تقيمك هو: 1. مجموع الأصوات: 43
نشر قبل 3 سنوات
القراءات: 4863

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

متى تكون واعيا؟

كلُّ إنسانٍ له عقلٌ يُدرك به وإن كان بسيطاً فإنه يمتلك وعياً بمستوى معين، حتى الطفل يمتلك وعياً، وإن كان منحصراً في الطعام وإرادة البقاء في هذه الحياة. وحين يكبر الإنسان فإنه من الطبيعي أن يمتلك وعياً أكبر برغباته وتطلعاته، وقد يعي أيضاً حقوقه التي قد تتعرّض للهتك حين يكون جاهلاً بها، فينبري للمطالبة بها والإصرار عليها بما يمتلكه من عيٍ بها.

وحديثنا في هذه المقالة ليس عن هذا المستوى من الوعي، وإنما نتحدّث عن وعيٍ بمستوى متقدّم؛ يُحقق فيه الإنسان هدف وجوده في الحياة. وطالما أن حديثنا عن هذا المستوى من الوعي فإنه وبكل تأكيد لا يمكننا الجزم بأن كلَّ إنسان موجود في هذه الحياة يمتلك وعياً بهذا المستوى؛ بل إننا ومن خلال ملاحظتنا للعالم من حولنا يمكننا أن نُدرك بجلاء أن من يمتلكون وعياً بهذا المستوى هم قليلون؛ والله سبحانه وتعالى يؤكد هذه الحقيقة في كثيرٍ من آياته حيث يقول تعالى: ﴿ ... وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ... 1؛ وفي آيةٍ أخرى يُصرّح الله سبحانه وتعالى بتصريحٍ خطيرٍ للغاية، يقول تعالى: ﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ 2.

وهنا سؤال يفرض نفسه: متى تكونَ واعياً؟

وللإجابة على هذا السؤال المهم والحساس أستعرض ثلاث خصالٍ أساسية إذا اجتمعت فيك في كلِّ دورٍ تؤديه في حياتك، فثق تماماً بأنك قد بلغت تلك المرتبة من الوعي؛ وإلا فعليك أن تبذل قُصارى جهدك لبلوغ تلك المرتبة السامية؛ والتي يتحقق فيها قول الباري جلَّ وعلا: ﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ 3.

فتأمّل في هذه الخصال الثلاث، ثم ارجع إلى ذاتك وكاشفها بصدق؛ لتقف على حقيقة وعيك؛ ولا تكن ممن يمنّي نفسه بما ليس فيه، فإن ذلك لن يزيدك إلا جهلاً إلى جهلك.

وأنت وحدك الذي يُمكنه تقييم ذاتك، فالله سبحانه وتعالى يقول: ﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ﴾ 4.

أولاً - الاستقلالية

بمعنى أن تكون مستقلاً بذاتك في أي نشاطٍ أو تحرّكٍ تقوم به، فيكون لديك دافعٌ ذاتي، وهدفٌ شخصي واضح، وقناعة تامة بما تقوم به. فأنت لست مجرد تابعٍ لجهة أخرى تستغلك لتحقيق أهدافها الشخصية؛ مهما كانت أهداف تلك الجهة سامية، فإن صفة التبعية لن تُفارقك حين لا تتحقق في ذاتك الاستقلالية بالمعنى الذي ذكرناه.

والاستقلالية لا تعني انعزالك عن المحيط الخارجي؛ وعدم اندماجك فيه، إنها تتمثل في طبيعة استجابتك للأدوار التي تؤدّيها من حيث كونها استجابة ذاتية بعيدة عن تأثيراتِ الآخرين، أم أنّها متأثرةً بردّات فعلهم، فتارةً تكون بعنوان مراضاة الآخرين، وأُخرى بعنوان الحذر من غضبهم وسطوتهم، وأخرى تفادياً لتكبّد أيَّ خسائر أو سعياً وراء مكاسب ماديةً أو معنوية.

ولا يمتلك صفة الاستقلالية من يعيش التبعية في حياته، فهو إما خاضعٌ للآخرين، أو أنّه تابعٌ لهم لا يملك من أمره شيئاً، فلا يُقدّم ولا يُؤخّر، وأفضل أحواله أن يكون أداةً بيد غيره يُسيّره كيف يشاء؛ وقد ذمَّ الله سبحانه من يعيشون حالة التبعية ولا يُعمِلون فكرهم ورأيهم في حياتهم، ولربما استحقّوا العذاب الأليم حين ترتبط تبعيتهم بتكذيب رسالة الأنبياء والالتزام بالدين والقيم الإلهية؛ يقول تعالى: ﴿ وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ 5.

ولا يعني ذلك أن لا تُشارك ضمن أيَّ نشاطٍ جماعي، ولكن المسالة تتمحور حول جوهر حضورك في هذا العمل الجماعي أو ذاك، فهل يصدق عليه عنوان الاستقلالية أم أنه ينطبق على حضورك مقولة: حشرٌ مع الناس عيد؟.

الاستقلالية تعني أن تقوم بأدوارك في الحياة من تلقاء نفسك بدافع ذاتي، سواء حضر من يراقب تحركاتك أو غاب، أو كان هناك ثواب أو عقاب أم لم يكن، فأنت في كل الأحوال تؤدي دورك ذاتياً لأنك مقتنع تمام الاقتناع أنه دورك وأنت مسؤول عنه، وهذا وحده يكفي لأن تكون مندفعاً لأدائه على أكمل وجه.

والآن تأمل في الأدوار التي تؤديها في حياتك، فإن كنت تقوم بها وفق هذا التصور فأنت تمتلك الاستقلالية في أدوارك، وبالتالي تكون قد ارتقيت أولى درجات الوعي المتقدّم.

وأنت وحدك من يُمكنه أن يقرّر أن تكون هامشيّاً أو تابعاً أو مستقلاً «واعياً».

ثانياً - الرّساليّة

بأن تتبنى رسالةً واضحةً في حياتك، تتطلع لتحقيقها في المحيط من حولك. وبناءً عليها يكون كلُّ نشاطٍ تقوم به يدور حول تلك الرسالة التي تتبنّاها وتؤمن بها إيماناً حقيقياً نابعاً من أعماق قلبك، وتستشعرها بكلِّ أحاسيسك، وتجري في كيانك مجرى الدمِّ في عروقك؛ وتكون مستميتاً في سبيل تحقيق تلك الرسالة، ولا تخشى أحداً إلا الله سبحانه مستمسّكاً بالنهج القرآني، يقول تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴾ 6.

ويتجلّى ذلك من خلال حضور تلك الرسالة في ذهنك ووعيك، وقدرتك على التعبير عنها بعباراتٍ قصيرة، كما أن سلوكك العملي ونشاطك الميداني وسيرتك الحياتية تُجسّد تلك الرسالة التي تُمثّل عنواناً لشخصيّتك ومحوراً لحياتك. وتزداد عظمتك وقيمتك في الحياة بمقدار عظمة وقيمة تلك الرسالة التي تتبنّاها.

ولا يعني ذلك أنك لا تتحرك في أكثر من نشاطٍ أو تنتقل من نشاطٍ لآخر، إن المهم في الأمر هو وجود رسالة محورية تجمع تحركك ونشاطك. فلا تكن نشاطاتك مبعثرة هنا وهناك ولا تجتمع في رسالةٍ واحدة، فتكون حينها مشتّتاً ولا تمتلك وعياً وإدراكاً كافياً لجمع ذلك الشتات، فالحياة قصيرة، ومداها قريب، وإمكانياتك مهما كانت تبقى محدودة، فلا تُضيّع حياتك في أمرٍ لا يخدم دورك وهدف وجودك في الحياة.

وأقف هنا عند ملاحظةٍ سريعة إذ يعتقد البعض أن الوظيفة تُمثّل دوره وهدف وجوده في الحياة، وأنه بأدائه لوظيفته على أكمل وجه يكون قد حقّق في شخصيّته صفة الرّسالية؛ وهذا الاعتقاد ليس صحيحاً على إطلاقه، إلا إذا تحقّق في الوظيفة كل الجوانب التي ذكرناها فيما يخص هذا العنصر المهم من عناصر الوعي؛ وهو: الرساليّة.

ثالثاً - البصيرة

بأن تمتلك بصيرة في أي دورٍ تقوم به في الحياة، سواءً كان ذلك الدور على المستوى الشخصي أو العائلي أو الاجتماعي؛ فيكون لديك قوّة إدراكٍ وفطنةٍ لحقيقة دورك ورسالتك في الحياة، ومعرفةٍ تامّةٍ بالآثار والعواقب التي تقف وراءها. فتجد حضوراً عميقاً في ذهنك ووعيك للهدف الأسمى في حياتك؛ وتستشعر حقيقة المسؤولية التي كلّفك الباري جلَّ وعلا بها؛ وتعيش في أعماق نفسك همَّ تحقيق ذلك الدور في أعلى درجاته؛ مما يجعلك في حالة تفكيرٍ دائمٍ تجاه الأدوار التي تتحمل مسؤوليتها؛ ويدفعك لتحرّكٍ مستمرٍ من أجل إنجاح دوركَ في الحياة؛ وتكون دائماً على استعدادٍ تامٍّ لبذل كلَّ ما تملك من جهدٍ ومالٍ في سبيل ذلك، حتى وإن كلّفك الأمر بذل حياتك فأنت مستعدٌ لذلك.

وقد أكّد الله سبحانه وتعالى أهمّية البصيرة وحقيقة موقعيّتها في تحقيق الوعي الإنساني، حيث يقول تعالى: ﴿ قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ 7.

وكلّما كانت البصيرة نافذةً وراسخةً فإن مستوى الوعي يكون أرقى وأكثر تقدّماً، ولذا نجد أن الإمام جعفر بن محمّدٍ الصادق  حين أراد أن يذكر شيئاً من فضائل أبي الفضل العبّاس  نجده ركّز على أهم صفتين تمثّلتا في شخصيته الكريمة؛ فقال : «كان عمّي العباس بن علي  نافذ البصيرة صلب الإيمان».

وأخيراً قد يكون لديك استقلاليةً ذاتية فيما تقوم به من أدوارٍ في حياتك، إلا أنك لا تتبنّى رسالةً واضحة، وهنا تبقى مفتقداً للوعي المطلوب. وقد تتبنّى رسالةً واضحة، إضافةً إلى استقلاليّتك، إلا أنك لا تمتلك بصيرة بما تقوم به، وفي هذه الحال أيضاً تبقى دون المستوى المأمول من الوعي. ولكنّك حين يكون لديك استقلاليةً ذاتية، وتتبنى رسالة واضحة، وتمتلك فوق ذلك بصيرة فيما تقوم به من أدوارٍ في حياتك، عندها فقط تكون واعياً بمستوىً يؤهلك لتحقيق هدف وجودك في الحياة. فاختر لنفسك الواقع الذي تريده لذاتك؛ وثق بأنك المسؤول الأول والأخير عن اختيارك، وفي غدٍ بين يدي الباري جلَّ وعلا ستُحاسب عن ذلك، يقول تعالى: ﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ ﴾ 8.