الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

حرية العقيدة

الحرية الدينية

1 ـ الحرية الدينية : كما أن حياة الإنسان لا تستقيم بدون حرية ، فإن حياته أيضاً لا تستقيم بدون تدين ، لأن التدين حاجة أساسية ضرورية للإنسان ، تشعره بوجود خالقه و رقابته له و حقه عليه ، و امتلاكه للثواب و العقاب ، و أنه الملاذ الأخير له حيث لا ملاذ . و هذا يساهم باستقراره النفسي و الروحي ، و يخلق عنده رقابة ذاتية على سلوكه تساعده على البقاء دائماً ضمن دائرة الصواب و الحق ، و تشعره بالخطأ و تأنيب الضمير كلما خرج من هذه الدائرة ، و الحنين بالعودة إليها .
و لا يخفى ما لهذه الرقابة الذاتية من آثار على إصلاح الإنسان و الأسرة البشرية برمتها و على عمارة الأرض و شيوع الحق و الصواب ، و تضييق دائرة الشر و الإنحراف .

و فكرة التدين برمتها ذات مصدر إلهي ، فالله سبحانه و تعالى هو الذي أوجد في الإنسان نزعة التدين و فطره عليها ، و هو الذي أرسل الرسل و الأنبياء ( عليهم السلام ) و زودهم بالتعاليم و الشرائع الإلهية لترشيد الإنسان في التدين ، باعتبار أن التدين هو الخطة المثلى لتربية الإنسان و مساعدته على تحقيق الغاية التي وجد لتحقيقها .
فالرسل و الأنبياء و أتباعهم المخلصون هم الذين ركزوا فكرة احرام الإنسان و حقوقه بدليل أن أتباع الديانات السماوية الثلاث اليهودية و المسيحية و الإسلام يشكلون الغالبية العظمى من الأسرة البشرية ، و الذين يدينون بديانات أخرى يزعمون أن مؤسسي دياناتهم أنبياء أو رسل ، مما يعني أن أبناء الأسرة الإنسانية كلهم متدينون يتقربون بشعائر دياناتهم إلى الله ، و أتباع كل ديانة يدعون صراحةً أو ضمناً بأن ديانتهم هي الأقرب لله و الأفضل و الأصح ، و بغض النظر عن صحة أو خطأ هذه الإدعاءات ، فالكل يعتقد أن التدين حاجة أساسية لا غنى إطلاقاً لإنسان ، و أن حرية التدين حق عام لكل الناس ، و أن الإعتداء على هذا الحق يشكل إعتداء مباشراً على الإنسان ، لذلك كان لحرية التدين بعد إنساني .
و قد أدرك واضعوا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بعض هذه المسلمات ، و ترجموها من خلال نص المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان :
المادة 18 « لكل شخص الحق في حرية التفكير و الضمير و الدين ، و يشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته ، و حرية الإعراب عنهما بالتعليم و الممارسة ، و إقامة الشعائر و مراعاتها ، سواء أكان ذلك سراً أم مع الجماعة » .
فالحرية الدينية تعني : حرية الإنسان في اعتناق الدين الذي يريده ، سواء كان اعتناقه ثمرة وعي و اختيار أو ثمرة تقليد و وراثة . كما تعني : حريته بإقامة شعائر الدين الذي يعتنقه ، و الإعراب و التعبير عن كليات و تفاصيل هذا الدين تعليماً و ممارسة ، و نشراً للثقافة المتعلقة بهذا الدين بين أتباعه ، و إقامة دور العبادة و التعليم و الممارسة ، و تعني أيضاً : الحق بتطبيق أحكام الدين على معتنقيه ، خاصة في الأحوال الشخصية .

1. الحرية الدينية في الإسلام

قبل ألف و أربعمائة سنة و نيف ، أخذ الإسلام بالحرية الدينية بأرحب مفاهيمها ، و أدرك ضرورتها و اعتبرها جزءاً أساسياً من دين الإسلام ، و فصلاً من شريعته الإلهية ، فطبقها تطبيقاً دقيقاً و كاملاً ، و اعتبر هذا التطبيق عملاً تعبدياً و تنفيذاً لأمر من أوامر الله تعالى و أحكامه . و قد تم ذلك كله قبل أن يسمع الغرب بالحرية الدينية ، و يكتشف ضرورتها و يطبقها جزئياً على نطاق ضيق ، و يتبجح بها كواحدة من إنجازاته العظمى !!
و الدليل على ذلك أن دين الإسلام كله يتكون من ركنين : أولهما : كتاب الله المنزل و هو القرآن الكريم . و ثانيهما : نبي الله المرسل و هو خاتم النبيين محمد ( صلى الله عليه و آله ) و ما صدر عنه من قول أو فعل أو تقرير ، و ما رواه عنه و حكم بصحته و نسبته إليه أئمة أهل بيت النبوة ( عليهم السلام ) ، على اعتبار أنهما ثِقْلا الإسلام بعد الرسول ( صلى الله عليه و آله ) ، و ما عدا ذلك فليس من الإسلام في شئ ، و هو مرهون بحكم الإسلام عليه سلباً أو إيجاباً .

2. الحرية الدينية في القرآن الكريم

و النصوص التي وردت في القرآن الكريم عن الحرية الدينية محكمة ، و هي من الجزم و الوضوح بحيث لا تقبل تحريف معانيها الظاهرة إلى معانٍ أخرى . فقد ربط القرآن الكريم اعتناق الإنسان للإسلام و الدخول فيه أو رفضه بالمشيئة الإنسانية ، و بين أن مهمة رسول الله و خاتم النبيين تنحصر في :
1) تبليغ الإنسان ما أنزل الله على رسوله من الحق ؛
2) أن يطلب من الإنسان الدخول في الإسلام أو اعتناقه .
3) أن يترك الأمر بعد ذلك للإنسان ليقرر بحريته و رضاه التام و إختياره : و دليلنا على ذلك قوله تعالى : ﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ... 1 . ﴿ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا 2 . ﴿ لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ 3 . ﴿ لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ 4 .
فاعتناق الإسلام هو السبيل إلى الله ، و هو طريق الإستقامة و مجال التقدم ، فمن شاء اعتنقه بحريته و اختياره ، و من شاء رفضه بحريته و اختياره ، لأن الإنسان إذا أجبر على الإسلام لا يستحق الأجر و الثواب الإلهي لأنه مكره ، و إذا أكره على عدم اعتناقه لا يستحق العقاب الإلهي ، و لكي يثاب أو يعاقب يجب أن يكون الفعل نابعاً من الحرية و الإختيار أو المشيئة ، فإذا انتفت الحرية و المشيئة فلا ثواب و لا عقاب .
و من هنا فإن مهمة الرسول المبدئية تقتصر على البيان و التذكير ، و ليس من صلاحيته أن يسيطر على الناس و يكرههم على الإسلام ، و لو فعل أياً من ذلك لعصى ربه و خالف أمره ، و حاشاه أن يعصي أو أن يخالف لأنه ﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى 5 بل يتبع ما يوحى إليه . و دليلنا على ذلك قوله تعالى : ﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ 6 . ﴿ ... أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ 7 . ﴿ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ 8 .
ثم أوجد القرآن الكريم القاعدة الحاكمة الكبرى التي لا تجيز إكراه أحد على ترك دينه و اعتناق الإسلام بقوله تعالى : ﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ ... 9 . و سبب نزولها كما قال الطبرسي في مجمع البيان : « أنه كان لرجل من المدينة إسمه الحصين ولدان دعاهما إلى اعتناق المسيحية بعض التجار الذين كانوا يَفِدون على المدينة ، فتأثر هذان الولدان بما سمعاه و اعتنقا المسيحية و رحلا مع أولئك التجار عند عودتهم ، فأزعج ذلك الحصين ، و أقبل يخبر رسول الله بما حدث ، و طلب منه أن يعمل على إعادة ولديه إلى الإسلام ، و سأله إن كان يجوز إجبارهما على الرجوع إلى الإسلام ، فنزلت الآية المذكورة و بينت أن ﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ... 9 . « و الإكراه هو الإجبار و الحمل على الفعل من غير رضا ، و الإعتقاد و الإيمان من الأمور القلبية التي لا يحكم فيه الإكراه ، فالإكراه يؤثر في الأعمال الظاهرية و الأفعال و الحركات البدنية العادية ، أما الإعتقاد القلبي فله علل و أسباب قلبية من صنع الإعتقاد و الإدراك فجاءت الآية ﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ... 9 لتنفي الإكراه عن الإعتقاد » 10 .

3. الحرية الدينية في السنة النبوية الشريفة

تعني سنة الرسول ( صلى الله عليه و آله ) : ما صدر عنه من قول أو فعل أو تقرير ، و هي بفروعها الثلاثة وحيٌ من الله أوحاها إلى رسوله بالمعنى أو بالصورة ، و صاغها الرسول بلفظه الشريف و هو ما يسمى ( بالحديث النبوي ) أو حوَّلها الرسول إلى فعل أو تقرير ، و هو ما يسمى ( بالسنة العملية ) و الأنواع الثلاثة تطبيق للمهمة الأساسية للرسول ( صلى الله عليه و آله ) ، فمن مهامه ( صلى الله عليه و آله ) أن يبين للناس ما نزل إليهم من ربهم بياناً قائماً على الجزم و اليقين لا على الفرض و التخمين ، بل يحدد المقصود الإلهي من كل نص تحديداً قاطعاً ، لأن النص يحتمل عدة معانٍ ، فيبين الرسول المعنى الذي قصده الله تعالى منه .
و من مهامه ( صلى الله عليه و آله ) : أن يحول ما أوحاه الله إليه من الكلمة إلى الحركة ، و أن يكون همزة الوصل بين الله و عباده ، و الأسوة الحسنة و النموذج المتحرك للمسلم المثالي .

4. لم يكره الرسول أحداً على اعتناق الإسلام

1ـ لم يروِ راوٍ قط بأن الرسول ( صلى الله عليه و آله ) قد أكره أحداً من الناس على اعتناق الإسلام من إعلان النبوة إلى هجرته إلى المدينة ، ثم إلى اللحظة التي انتقل فيها إلى جوار ربه ، أو أنه أقر ذلك أو أن حالة إكراه واحدة قد وقعت .
2 ـ ولم يروِ راوٍ قط بأن رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) قد أكره أحداً من أتباع الديانات السماوية على ترك دينه و الدخول في دين الإسلام ، أو أنه أمر بذلك أو أقره .
3 . كانت عند الرسول جارية إسمها ريحانة ، و كانت تدين باليهودية و رفضت علناً و بمواجهة الرسول شخصياً أن تترك دينها و تدخل في الإسلام ، و مع هذا لم يكرهها الرسول على اعتناق الإسلام ، و بقيت عنده معززة مكرمة و هي على يهوديتها حتى أسلمت فيما بعد برضاها و حريتها و اختيارها » 11 . فلو أنه ( صلى الله عليه و آله ) أكراه أحداً على ترك دينه و اعتناق الإسلام لأكره هذه الجارية المملوكة في بيته .
إن وفد رؤساء نجران خير مثال على الحرية الدينية في الإسلام ، فقد دخلوا مسجد رسول الله وقت الصلاة ، و ضربوا ناقوسهم و صلوا إلى الشرق داخل المسجد النبوي ، فعز ذلك على بعض الصحابة فقال لهم الرسول ( صلى الله عليه و آله ): دعوهم » 12 .
و كان من جملة شروط صلح الحديبية الذي تم بين الرسول و المسلمين من جهة ، و بين قادة الشرك و المشركين من جهة أخرى : « أنه من أتى محمداً من قريش دون إذن وليه رده عليهم ، و من أتى قريش ممن مع محمد لم يردوه » 13 .
و الأعظم من ذلك كله أن الرسول ( صلى الله عليه و آله ) أول من كوَّن أمة واحدة من أتباع الديانات المختلفة على أساس تعاقدي ، فبعد مشاوراته في المدينة مع المسلمين و قادة اليهود و اليهود ، و أتباع المسيحية ، و قادة المنافقين الذين تظاهروا بالإسلام و هم على الوثنية تم وضع دستور إسلامي جعل من كل أتباع الديانات المختلفة أمة واحدة من دون الناس ، و تضمن هذا الدستور مجموعة من المبادئ العظيمة التي لا تفرق بين إنسان و إنسان على أساس الدين الذي يعتنقه ، بل تحترم أديان الجميع و خيارات الجميع كأمر واقعي لا بد من التعامل معه بروح إجتماعية ، و من هذه المبادئ :
« 1 ـ المدينة المنورة ـ كإقليم للدولة ـ وطن للجميع ، 2 ـ و المجرم عدو الجميع لا يجوز إيواؤه 3 ـ و القاتل يقتل و يتعاون الجميع على تنفيذ الحكم و لو كان ابن أحدهم ، 4 ـ و المجتمع كله مع المظلوم ضد الظالم ، 5 ـ و من يخرج من المدينة فهو آمن ، و من قعد في بيته فهو آمن ، 6 ـ اليهود أمة مع المؤمنين و لليهود دينهم ، و للمسلمين دينهم ، و اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين . . . » 14 .
هذا نموذج حي للتعاون على البر و التقوى و عمل الخير بين أتباع الديانات ، في دولة إسلامية ناشئة يحكمها نبي و يشكل المسلمون الأكثرية الساحقة من مواطنيها !
و هذا دليل على التسامح الديني ، و على أن الحرية الدينية من الحقايق المسلم بها .
و من ذلك موقف النبي الأعظم ( صلى الله عليه و آله ) من المشركين يوم فتح مكة ، و بعد انتصار الإسلام على الوثنية ، دليل قاطع على إيمانه المطلق بالحرية الدينية و التزامه بها .
فقادة بطون قريش و أتباعهم المشركون ، واجهو النبي ( صلى الله عليه و آله ) من اليوم الأول الذي أعلن فيه الدعوة ، و أكرهوا الناس على البقاء على الوثنية و عدم اعتناق الإسلام ، و نكلوا بالمسلمين و عذبوهم حتى مات بعضهم تحت التعذيب كياسر و سمية ، و حاولوا بكل الوسائل أن يجبروا من أسلم على ترك دينه ، و شرعوا بقتل الرسول مرات متعددة ، و أجبروه و أجبروا المسلمين على ترك وطنهم و الهجرة منه ، ثم جيشوا الجيوش و حاربوا رسول الله و المسلمين في كل المواقع ، و تعاونوا مع اليهود و ألّبوا العرب عليهم و حاربوهم بكل ما استطاعوا حتى نصر الله رسوله عليهم ، فجئ بقادتهم جميعاً يوم فتح مكة ، و وقفوا أمام الرسول بذلة و انكسار ، و اعترفوا بجرائمهم المتلاحقة بحق الله و رسوله و المسلمين ، فسألهم الرسول : « ماذا تظنون أني فاعل بكم ؟ فأجابوه : أخ كريم و ابن أخ كريم ! فقال لهم الرسول : إذهبوا فأنتم الطلقاء ! » .
ثم إن الدين بطبيعته من الأمور التي لا تقبل الإكراه ، بل هو وليد المشيئة و الحرية و الإختيار ، و هي أمور تعمل و تتشكل في أعماق النفس الإنسانية التي لا رقابة و لا سلطان عليها إلا لله تعالى ، و الإكراه و الإجبار يمكنه أن يخضع القشرة الخارجية للإنسان ، قشرة جسده و جوارحه فتكون آلة بيد المكِره ، أما مشيئة الإنسان و إرادته فمستقرها أعماق النفس ، و هي « مبرمجة » ضد الإكراه في الدين ، و هذه « البرمجة » جزء من نظام الكون ، و لذا لا تصح العبادة إلا إذا كانت وليدة حرية و اختيار ، و لا يكون الفعل موضعاً للثواب أو العقاب إلا إذا كان ثمرة حرية و اختيار .
و الرسول الأعظم أعلم الناس بهذه الحقائق الربانية ، لذا كان أكثر الناس التزاماً بالمبدأ الإلهي العام ﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ... 9 و أكثر الناس إيماناً بالحرية الدينية .

5. الحرية الدينية عند أئمة أهل البيت النبوة

لمعرفة الحكم الشرعي اليقيني بعد موت النبي ( صلى الله عليه و آله ) لا بد من الرجوع إلى أئمة أهل بيت النبوة (عليهم السلام) لأن الله جعلهم أحد ثقلي الإسلام ، فالهدى لا يدرك إلا بالتمسك بالقرآن و أئمة أهل بيت النبوة ( عليهم السلام ) ، و الضلالة لا يمكن تجنبها إلا بالتمسلك بهما .
و من جهة ثانية لأنهم ورثة علمي النبوة و الكتاب و حفظة سنة النبي ( صلى الله عليه و آله ) ، فهي مكتوبة بخط الإمام علي و بإملاء الرسول و محفوظة عندهم ، و الأئمة يتوارثونها ، كابراً عن كابر ، و لأنهم من جهة ثالثة شهود الحق .
و قد أجمع أئمة أهل بيت النبوة على مبدأ « عدم الإكراه في الدين » و أن النبي ( صلى الله عليه و آله ) طبقه حرفياً فلم يكره أحداً على ترك دينه ، ولم يكره أحداً على اعتناق الإسلام و لا أمر بذلك و لا أقره . و عندما آلت الخلافة إلى الإمام علي بالطريقة التي اخترعتها بطون قريش ، التزم التزاماً دقيقاً بكتاب الله و بسنة رسوله ( صلى الله عليه و آله ) و طبق الشريعة الإلهية الإسلامية كما طبقها الرسول ، و من أساسيات هذه الشريعة : ﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ... 9 .

6. الخلفاء التاريخيون و الحرية الدينية

و مع أن الخلفاء التاريخيين استولوا على منصب خلافة النبي بالقوة و القهر و الغلبة و النبي على فراش الموت ، و عصوه مواجهةً جهاراً ، و كسروا خاطره الشريف ، و تجاهلوا تجاهلاً تاماً كافة الترتيبات الإلهية المتعلقة بمن يخلف النبي ( صلى الله عليه و آله ) ، إلا أنهم لم يتمكنوا كاملاً من تجاهل الحرية الدينية التي أقرها الإسلام ، بل إن بعضهم أفرط في ذلك فكان يثق بأتباع الديانات الأخرى و يحبهم أكثر من ثقته بالمسلمين و حبه لهم و السبب في ذلك أن الحرية الدينية استقرت نهائياً في نفوس المسلمين كما استقرت كلمة ( لا إله إلاّ الله ، محمد رسول الله ) و هم يرسلون قاعدة : ﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ... 9 إرسال المسلمات ، و قد انعكست هذه القناعة على سلوكهم و تعاملهم الودي و المتسامح مع أتباع الديانات الأخرى .

الحرية الفكرية

الفكر عملية اكتساب المعرفة ، بإعمال العقل و ترتيب بعض المعلومات للوصول منها الى معلومة جديدة . 15 يقال فكر في الأمر أي أعمل فكره فيه و تأمله ، و الفكر تردد الخاطر بالتأمل و التدبر بطلب المعاني 16 . قال سيبويه : لا يجمع الفكر و لا العلم و لا النظر 17 . و التدبر و التأمل و التفكر عبارات مترادفة على معنى واحد » 18 .
فالمعلومة هي نقطة البداية و الإنطلاق لعملية التفكير ، التي تقود الإنسان إلى معرفة ضده ، أو نقيضة ، أو قرينه ، أو زوجه ، أو بديله ، أو ما يتكامل معه ، أو ما يتم به .
و الفرق بين التفكير والتقليد أن المقلد يسمع ويقلد من غير تعقل و لا بصيرة . أما المفكر فيتأمل و يتدبر و يُعمل قواه الذهنية و العقلية و يستنتج منها معرفة جديدة 19 .
إن كل المخلوقات آفاق و مجالات للتفكير الإنساني ، الأرض و ما عليها و ما فيها ، و السماوات و ما تحتهن و ما فيهن ، يفكر فيها الإنسان كما يريد و بما يريد و كيفما يشاء فيتأمل و يتدبر و يتعقل ، و يستكشف و يخرج بالنتائج التي يريد و يتبين موقعه فيها ، و مكانه من النظام الذي يحكمها ، و لا سلطان لأحد من المخلوقات عليه أثناء تفكره ، و لا يملك مخلوق أن يقيده و يصادر هذا العطاء الإلهي . فقد خلق الله الإنسان مفكراً بفطرته و شجعه و حثه على التفكير بكل مظاهر الكون ، و احترم النتائج التي يتوصل إليها إخفاقاً أو نجاحاً ، و كتب له الأجر عليها في الحالتين إن كان حسن النيّة ، و وضع تحت تصرفه الفكري كل الكون ، قال تعالى : ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ 20 . ﴿ ... فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ 21 . ﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ 22 . ﴿ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ 23 . ﴿ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ 24 . ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ 25 . ﴿ ... وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ 26 . ﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ 27 . ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ 28 . ﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ 29 . ﴿ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ 30 . ﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ 31 . ﴿ ... هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ 32 .
أما السنة النبوية ، فالقيد الوحيد الذي وضعته في مجالات التفكير هو النهي عن التفكر بذات الخالق ، كأن يتصوره الإنسان على شكل معين أو هيئة معينة ، و هو قطعاً ليس كما يتصوره لأنه ليس كمثله شئ ، و هذا القيد لمصلحة الإنسان حتى لا يتيه فكره بأمر لا طاقة له به ، مما يؤدي إلى اختلال استقراره النفسي و بعثرة قدرته على التفكير قال : « تفكروا في خلق الله ، و لا تتفكروا في‏ الله فإنكم لن تقدروا قدره » 33 .
فالإنسان المفكر مخلوق محدود القدرات ، يمارس حرية التفكير في ملكوت خالق غير محدود القدرات ، و ليس كمثله شئ يقاس عليه ، فالتفكير بذات الخالق و هيئته و صورته فوق مقدرة الإنسان المخلوق المفكر ، لأن الله تعالى لا يتجلى للمخلوقات بالصورة أو بالهيئة ، و إنما يتجلى لها بالفعل و بالقدرة ، لأن طاقة الإنسان الذاتية ، لا تحتمل رؤية الله ، و قد خلت المثلات من قبلنا ، حيث طلب النبي موسى ( عليه السلام ) من ربه ما أراده قومه أن يريه الله نفسه بحاسة العين ، فقال له : ﴿ ... قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا ... 34 ، من هول ما رأى ، و عندما أفاق أدرك حقيقة أنه لا طاقة للإنسان برؤية الله ، فتاب لله من طلبه !
أما نبي الله إبراهيم ( عليه السلام ) فقد استعاض عن الهيئة بالقدرة ، فسأل ربه أن يريه كيف يحيي الموتى ، فأراه ذلك .
أما إذا ركب الإنسان رأسة و فكر في ذات الله تعالى و هيئته و صورته فلا شئ يمنعه عملياً ، لكنه سيكتشف أنه لا طاقة له على إدراك حقيقته و كنهه لأنه شديد المحال .
وكترشيد لمسيرة الإنسان الفكرية قال رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) : « لا فكرة في الله عز و جل » 35 . و قال : « تفكروا في خلق الله و لا تفكروا في الخالق فإنكم لن تقدروا قدره » 36 . و قال أيضاً : « تفكروا في آلاء الله و لا تفكروا في الله » 37 . و قال أيضاً : « تفكروا في الخلق ، و لا تفكروا في الخالق ، فإنكم لا تقدرون قدره » 38 .
و فيما عدا ذلك ، فإن أمام الإنسان في ملكوت السماوات و الأرض و ما فيهن و ما بينهن مجالات و آفاقاً واسعة للتفكير الحر الهادف إلى استكشاف المعارف و الحقائق المجردة . و قد أمر الله الإنسان بالتفكير ، كما قال رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) مخاطباً المسلمين خاصة و بني الإنسان عامة : « عودوا قلوبكم الترقب ، و أكثروا التفكر و الإعتبار » 39 و جعل التفكير عبادة ، فقال ( صلى الله عليه و آله ) : « تفكر ساعة غير من قيام ليلة » 40 . و قال أيضاً : « تفكر ساعة خير من عبادة سنة » 41 .
و كما توعد الله الذين يخالفون أمره توعد الذين لا يفكرون ، فقال عز و جل ناقلاً صورة تجري يوم القيامة : ﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ 42 فعدم استعمال العقل ذنب يعاقب الله عليه .
و نتيجة هذه الحقائق : أن هنا حرية الفكر فوق كل الحريات ، لأنها التي تزود الإنسان بالطاقة و المعارف التي يحتاجها لممارسة حقوقه و حرياته .
و نتيجتها ، أنه يحق للإنسان إعلان محصول تفكيره ، و المعارف التي حصل عليها ، على المجتمع أو المحيط الذي يعيش فيه ، و ذلك :
1 ـ بحق النطق بالمعرفة التي حصل عليها الإنسان بتفكيره .
2 ـ و مناقشة هذه المعرفة حسب قناعته .
3 ـ و الدفاع عن هذه المعرفة و حمايتها بكل وسائل التعبير . و بقدر تمكين الإنسان من النطق بما يفكر و إعلانه و الدفاع عنه ، يتحدد مقدار إيمان المجتمع أو عدم إيمانه بحرية الفكر .

حرية التعبير عن الرأي

من مظاهر التكريم و التفضيل الإلهي للإنسان أنه خلقه ﴿ ... فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ 43 . و من مظاهر حسن التقويم أنه أوجد فيه مكنة النطق و التعبير و علمه البيان ﴿ خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ 44 ثم خصة بلسان معبر ناطق ليعبّر عما في نفسه من رغبات و حاجات و عن محصول تفكيره . فالتعبير عن الرأي حاجة أساسية للإنسان كحاجته إلى الطعام و الشراب ، و بدون إشباعها يموت الإنسان كبتاً و كمداً !
ثم إن التعبير عن الرأي هو الوسيلة الفعالة للإعلان عن الوجود المعنوي لصاحب هذا الرأي و اعتراف المجتمع و الأسرة البشرية به ، و بغير ذلك يتحول الإنسان إلى كتلة من اللحم ، أو إلى دابة من الدواب حرمت القدرة على النطق و التعبير !
و في ذلك إلغاء عملي لتكريم الله و تفضيله للإنسان ، و تعويق للإنسان عن القيام بالدور الأساسي الذي خلق من أجله ! فمن غير الممكن أن يتحقق الإجتماع البشري و التفاهم بين البشر ، و الغاية منه ، بدون الإعتراف بحق الإنسان بحرية التعبير عن رأيه . فكما يتنفس الإنسان و يخفق قلبه بصورة عفوية و آلية ، كذلك يجب أن تتم حريته بالتعبير عن رأيه ، و لا يجوز تقييدها تحت شعارات براقة ظاهرها حق و باطنها باطل !
و مما يثير دهشتك أن الله تعالى أعطى الحرية لإبليس بأن يعبر عن رأيه كاملاً ! فالله تعالى كان يعلم علم اليقين ما سيقوله إبليس و كان بإمكانه تعالى أن يمنعه من التعبير عن رأيه الذي يتضمن الفساد و المعصية ، لكنه تعالى حليم حكيم يملي للأبرار و الأشرار ، و لا يثيب و لا يعاقب على العمل إلا إذا وقع فعلاً .
و قد أكد الأنبياء و الرسل الكرام (عليهم السلام) أهمية حرية التعبير عن الرأي ، و أنها من ضرورات عملية الإبتلاء الإلهي ، فيجب الإبقاء عليها و تحسين أدائها بحيث يكون الرأي الذي يصدر عن الإنسان ثمرة عملية تفكير سليمة ناضجة ، و أن يشعر بأن الله تعالى رقيب على تفكيره و كلامه و أفعاله : ﴿ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ 45 ، ﴿ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ 46 ، ﴿ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ 47 . إن ترشيد التفكير و حرية التعبير عن الرأي هو العلاج ، و ليس منع التعبير ، و يتم عن طريق نشر العلوم و المعارف و الثقافة العامة ، و الرقابة الذاتية عند ممارسة الإنسان تعبيره عن رأيه ، فيكون مسؤولاً عن آثار هذا الرأي تجاه نفسه ، ثم تجاه السلطة أو المجتمع أو الغير .
و مهما تكن كلفة هذا الترشيد لحرية الإنسان بالتعبير ، فهي أخف بكثير من كلفة المحاولات الفاشلة لمصادرة حرية التعبير عن الرأي أو تقييدها . ذلك أن حرية التعبير عن الرأي هي الوسيلة الفعالة لحفظ كل الحقوق و الحريات الإنسانية الأخرى و حمايتها ، و بدونها تفقد الحقوق و الحريات الأخرى الوسيلة الناطقة باسمها .
ثم إن الدين الإسلامي دين إلهي قائم على الحقيقة اليقينية ، فهو واثق من نفسه تماماً و من قدرته على الصمود و المواجهة و الإنتصار بالوسائل السلمية في مناخ حرية الإختيار ، خاصة و أن كل ما في الكون من آيات أدلة على صحة دعوته ، فحرية التعبير عن الرأي تصب في صالحه ، بل هي وسيلة لشيوعه و انتشاره و ترسيخه .
و لهذا لم يضق الإسلام ذرعاً بالذين قالوا إن القرآن أساطير الأولين ، و أضغاث أحلام ، و إنه مفترى على الله ، بل تعامل مع هذه الأكاذيب على أنها آراء ، ثم قام بهدمها واحدةً تلو الأخرى .
ولم يضق ذرعاً بالذين قالوا بأن محمداً ليس رسولاً بل شاعر مجنون اعترته بعض آلهتهم بجنة ، فهدم الإسلام هذه الآراء التي لا تقوم على أساس و أثبت صحة نبوة النبي ( صلى الله عليه و آله ) و صحة معجزته من الله تعالى ، و أسقط آراء أعدائه ، فدخل الناس في دين الله أفواجاً و تبنوا حقائق الإسلام حتى كانوا يتزاحمون عندما يتوضأ النبي ( صلى الله عليه و آله ) ليحصل الواحد منهم على قطرة ماء من فضل وضوئه !
وعندما كان الرسول يوزع الغنائم الحربية بعد معركة بدر قال له ذو الخويصرة : « إعدل يا محمد ، والله ما أردت بهذه القسمة وجه الله » ! ولم يزد الرسول في جوابه على هذا الرأي القاسي على قوله : « ويحك من يعدل إن لم أعدل » !!
و من يتابع سيرة عمر بن الخطاب و اعتراضاته المتلاحقة على رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) ، و انتقاداته له التي لم تتوقف طوال حياة النبي و حتى و هو على فراش الموت ، إذ كان يجابهه حتى و هو في حضرة جبريل كما فعل في صلح الحديبية ، لا يبقى لديه أدنى شك من حقيقة حكم الإسلام و موقفه من حرية التعبير عن الرأي .
و في معركة بدر قال النبي ( صلى الله عليه و آله ) : « إذا ظفر أحد بأحد من بني هاشم فلا يقتله لأنهم خرجوا لحربي مكرهين » فأجابه حذيفة بن عتبة « نقتل آباءنا و نترك بني هاشم ، والله لئن ظفرت بعمك العباس لأقتلنه ، فأجابه الرسول بهدوء أتقتل عم رسول الله » 48 .
و بعد أن حبس النبي بني قينقاع الذين قتلوا مسلماً و نقضوا عهدهم مع رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) جاء ابن أبيّ غاضباً فأدخل يده في جنب درع النبي ، و طلب منه أن يخلي سبيلهم و أن يحسن اليهم ، فتغير وجه النبي و قال لابن أبيّ : « أرسلني » أي أتركني ، فقال ابن أبي والله لا أرسلك أي لا أتركك حتى تحسن في مواليَّ ! فقال الرسول لمن حوله : خلوهم لعنه الله و لعنهم معه » 48 .
تنص الدساتير المعاصرة على حرية التعبير و الإنتقاد ، أما في الإسلام فكانوا يعبرون عن آرائهم و ينتقدون الرسول نفسه بما هو خارج عن الشريعة و بما لا تسمح به حتى قال بعض الصحابة : إذا مات النبي سننكح نساءه من بعده؟! ولم يرو راو قط أن الرسول ( صلى الله عليه و آله ) عاقب أحداً بسبب تعبيره عن رأيه ، أو أمر بذلك أو أقره . و كذلك فعل الإمام علي(عليه السلام) خلال فترة حكمه الراشد .
و النتيجة : أن الإسلام يرى أن الخطورة تأتي من عدم تعبيرالإنسان عن رأيه لا من تعبيره ، فإذا كان مصيباً استفيد من رأيه ، و إن خاطئاً تعالج نتيجته و يرشَّد صاحبه . و إلا فإن الخطأ يبقى دفيناً و ينمو و يتفاقم ، و القيد الوحيد الذي يرد على حرية التعبير عن الرأي عدم الإضرار بصاحب حق مشروع تحميه الشريعة 49 .