الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

القواعد الربانية لترشيد حق الحرية

1ـ الغاية من خلق الإنسان

باستقراء أحكام الشرائع الإلهية ، و على الأخص الشريعة الإسلامية الخاتمة و المهيمنة ، نجد خمس قواعد إلهية كبرى لترشيد حق الحرية ، و إبقائه دائماً في إطار الشرعية و الصواب ، ليحصل الإنسان على المنفعة التي توخاها الله تعالى من إعطائه له و بذلك حدد الغاية الأساسية من إيجاده .
لقد خلق الله الإنسان لغاية أولى رئيسية هي عبادة الله عز و جل بدليل قوله تعالى ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ  1 و كل ما في الكون من آيات أدلة قاطعة على وجود الله و استحقاقه للعبادة و جدارته بالطاعة و تفرده بالملك في الدارين .
و العبادة بالمعنى الإسلامي شاملة ، و يمكن ردها إلى أربعة أنواع : نية ، قول ، فعل ، تقدير . و من هنا كانت الدنيا كلها بمثابة مسجد أو محل للعبادة أو وقت للعبادة . و من هنا أصبحت جميع أعمال الإنسان الصالحة عبادات يثاب عليها و تقربه إلى الله تعالى ، حتى ممارسته لشهوته في حدود القانون . فحق الحرية نعمة كبرى ، بمثابة تخويل إلهي مطلق ، لكنه مقيد بالغاية فهو كحق الوكالة العامة الذي يخول الوكيل القيام بأي تصرف لكن بالحدود التي لا تلحق الضرر بالموكل و لا بالوكيل نفسه و لا بالغير . و هذا يستدعي من الإنسان أن يأخذ بعين الإعتبار حقوق الله تعالى الذي منحه هذا الحق ، و حق أخيه الإنسان و حقه بالحرية ، و حق المجتمع الذي يعيش فيه ، و السلطة التي تحكم المجتمع ، فإن فعل ذلك ، فإن ممارسته لحقه لا تصبح ممارسة حق شخصي فحسب ، بل تصبح إتياناً بعمل تعبدي يقربه إلى الله ، و يثيبه الله عليه .

2 ـ الدنيا كلها عبارة عن قاعة إمتحان كبرى للإنسان

إن الدنيا كلها عبارة عن قاعة إمتحان كبرى للإنسان ، فقد خلق الله الموت و الحياة و ما على الأرض ، و السماوات و ما فيهن و ما تحتهن ، ليبلو أو يمتحن أفراد و جماعات بني الإنسان أيهم أحسن عملاً ، و من منهم يستحق الثواب و من يستحق العقاب ، و من الناجح و من الساقط ؟ على ضوء الأعمال و التصرفات التي يقومون بها بمحض رضاهم و اختيارهم أثناء ممارسة كل منهم لحقه بالحرية . قال تعالى : ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ ...  2﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ...  3﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا  4 .
فكل ما على الأرض و في السماء ، له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بعملية الإبتلاء أو الإمتحان أو الفحص الإلهي . فالموت لإنهاء دورة الحياة و إغلاق قاعة الإمتحان ، و البعث و الحشر ليحاسب كل إنسان على الأعمال التي قام بها بحريته و اختياره ، فما كان منها حسناً سجّل له ، و ما كان منها خبيثاً سجل عليه ، فإذا رجحت مجموعة حسناته على مجموعة سيئاته دخل الجنة ثواباً له ، و إن رجحت سيئاته على حسناته دخل النار عقاباً على سوء أفعاله . و هذا يشكل حافزاً ذاتياً للإنسان ليحسن استعمال حقه بالحرية . و لا يخفى ما يولده هذا الإحساس من رقابة ذاتية أثناء ممارسته لحقه بالحرية ، لتكون في إطارها الصحيح .

3 ـ الثواب و العقاب

تلعب فكرتا الثواب و العقاب دوراً بارزاً في ترشيد حق الإنسان بالحرية ، لإبقاء هذا الحق ضمن نظام المشروعية و الصواب ، حتى لو مارسه الإنسان على إطلاقه .
فالله سبحانه و تعالى يريد أن يثبت عباده الصالحين ، و يساعدهم على النجاح بالإبتلاء الإلهي خلال دورة الحياة الدنيا ، ثم يدخلهم الجنة كمثوبة لهم على حسن عبادتهم وطاعتهم له . كذلك يريد أن يعاقب الذين سقطوا بالإبتلاء أو الإمتحان بالرغم من أنه هيأ لهم كل أسباب النجاح فاستحقوا النار أو جهنم عقوبة لهم .
و تستمر دورة الحياة الدنيا حتى يتوفر من الساقطين بالإمتحان الإلهي ما يكفي ليملأ جهنم ، و يتوفر عدد من الناجحين يكفي ليملأ الجنة ، فإذا توفرت الأعداد اللازمة لملئ الجنة و النار ، عندئذٍ تنتهي دورة الحياة الدنيا ، و تقوم القيامة حيث تبدأ دورة الحياة العليا التي لا موت بعدها ، و في تلك الحياة العليا يكافأ الصالحون بالثواب ، و يعاقب الطالحون بالعقاب . بدليل قوله تعالى : ﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ  5 . و قوله تعالى : ﴿ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ  6 . و لا يخفى ما لفكرتي الثواب و العقاب من تأثير على نفس الإنسان و سلوكه، و أثر ذلك في ترشيده أثناء ممارسته لحقه في الحرية ، ليبقى دائماً ضمن إطار المشروعية الإلهية .

4ـ قوانين تبين الحق من الباطل و الصواب من الخطأ

رحمةً من الله بالإنسان ، و حتى يثيبه أو يعاقبه ، أوجد تعليمات أو تشريعات أو قوانين تبين ما هو الحق و ما هو الباطل ، و ما هو الصواب و الخطأ .
و لإشاعة هذه القوانين بين الناس و تعريفهم بها ، أرسل النبيين و الرسل مبشرين و منذرين ، و معهم هذه القوانين أو الشرائع التي تبين بوضوح ما هو الحق والباطل ، و تتضمن حوافز لفعل الحق و اتباعه ، و الإبتعاد عن الباطل و اجتنابه .
و قد أرسل الله الآلاف المؤلفة من الرسل و الأنبياء ( عليهم السلام ) لتحقيق هذه الغاية ، ثم ختمهم بخاتم النبيين محمد ( صلى الله عليه و آله ) ، بالشريعة الجامعة الشاملة و النهائية .
ثم إن الله سبحانه و تعالى زود الإنسان بقدرة التمييز بين الخير و الشر ، و الحق و الباطل ، و النافع و الضار ، و توارثت الأجيال البشرية الشرائع الإلهية ، و أصبح من اليسير على كل إنسان أن يميز النافع و الضار له و لغيره ، و هذا كله يشكل ترشيداً حقيقياً للإنسان أثناء ممارسته لحقه بالحرية ، إذ أن الفرصة متاحة أمامه ليمارس حقه على هدى و بصيرة و بمسؤولية ، و يترفع عن الضرر بنفسه و غيره ، و عن العدوان على نفسه و غيره ، و عن الإقتراب من الفواحش ما ظهر منها و ما بطن ، فإذا تمت هذه الترفعات كان حق الإنسان بالحرية مطلقاً ، و لا تملك أية سلطة تقييده .

5 ـ ضبط أفعال الإنسان و إحصاؤها

اقتضت حكمته تعالى أن يضبط ضبطاً تاماً نوايا و أفعال و أقوال و تقديرات الإنسان المكلف و أن يحصيها ، و ذلك لضرورات الحكم الإلهي الذي سيصدره أحكم الحاكمين ، و لتحقيق العدل الإلهي الذي سينشره أعدل العادلين .
و لله القدرة على إحكام هذا الضبط و إحصائه ، و الإحاطة التامة بكل مايصدر عن الإنسان قال تعالى : ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ  7﴿ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ  8﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ  9 . و الذي هو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد ، و يعلم ما توسوس به نفس الإنسان ، و يملك الرقابة التامة على كل لفظ يصدر من الإنسان ، و يحاسبه على مقدار الذرة من الخير و الشر ، متمكنٌ موضوعاً و قادرٌ كل القدرة على أن يضبط و يحصي كل أفعال الإنسان و أقواله و تقريراته و نواياه ، و له القدرة على أن يعرف ماضيه و حاضره و مستقبله ، و له القدرة على أن يحسب و يقدّر تصرفات الإنسان بصورة مسبقة خلال فترة حياته ، و القدرة على أن يجعل هذا التقدير المسبق مطابقاً حرفياً لما سيفعله الإنسان بعد هذا التقدير ، و مطابقاً حرفياً للعلم اليقيني أو القضاء المدون عنده تعالى بصورة مسبقة .
و إحساس الإنسان بقدرة الله على ضبط أعماله و أقواله و نواياه و إحصائها جميعاً ، يرشّد حقه باستعمال حريته ترشيداً كاملاً ، فيبقى بمحض إرادته ضمن إطار الحق والصواب أثناء ممارسته لحقه المطلق بالحرية .

تأهيل الإنسان لممارسة حق الحرية

جاء في المادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مايلي و بالحرف : « يولد جميع الناس أحراراً متساويين في الكرامة و الحقوق . . . » .
و قد سبقت الإشارة أيضاً إلى أن حق الحرية هو بمثابة تخويل إلهي جعله الله في الإنسان . لكن الإنسان بمجرد ولادته لايستطيع استعمال هذا التخويل الإلهي المغروس فيه ، لأنه يجب أن يكون ثمرة إختيار حر ، و الإختيار يتولد من العقل و الإدراك ، و عندما يولد يكون عقله و إدراكه محدودين عاجزين عن الإختيار ، لذلك اقتضت حكمة الله تعالى أن يخضع المولود لفترة حضانه و رعاية و تأهيل ، يوضع خلالها تحت الإشراف المباشر و المكثف لمراقبة نموه بشكل عام و نمو عقله و إدراكه ، و أولى الناس بالإشراف عليه إسرته و بالأخص أمه و أبوه ، حيث يؤذن له بممارسة حقه في حدود معينة تحت إشراف أسرته و وليه ، لأنه إذا استقل باستعمال حقه قد يؤذي نفسه و غيره ، تماماً كمن يسلم سلاحاً لمن لا يجيد استعماله .
و تمتد هذه الفترة من حياة الإنسان إلى وصوله سن البلوغ ، و تكامل نمو عقله و إدراكه و ملكاته و جسمه بشكل عام ، و بعدها يمكنه أن يمارس حقه دون أي إشراف و إذن من أحد ، لأن استعماله له يعمل عفوياً و آلياً و بالقدرة الإلهية ، داخل في تكوينه و متداخل في عملية خلقه .

1. تصرفات الإنسان خلال فترة الإعداد و التأهيل

التصرفات و الأفعال التي من الممكن أن تصدر من الإنسان خلال فترة الإعداد و التأهيل ، الواقعة بين تاريخ ولادته الى بلوغه ، و خاصة في مرحلة التمييز و المراهقة واحدة من أربعة :
1 . التصرفات الضارة به محضاً ، فكل تصرف منها باطل بطلاناً مطلقاً و بحكم المعدوم ، و لا يترتب عليه أي أثر .
2 . التصرفات النافعة له محضاً ، فكل تصرف أو فعل منها صحيح و نافذ بحقه .
3 . التصرفات الدائرة بين النفع و الضرر موقوفة على إجازة وليه ، فإن أجازها نفذت بحقه ، و إن لم يجزها لم يعتد بها ولم يترتب عليه أي أثر .
4 . الأضرار الناتجه عن تصرفه التي قد تصيب الغير ، يلزمه جبرها من ماله الخاص إن كان له مال خاص ، و يلزم وليه بجبرها عتباره هو المسؤول عن رعايته هذه الفترة .
و خلال هذه الفترة ، يمكن له أن يكتسب لذمته المالية المستقلة عن غيرها من الذمم فلو وهبه أو تبرع له أو أوصى له إنسان آخر ، دخلت في ذمته حتى و لو كان وليداً .

2. شرطان لممارسة الإنسان حقه بالحرية

يتمكن الإنسان من ممارسة حقه بالحرية بعد توافر شرطين أساسيين :
1 . سن البلوغ ، أي اجتيازه الفترة الواقعة بين الولادة و البلوغ .
2 . سلامة العقل و الإدراك ، لأن القدرة على الإختيار تتوقف على سلامتهما ، فلا يكفي البلوغ بل يتوجب أن يكون سليم العقل و الإدراك و ليس مجنوناً و لا معتوهاً و لا سفيهاً ، و لا محجوراً عليه لأي سبب ، فإذا كان فيه عيب من هذه العيوب ، فلا يسمح له بممارسة حقه بالحرية ، لأنه سيؤذي نفسه حتماً أو غيره ، و دفع المفاسد أولى من جلب المصالح .

3. الإنسان الحر يحدد مصيره بنفسه

أعطى الله الإنسان القدرة على فعل الخير و الصواب ، أو الشر والخطأ ، و منحه القدرة على التمييز بينهما ، و حمله مسؤولية أفعاله و تصرفاته و أقواله و نواياه ، و خوله الحق بتحديد مصيره بمحض حريته و إختياره .
فإذا استعمل هذا الحق على الوجه الذي أرشده الله اليه فقد نجا و كان محموداً في الدنيا و الآخرة ، و مرتاح الضمير و سعيداً في الدارين . أما إذا استعمل حقه على غير الوجه الذي أرشده الله اليه ، فقد خاب و كان من المذمومين في الدنيا و الآخرة ، و عاش مثقل الضمير شقياً في الدارين .
و في كلتا الحالتين فإن الإنسان الحر هو الذي يحدد مصيره بنفسه ، و بمحض اختياره بدون إكراه من أحد . قال الإمام علي ( عليه السلام ) : « إن الله كلف تخييراً ، و نهى تحذيراً ، و أعطى على القليل كثيراً ، ولم يعص مغلوباً ، ولم يطع مكرهاً . . . » 10 .
فالإمام علي قد ركز على فكرة الإختيار و التخيير ، و على فكرة عدم إكراه الإنسان على الفعل . و أوضح الإمام الرضا ما أجمله الإمام علي بالنص المتقدم بقوله ( عليه السلام ) : ( إن الله عز و جل لم يطع بإكراه ولم يعص بغلبة ، ولم يهمل العباد في ملكه ، هو المالك لما ملكهم ، و القادر على ما أقدرهم عليه ، فإن إئتمر العبد بطاعته لم يكن الله عنها صاداً ، و لا منها مانعاً ، و إن ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم و بين ذلك فعل ، و إن لم يحل ففعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه بل هم الذين أدخلوا أنفسهم » 11 .
فالقوة التي يستعين بها الإنسان على القيام بالأفعال و التصرفات الصحيحة هي ‏من الله و القوة التي يستعين بها الإنسان للقيام بالأعمال الطالحة هي من الله أيضاً ، و القدرة على الإختيار و مكنه الحرية هي‏من الله أيضاً ، لكن ضرورات الإبتلاء الإلهي اقتضت أن يكون فعل الإنسان بإختياره و حريته ، حتى يستحق الثواب أو العقاب .
فالإنسان الذي أطاع الله لم يكن مجبراً على هذه الطاعة ، بل اختار الطاعة ولم يجبر عليها ، و الإنسان الذي عصى الله ، اختار المعصية ولم يجبر عليها .

4. حق الحرية يبيع الدنيا كلها للإنسان ، و يملكه نفسه

في معرض بيان حق المنعم بالولاء المترتب بذمة الرقيق لسيده الذي أعتقه و حرره قال الإمام على بن الحسين زين العابدين ( عليه السلام ) مخاطباً الرقيق الذي تحرر ، و مذكراً إياه بعظيم نعمة حق الحرية : « أخرجك من ذل الرق و وحشته إلى عز الحرية و أنسها ، و أطلقك من أسر الملكة ، و رفع عنك حلق العبودية و أوجدك رايحة العز . وأخرجك من سجن القهر و دفع عنك العسر ، و بسط لك لسان الإنصاف . و أباحك الدنيا كلها ، فملك نفسك و حل أمرك ، و فرغك لعبادة ربك » 12 . و هذا الوصف الدقيق لجوانب من حق الحرية ، و بلاء العبودية ، يكشف أهمية حق الحرية بالنسبة للإنسان ، فالحرية : عز و أنس ، و انطلاق من الأسر ، و خروج من سجن القهر ، و دفع للعسر .
إن حق الحرية يرتفع بالإنسان إلى المكانة التي يستحق فيها التكريم و التفضيل الإلهيين . أما بلاء العبودية و الرق فإنه ذل للإنسان و وحشة يجعل منه مجرد غرض و حاجة ، يتم امتلاكها كما يتم امتلاك الأشياء ، و يتم ربطها و تربيقها بالحلق و السلاسل كما يتم ربط و ربق الخيل و الحمير و البغال ، و يوضع في جدران أربع و يغلق عليه كالأنعام في سجن قهر ، لا يملك شيئاً من الدنيا ، لأن الملكية محظورة على الأرقاء و العبيد . إنها مسخ لإنسانية الإنسان و استهتار بالتكريم و التفضيل الإلهي للإنسان ، و حيلولة بين الإنسان و بين تحقيق الغاية من وجوده في هذه الحياة الدنيا .
و المجتمع البشري الذي يفعل بالإنسان هكذا ، مجتمع متخلف فاسد ، يحمل في ذاته بذور فنائه و دماره ، لأن الحرية هبة الله لكل إنسان ، و المستعبد المسترق سرقها و غصبها ، و منع الإنسان من أن يحقق الغاية النبيلة التي أوجده الله من أجلها . و من يصادر حق الإنسان بالحرية ، فهو مسترق مستعبد ، و ماسخ عصري لإنسانية الإنسان ، و بفعله هذا يضع نفسه بالصف المعادي لله و للإنسان .

5. إحساس الإنسان الحر و التزامه الذاتي نحو الجميع

الإنسان الذي يتمتع بحق الحرية ، يحس و يلمس بأنه المالك الوحيد لنفسه ، و أنه الصانع الفعلي لمصيره ، و أن الكائنات كلها مسخرة له بإذن ربها و خالقها ، و أنه سيد هذه الكائنات بالفعل ، و لا تملك قوة في الأرض و لا في السماء الحق بحرمانه من هذه السيادة ، و هذه القدرات التي أعطاه إياها الله ، تولد لديه الإحساس الذاتي بأنه شئ مهم في هذا الكون ، و أنه مسؤول يتحمل جزءاً من إدارة هذا الكون و عدم وضع العوائق في وجه حركة هذا النظام الدائمة ، و الإحساس بأنه عضو مهم في الأسرة البشرية و ليس مجرد رقم حسابي ، و بالتالي فهو يتأثر سلباً أو إيجاباً ، بما يصيب المجتمع الذي يعيش فيه و ما يصيب الأسرة البشرية الكبرى التي ينتمى اليها من خير أو شر ، أو تقدم أو تأخر .
كل هذا يولد لديه الإحساس الذاتي العميق بالتزامه الذاتي نحو المجتمع ، و بمسؤوليته الذاتية نحو الجميع ، و أن سلامة المجتمع الذي يعيش فيه ، و الأسرة البشرية الكبرى التي ينتمي اليها تتوقف على عمق هذا الإحساس الذاتي ، و عمق الإلتزام الذاتي نحو الجميع ، و أصالته وشموله .
إن الإنسان الذي يتمتع بحق الحرية ، و يستشعر عظمة هذا الحق فيترجمه إلى التزام ذاتي نحو الجميع ، كالشمس الساطعة في رابعة السماء ، و كالبدر المكتمل ، و كالغيث الشامل العام ، ينتفع به مجتمعه كله ، و الأسرة البشرية التي ينتمي اليها كلها .
و هذا الإحساس الذاتي ، نحو الجميع مرتبط بالإنسان كإنسان ، بغض النظر عن كونه متمتعاً بحق الحرية ، أو مستعبداً محروماً من هذا الحق .
لكن الإنسان المتمتع بحق الحرية وحده الذي يستطيع ترجمة هذا الإلتزام الذاتي إلى واقع عملي ، و من النظرية إلى التطبيق و من الكلمة إلى الحركة ، بغض النظر عن دين أو عرف أو لون أو ملة أولئك الأفراد و الجماعات .
أما الإنسان المستعبد فلا يملك هذه الإمكانات ، لأن حقه بالحرية معطل مصادر .
و لا يقتصر إلتزام الإنسان الحر الذاتي على مجتمعه ، بل يشمل الأسرة البشرية بكاملها ، فهو معني تماماً بآلامها و آمالها و أخبارها .
فالإنسان أي إنسان يحس في قرارة نفسه إحساساً ذاتياً بأنه ملتزم ذاتياً ، و أن عليه حقوقاً لله ، و حقوقاً لنفسه ، و حقاً لأمه ، و حقاً لأبيه ، و حقاً لولده ، و حقاً لأخيه ، و حقاً لزوجته ، و لأحفاده ، و أعمامه ، و عماته ، و أخواله ، و خالاته ، و أولادهم و حقاً للإنسان كإنسان ، و حقاً لمن يسدي اليه المعروف ، و حقاً لمن يجالسه ، و حقاً نحو جاره ، و حقاً نحو صاحبه ، و حقاً نحو شريكه ، و حقاً نحوالمال الذي يملكه ، و حقاً نحو الدائن أو الغريم ، و حقاً نحو خليطه و حقاً نحو من ينصحه ، و حقاً نحو كبير السن ، و حقاً نحو الصغير ، و حقاً نحو السائل ، و حقاً تجاه أهل ملته ، و حقاً تجاه أهل الملل الأخرى ، و التزاماً و حقاً نحو السلطة الشرعية القائمة في المجتمع ، و تجاه الأشخاص و الهيئات المتخصصة بتنوير المجتمع و إصلاحه . . . الخ .
و بالرغم من كثرة هذه الإلتزامات الذاتية و الحقوق التي رتبها الإنسان الحر على نفسه ، إلا أنها في حدود طاقته 13.