الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

المنهج النبوي ‬في ‬التعامل مع المناوئين

قد ‬يحلو لأي ‬قائد ان ‬يحظى بالولاء المطلق ممن حوله، ‬وان تكون استجابتهم كاملة لآرائه واوامره، ‬فلا ‬ينشغل باله برأي ‬مخالف، ‬ولا ‬يعرقل شيئا من خططه وبرامجه موقف معارض.‬

لكن ذلك مما ‬يستحيل حصوله عادة في ‬المجتمعات البشرية، ‬فمن ‬يتصدى للقيادة والزعامة - ‬دينية او سياسية -‬، ‬لا ‬يعدم مناوئا او مخالفا او منافسا، ‬والامتحان الحقيقي ‬لأي ‬قيادة هو في ‬التعامل مع مثل هذه الحالات.‬
ان النهج السائد المتبع عند الزعامات السياسية والدينية في ‬المجتمعات ‬غير الديمقراطية، ‬هو رفض هذه الحالات وقمعها، ‬بمختلف العناوين والمبررات، ‬كالحكم عليها بالكفر والمروق، ‬او ادانتها بالخيانة والانشقاق، ‬او اتهامها بالافساد والتخريب.‬
وينبثق هذه النهج من عقلية الاستبداد، ‬وتضخيم الذات، ‬وحب الهيمنة والاستحواذ، ‬ويؤدي ‬الى تهميش المجتمع، ‬ووأد طاقاته وكفاءاته، ‬كما ‬يؤسس لحالات الانقسام والمواجهة والصراع.‬
والنبي ‬كقيادة ‬دينية وسياسية، ‬واجه هذه الحالات داخل مجتمعه، ‬الذي ‬اسسه وكان ‬يقوده، ‬ليس على الصعيد الخارجي ‬المتمثل في ‬اليهود والكفار، ‬فمعاناته منهم، ‬ومواجهته لهم، ‬وحروبه معهم، ‬معروفة واضحة، ‬وانما على الصعيد الداخلي ‬المتمثل في ‬التيارات المناوئة، ‬والعناصر المخالفة ‬، ‬داخل المجتمع الاسلامي ‬في ‬المدينة المنورة.‬
حيث تشير آيات القرآن الكريم، ‬والسنة الشريفة، ‬وروايات السيرة النبوية، ‬الى وجود مثل تلك التيارات والعناصر.‬
فكيف كان منهج النبي ‬صلى الله عليه وآله وسلم ‬في ‬تعامله معها؟
يصعب استقصاء كل الادوار والممارسات التي ‬قام بها المنافقون في ‬مناوأة حركة الاسلام، ‬ومواجهة قيادة رسول الله ، ‬وكان ‬يكفي ‬اي ‬واحد من تلك الادوار والمواقف، ‬لتوجيه الضربات القاضية لرموزهم واتباعهم من قبل رسول الله ، ‬وقد اشار كبار الصحابة على النبي »‬صلى الله عليه وآله وسلم« ‬باستخدام القوة لردع المنافقين في ‬مواقف كثيرة.‬
كما ان آيات القرآن الكريم في ‬فضح خطط المنافقين والتنديد بمؤامراتهم والتحذير منهم والامر بمجاهدتهم، ‬كانت توفر للنبي ‬فرصة مواجهتهم وقمعهم لو اراد ذلك، ‬كقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ 1‬، ‬وتكررت الآية بنفس النص في ‬سورة التحريم آية ٩.‬
لكن ما ‬يثير الدهشة هو سعة صدر رسول الله ، ‬وعظيم احتماله لكل اساءاتهم الخطيرة، ‬وممارساتهم العدائية.‬
لقد تعامل معهم بنفس طويل، ‬وصبر عميق، ‬ومارس معهم سياسة الاحتواء والاستيعاب، ‬والتي ‬يمكن قراءتها ضمن البنود التالية:‬
اولا: ‬عدم اللجوء الى القوة والقمع، ‬رغم استفزازاتهم وجرائمهم، ‬فلم ‬يتعامل معهم كأعداء محاربين، ‬ولم ‬يقتل منهم احدا، ‬ولم ‬يسجن احدا، ‬ولم ‬يجلد احدا، ‬ولم ‬يطرد احدا. ‬ويؤكد الباحث محمد عزة دروزة على »‬عدم ورود روايات موثقة تتضمن ان النبي ‬قد اعتبر المنافقين اعداء محاربين او عاملهم كذلك، ‬او امر بقتلهم، ‬او قتل بارزيهم، ‬بسبب صفة النفاق، ‬او بسبب موقف منبعث عنه من تلك المواقف الكثيرة التي ‬حكتها الآيات التي ‬نزلت في ‬مختلف ادوار التنزيل عنهم، ‬والتي ‬احتوت صورا كثيرة من الاذى والكيد والسخرية بالله ورسوله وآياته، ‬والتناجي ‬بالاثم والعدوان ومعصية الرسول، ‬والتثبيط عن الجهاد والختل فيه، ‬ودس الدسائس واثارة الفتن والاحقاد، ‬واشاعة الفاحشة والإرجاف بين المسلمين بما ‬يثير قلقهم وفزعهم، ‬والتعرض لنساء المسلمين، ‬بل لنساء النبي ‬بالاذى والكيد، ‬والتضامن مع اعداء الاسلام وموالاتهم.‬
ان النبي ‬قد اعتبر ما جاء في ‬الآيات القرآنية بمثابة توجيهات متروك اليه امر تقدير ظروف تنفيذها، ‬والسير فيها بما ‬يوافق مصلحة الاسلام والمسلمين، ‬لا سيما ان بعض الآيات الواردة في ‬هذا الصدد قد تخللتها جمل تلهم معنى التعليق على شرط مثل جمل ﴿ ... فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ ... 2 ‬و ﴿ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ ... 3. ‬و ﴿ ... فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ ... 4 ‬و ﴿ ... إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً ... 5. ‬الخ - ‬محمد عزة دروزه، ‬سيرة الرسول ‬، ‬ج٢ ‬ص ٨٧.‬
ثانيا: ‬لم ‬يصادر اي ‬حق من حقوقهم المدنية، ‬فكانوا ‬يتمتعون بحقوق المواطنة كاملة كسائر المسلمين، ‬يحضرون المسجد، ‬ويدلون بآرائهم في ‬قضايا المجتمع، ‬ويأخذون نصيبهم من الغنائم وعطاء بيت المال.‬
ثالثا: ‬واكثر من ذلك كان رسول الله ‬يبذل لهم الاحسان، ‬ويحوطهم بمداراته، ‬ويشملهم بكريم اخلاقه.‬
فها هو ‬يشفع للخائنين من ‬يهود بني ‬قينقاع الذين تقع منازلهم داخل المدينة، ‬وقد عقد معهم النبي ‬معاهدة سلام، ‬على ان لا ‬يمسوا المسلمين بسوء، ‬ولا ‬يمدوا ‬يد عون لاعدائهم، ‬لكنهم لم ‬يلتزموا بالعهد، ‬وصاروا ‬يستفزون المسلمين ويؤذونهم، ‬ونصحهم رسول الله ‬وحذرهم، ‬فلم ‬يرتدعوا، ‬وظهرت معالم استعدادهم لمواجهة المسلمين، ‬فبادر النبي ‬لحصارهم منتصف شهر شوال من السنة الثانية للهجرة، ‬فاعتصموا بحصونهم خمس عشرة ليلة، ‬ثم فاوضوا على الاستسلام دون قيد او شرط.‬
وكان عبدالله بن ابي ‬يراهن على صمود بني ‬قينقاع ومواجهتهم ‬، ‬فلما رأى استسلامهم خابت آماله، ‬لكنه طلب من النبي ‬العفو العام عنهم، ‬باعتبارهم حلفاء الخزرج قبل الاسلام، ‬قائلا: ‬يا محمد احسن في ‬مواليّ. ‬فأعرض عنه ، ‬فأدخل ‬يده في ‬جيب درع رسول الله ، ‬فقال له رسول الله : ‬أرسلني - ‬اي ‬اتركني - ‬وغضب رسول الله ‬حتى رأوا لوجهه ظُللا. ‬ثم قال: ‬ويحك! ‬أرسلني! ‬قال ابن ابي: ‬لا والله لا ارسلك - ‬لا ادعك - ‬حتى تحسن في ‬موالي، ‬اربع مئة حاسر - ‬اي ‬لا درع له - ‬وثلاث مئة دارع، ‬قد منعوني ‬من الاحمر والاسود، ‬تحصدهم في ‬غداة واحدة، ‬واني ‬والله امرؤ اخشى الدوائر! ‬فقال رسول الله : ‬هم لك. ‬فاستجاب لطلبه الملح وعفا عنهم ليخرجوا جميعهم من ‬يثرب سالمين.‬ 6