الغالب فيه أو لم يكن كذلك).
وهذا المعنى يمكن للمرء الاطمئنان اليه من خلال ملاحظة تاريخ الأقوام والشعوب التي كانت تستعمل الغناء في حفلاتها وأعراسها، وكما هو الملاحظ كما تنقل كتب التاريخ الإسلامي عن الجواري والمغنين في قصور الخلفاء من بني أميّة وبني العباس وغيرهم ممن نقلت أخبارهم في هذا المجال حيث نرى فيها الوفرة من الألفاظ المثيرة المصاحبة للموسيقى، وكما هو ملاحظ في هذا الزمن حيث يغلب على الغناء بشكل عام وعلى اختلاف اللغات والألسنة نفس المضمون مع الاختلاف في نوعية الموسيقى المصاحبة والمقارنة له.
والذي يؤكد ذلك المعنى هو الاستثناءات من الحرمة المتعلقة بالغناء مثل"الحداء للإبل" "والغناء في الأعراس" بالشروط المذكورة في علم الفقه،16 لأن الغناء في هذين الموردين لا يحمل نفس المضمون المتعارف عند أهل الفسق، لأن الحداء للإبل هو لسوقها سوقاً منتظماً كما يشير بذلك أهل الخبرة في هذا المجال، ولأن الغناء في الأعراس هو نوع من إظهار الفرح والسرور بالمناسبة بشرط عدم دخول الرجال على المغنية والنساء وعدم إسماع صوتها للأجانب منهم وأن لا تغني الكلام الباطل المصاحب للضرب على المزامير أو الموسيقى.

رابعا: المفاسد الإجتماعية والأخلاقية للغناء

1- منزلة المغنيين في المجتمع: "وهي في مرتبة هابطة وسافلة من مراتب المجتمع الإسلامي بشكل خاص"، لأن هذا المجتمع منضبط بموازين الشريعة "التي تريد للناس أن يستغلوا وجودهم للأعمال الخيرة المفيدة التي تعود عليهم بالمنفعة في الدنيا وتقربهم من الله في عالم الآخرة"، وكل ابتعاد عن طريقة الإسلام تمثل انحرافاً عن الغاية والهدف المحدد بقوله تعالى ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ 17، وهذا ما يجعل منزلة الأفراد الذين ينطلقون في الحياة بأعمال مخالفة في المراتب الدنيا، والمغنون هم من هذه الفئة.
رابعا: المفاسد الإجتماعية والأخلاقية للغناء:
لا بد هنا من التأكيد على مسألة مهمة وهي أن "المجتمع الإسلامي هو مجتمع هادف" على حسب الطريقة الإلهية لكيفية الحياة، والتي بينها الله عز وجل من خلال تشريعات الإسلام وقوانينه، وبالتالي فإن كل ما يكون مبتعداً بالمجتمع عن كونه هادفاً قد سدّت الشريعة السبل في وجهه لمنعه من الظهور بين المسلمين حتى لا يؤدي وجوده وانتشاره إلى الانحراف عن الصراط المستقيم الذي أوضحه رب العزة بقوله ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ 17.
من هنا، فالإسلام يريد من أتباعه أن يستغلوا وجودهم للأعمال الخيرة والمفيدة التي تعود بالمنفعة عليهم في الدنيا وتقربهم في الوقت ذاته إلى الله في عالم الاخرة، وهذا هو الأمر الذي يحدد موقعية الفرد في المجتمع الإسلامي دون غيره من الموازين الأخرى التي قد لا يتلاءم بعضها مع المبدأ الإسلامي في التفاضل وهو "التقوى".
وبالرجوع الى قضية "الغناء"، نجد أن الإسلام يجعل مرتبة المغنين في درجة هابطة ودنية من درجات المجتمع الإسلامي، لأن هؤلاء هم أحد العوامل المشجعة على إشاعة أجواء الفحشاء والمنكر بين الناس المسلمين خاصة والمجتمع البشري عامة.
وبنظرة إلى الاحاديث الواردة في هذا المجال تعطينا الجو المراد الايحاء به من خلالها، كما ورد عن الإمام الصادق"عليه السلام" أنه (سئل عن السفلة؟ فقال"عليه السلام" من يشرب الخمر ويضرب بالطنبور)، وعن النبي صلى الله عليه وآله: (لا تبيعوا القيناث، ولا تشتروهن، ولا تعلمونهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام18) وسئل الإمام الرضا"عليه السلام" عن شراء المغنية فقال"عليه السلام": (قد تكون للرجل الجارية تلهيه، وما ثمنها إلا ثمن كلب، وثمن الكلب سحت، والسحت في النار19).
وكما نهى الإسلام عن التعامل مع هؤلاء المغنين نهى عن التعامل مع كل الذين يمثلون هذه الأجواء، حتى لا يتسع نطاق التلوث الأخلاقي في المجتمع، وليكون ذلك مدعاة لأولئك للعودة عن الإنحراف الذي هم عليه، وذلك كما في الحديث عن أمير المؤمنين"عليه السلام" (...ستة لا ينبغي أن يسلم عليهم _وذكرهم_ ومنهم: أصحاب النرد والشطرنج، وأصحاب الخمر، والبربط والطنبور، والمتفكهون بسب الأمهات20).
فالله سبحانه يريد للمجتمع الإسلامي خاصة أن يكون ملتزماً واعياً لأهدافه ومتجنباً عما يبعده عن القيمة المعنوية الكبيرة للحياة الإجتماعية ومضامينها الأخلاقية والروحية التي هي أكبر من المتع الرخيصة ومنها لذة الغناء التي تهدر الوقت الثمين الذي يمكن الاستفادة منه في المجالات الأخرى النافعة دينياً ودنيوياً.
ولاشك بأن الله إذا حرم شيئاً فان تحريمه ناتج عن وجود مفسدة فيه للإنسان في حياته الدنيا، مضافاً إلى أن الاجتراء عليه موجب للعقاب في الآخرة، ويكفي النظر في عالم اليوم الذي نعيش لندرك المخاطر والمفاسد الاجتماعية والأخلاقية الناجمة عن الغناء، من خلال ما نرى ونلمس التجاوز والتعديات لحدود الله في الحفلات الماجنة التي يحضرها آلاف من الشبان والفتيات الذين تأخذهم نشوة الغناء ولذته، مما تدفع بهم بالتالي الى الإثارة وما ينتج عنها من الاستهتار بالقيم والمثل الإنسانية ونشر الفساد والرذيلة في أوساط المجتمعات.
ويكفي الغناء مفسدة أنه أحد مورثات النفاق ومكوناته كما يقول الحديث عن الإمام الصادق"عليه السلام" (الغناء يورث النفاق، ويعقب الفقر)،21 وكذلك هو نحو عبادة الشيطان كما يقول الامام ابو جعفر"عليه السلام" في الحديث(من أصغى الى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق يؤدي عن الله عز وجل فقد عبد الله، وإن كان الناطق يؤدي عن الشيطان فقد عبد الشيطان)22.
لهذا، فإن تحريم الغناء يأتي ضمن الرؤيا الإسلامية الشاملة لحياة الإنسان التي يريد لها الله أن تكون مليئة بالعطاء الإنساني الإيجابي الذي يقدم للبشرية كلها ما ينفعها في مسيرتها، وما يزيل من أمامها العقبات المانعة من التوجه نحو المعبود الحقيقي وهو(الله) سبحانه وتعالى.
والحمدلله رب العالمين23.