الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

تجديد الفكر الإسلامي ومنطق الاجتهاد

 لعل أهم حقيقة يمكن أن نقررها في مجال الحديث عن تجديد الفكر الإسلامي، هي أن مهمة التجديد لا يمكن النهوض بها، والتقدم المستمر في طريق إنجازها، وبالمستوى الذي يحقق درجة عالية، إلا إذا استعاد العلم الإسلامي، واستعاد المسلمون منطق الاجتهاد، وتعاملوا مع الفكر الإسلامي بهذا المنطق. فهو المنطق الذي يفسر لنا كيف استطاع المسلمون في عصرهم الأول تأسيس العلوم، واكتشاف المناهج، وابتكار النظريات في مختلف ميادين العلم والمعرفة، وكيف تمكنوا من بث الروح في علوم الآخرين التي تعرفوا عليها، واعتنوا بها كعلوم اليونان القديمة، ولولاهم لندثرت تلك العلوم، ولما تعرف عليها العالم اليوم، وكيف صنفوا لنا تلك المؤلفات الجليلة والخالدة، التي كشفت عن الروح العلمية الفائقة والمدهشة عند العلماء المسلمين في ذلك العصر. وهي الروح التي حاول العالم الألماني فرانتز روزنتال الكشف والحديث عنها في كتابه: (مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي)، متتبعاً تجليات هذه الروح في مختلف ميادين المعرفة، من المعرفة الإسلامية والشعر والأدب، إلى المعرفة المتصلة بعلوم الطب والصيدلة والكيمياء.
فحين يتحدث روزنتال عن عناية العلماء المسلمين بالمسائل الصعبة والشائكة، ينقل عن الجوزجاني الذي تتلمذ على ابن سينا مدة خمس وعشرين سنة، أنه لم يره مرة (إذا وقع له كتاب مجدد ينظر فيه على الولاء، بل كان يقصد المواضع الصعبة منه، والمسائل المشكلة، فينظر ما قاله مصنفه فيها، فيتبين مرتبته في العلم ودرجته في الفهم)، ويعلق روزنتال على هذا الكلام بقوله: (أن ابن سينا كان ذا قدرة نادرة على النظر في الأمور الجليلة الفائدة، دون إنفاق الجهد سدى على أمور ثانوية، إنه كان يعنى أولاً بالمستجد في شتى حقول العلم الذي كان يهتم به)
وحين يتحدث عن الغاية من التأليف والتصنيف في نظر بعض العلماء المسلمين، ينقل كلاماً أورده الشيخ عبد الباسط العلموي في كتابه: (المعيد في آداب المفيد والمستفيد) الصادر عام 1573م، يقول فيه: (قال صاحب الأحوذي: ولا ينبغي لمصنف يتصدى إلى تصنيف أن يعدل إلى غير صنفين: إما أن يخترع معنى، أو يبتدع وضعاً ومبنى، وما سوى هذين الوجهين فهو تسويد للورق، والتحلي بحلية السرق)
ونقل عن أبي حامد الغزالي أنه كان يخاطب غيره بقوله: (اطلب الحق بطريقة النظر لتكون صاحب مذهب، ولا تكون في صورة مقلد أعمى).
وبمنطق الاجتهاد يتحرر الفكر الإسلامي، من أصنام التقليد والتبعية والجمود، ويتخلص من أوهام الرهبة والهيبة والشعور بالضعف، ويكتسب شجاعة النظر، وعزيمة الكشف، وقوة الابتكار، فهو المنطق الذي يتطلب إعمال العقل بأقصى طاقته، والسعي لامتلاك ناصية العلم، والاحاطة بكل ما تتطلبه عملية البحث والكشف من شروط معرفية ومنهجية.
فالاجتهاد هو نقيض التبعية والتقليد، والفكر الإسلامي لا يمكن له أن يتجدد إذا لم يتحرر من صنمية التبعية والتقليد. وهذه هي مشكلتنا، فنحن لا ننتج المعرفة، وإنما نقلد الآخرين ونتبع سبيلهم، ونجتر ما عندهم من أفكار ومعارف، وهذا ما نعرفه نحن عن أنفسنا، وما يعرفه الآخرون عنا أيضاً، ولن نتخلص من التبعية والتقليد إلا بالاجتهاد.
كما أن الفكر الإسلامي لن يتجدد إلا إذا تحرر من ذهنية التواكل والجمود، وتخلص من أوهام الرهبة والهيبة، ومن الشعور بالضعف والقصور، ولن يتحرر من هذه الأصنام والأوهام إلا باستعادة منطق الاجتهاد.
ومن جهة أخرى، يكشف منطق الاجتهاد عن حجم ومستوى وطبيعة مهمة التجديد في الفكر الإسلامي، وكيف أنها مهمة ضخمة وشاقة، وكأننا بحاجة إلى ثورة فكرية ومنهجية في الفكر الإسلامي تؤهله للنهوض وإتمام مهمة التجديد1.

  • 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الأربعاء 3 صفر 1428هـ / 21 فبراير 2007م، العدد 14788.