الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

قراءة في خطبة السيدة الزهراء

تربت في حجر أبيها الرسول الخاتم محمد “صلى الله عليه وآله” ونهلت منه علوم الإسلام كلها، وأخذت عنه الفصاحة والبلاغة وحسن البيان وجمال الخطاب وقوة التأثير في السامعين، وقد تجلى كل ذلك في خطبتها العظيمة المشهورة في المسجد النبوي بحضور الخليفة الأول وجمع من الصحابة والمسلمين لتطالب بحقها وإرثها من أبيها الذي منعوه عنها بحجة أن الأنبياء “عليهم السلام” لا يورثون أبناءهم الدرهم والدينار، بل يورثوهم المعارف والعلوم الإلهية فقط.
والإرث الذي كانت الزهراء ”عليها السلام” تطالب به هو "فدك" وهي أرض كبيرة مليئة بأشجار النخيل، إلا أن هذه المطالبة لم يكن المقصود منها الأرض وشجرها وثمرها، بل كان الهدف أبعد من ذلك وهو حق علي "عليه السلام" في الخلافة بعد رسول الله “صلى الله عليه وآله” وجعلت المدخل السليم للوصول إلى الهدف الحقيقي هو المطالبة بإرثها المادي أولاً، ثم تنتقل للمطالبة بالإرث المعنوي.
وعند التأمل في خطبة الزهراء "عليها السلام" تلك نجد أنها تحتوي على مضامين عديدة يمكن أن نوجزها في العناوين الأساسية التالية:
_ الحمد والثناء على الله والاستدلال على توحيده.
_ الحديث عن نبوة أبيها محمد “صلى الله عليه وآله” وحالة المسلمين قبل إرسال أبيها بالنبوة.
_ إنجازات الرسول الأعظم ”صلى الله عليه وآله” في تحطيم عبادة الأوثان وإعلان عصر عبادة الرحمن.
_ الحديث عن القرآن وعن فلسفة الإسلام والشرائع والأحكام.
_ الحديث عن عدم نصرة المسلمين لأهل البيت التابعين للنبي”صلى الله عليه وآله”
_ الحديث حول إرثها من أبيها وإقامة الدليل والبرهان على ثبوت حقها في الإرث.

ونقف عند مقطعين مهمين من الخطبة

أولهما: بيان فلسفة أحكام الإسلام حيث تقول “عليها السلام”: (..... فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك، والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر والصيام تثبيتاً للإخلاص، والحج تشييداً للدين، والعدل تنسيقاً للقلوب، وإطاعتنا نظاماً للملة، وإمامتنا أماناً للفرقة، والجهاد عزاً للإسلام والصبر معونة على استيجاب الأجر، والأمر بالمعروف مصلحة للعامة، وبر الوالدين وقاية من السخط وصلة الأرحام منماة للعدد والقصاص حقناً للدماء...)
ففي هذا المقطع تتجلى المعارف الإلهية التي وهبها الله لفاطمة "عليها السلام" والتي تدل أيضاً على حكمتها ودرايتها بعلوم الإسلام وأسباب نزول القرآن وما تضمنه من تلك المعارف التي أشارت إليها الزهراء في هذا المقطع.
ثانيهما: (يا ابن أبي قحافة، أفي كتاب الله ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئاً فرياً!!!! فعلى عمد ما تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم؟ إذ يقول ﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ... 1 ومع ما قصّ من خبر زكريا إذ قال ﴿ ... فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا 2. وقال: ﴿ ... وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ... 3 ....فزعمتم أن لا حظ لي! ولا إرث من أبي! أفخصّكم الله بآية أخرج أبي منها؟ أو تقولون: " أهل ملتين لا يتوارثون"؟ أولست وأبي من أهل ملة واحدة؟ أم أنتم بخصوص القرآن وعمومه أعلم من النبي؟....)
ففي هذا المقطع تبين بالدليل والبرهان والحجة القاطعة من كتاب الله عز وجل أن لها كامل الحق في أن ترث من أبيها وليس لأحد أخذ ذلك الحق منها، ولذا لم يكن أمام الخليفة الأول إلا أن يحتج عليها بالحديث الذي رواه بأن الأنبياء لا يورثون ذهباً ولا فضة ولا داراً ولا عقاراً.... وهنا أجابته الزهراء ”عليها السلام”: (سبحان الله، ما كان رسول الله “صلى الله عليه وآله” عن كتاب الله صادفاً، ولا لأحكامه مخالفاً بل كان يتبع أثره ويقفو سوره، .... وهذا كتاب الله حكماً عدلاً وناطقاً فصلاً يقول ﴿ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ... 4 و ﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ... 1 فبين عز وجل فيما وزع عليه من الأقساط وشرع من الفضائل والميراث، وأباح من حظ الذكران والإناث،ما أزاح علة المبطلين وأزال التظني والشبهات في الغابرين...).
ولذا قال بعض المعلقين على كلام فاطمة في هذه الخطبة بأن الذين وجهت إليهم خطبتها لو أجابوها إلى طلبها في فدك، لطالبتهم بعد ذلك بالخلافة وساعتئذ لن يكون هناك حجة أمامهم للرد عليها، وهذا على خلاف ما أرادوا عليه الأمور بعد رحيل الرسول الأكرم “صلى الله عليه وآله” إلى ربه راضياً مرضياً.
فالسلام على الزهراء “عليها السلام” يوم ولادتها ويوم موتها ويوم بعثها حية أمام الله عز وجل لتشفع لأبنائها ومحبيها ومحبي أبنائها من الأئمة الطاهرين “عليهم السلام”. والحمد لله رب العالمين5.