الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

لماذا صار التصوف تنظيما جماهيريا واسعا ؟

نص الشبهة: 

لماذا صار التصوف تنظيماً جماهيرياً واسعاً ؟

الجواب: 

القضية الأكبر في الإسلام ، أو قضية الإسلام من أكبر زواياها ، هي أن الله تعالى ، رب العالمين وخالق الأكوان والإنسان ، قد تجلى لرجل من أبناء إبراهيم من ذرية إسماعيل صلى الله عليه وآله ، وأرسل له سيد الملائكة وأنزل عليه رسالة ، فكذبه قومه وظهرت منه المعجزات وآمن به قسم من الناس وحارب أعداءه وانتصر ، وكوَّن أمةً ، وأحدث هذا المد .
هذه الحقيقة أثارت في نفوس الشعوب التي دخلت في الإسلام قضية الله تعالى وعبادته ، والإتجاه الى طلب رضاه والنجاة من عذابه والخلود في جنات النعيم ، فصارت القضية الأولى المطروحة بإلحاح والمعاشة بعمق عند أصحاب النفوس الصافية من مثقفي تلك الشعب وعوامها .
وهنا انفتح باب الإجتهاد على مصراعيه ، في كيفية معرفة الله تعالى وعبادته ونشأ التصوف وصار موجة في الشعوب المسلمة ، وتعددت فيه الإجتهادات وتأثرت بثقافات الأديان الأخرى والوثنيات ، وبكل لون وصبغة !
عقيدتنا نحن أتباع أهل البيت عليهم السلام أن الله تعالى كان يعلم أنه لا يجوز في حكمته أن يترك الأمر للناس ليجتهدوا في معرفته وعبادته ، حتى مع وجود القرآن لأنه حَمَّال وجوه ، وحتى مع وجود السنة لأن رواتها مختلفون ، ومفسروها أكثر اختلافاً ، بل لا بد من جعل أئمة معصومين بعد النبي صلى الله عليه وآله ليكونوا قدوات عملية للناس تجسد نظرية معرفة الله تعالى وتطبيقها !
لذلك لم يترك الله عز وجل أمر معرفته وعبادته مجملاً مفتوحاً للناس ، بل جعل لهم قدوات ربانية بعد النبي صلى الله عليه وآله وأمر نبيه صلى الله عليه وآله فأخبر الأمة أنهم اثنا عشر من عترته عليهم السلام وأمرها باتِّباعهم .
لكن الشعوب الجديدة لم تنقل إليها عقيدة إمامة العترة النبوية عليهم السلام وأن الله تعالى لا يقبل أن يعرفه المسلمون ويعبدوه باجتهادهم وفهمهم لنصوص القرآن والسنة ، لأنهم بذلك يضيعون ويختلفون ويقعون في تحريف الدين ، بل لا بد من اقتدائهم بالقدوات الحية الذين عينهم النبي صلى الله عليه وآله .
إن القليل من الناس من شعوب البلاد المفتوحة استطاع أن يعرف عقيدة الإمامة ، فقد كان بعض الصحابة يبلغها بشكل سري على تخوف ، لأن معناه عند السلطة أنه يتهم النظام ويخوِّن قسماً من الصحابة ويتهمهم بتهمة عظيمة !
أمام هذا الواقع ، لم يقف أحد أمام اجتهادات المجتهدين من الشعوب الجديدة في معرفة الله تعالى وعبادته ، خاصة من مثقفي البلاد الذين يعتبرون أنهم أكثر حضارة ومدنية من العرب ، وأنهم إن فهموا لغتهم فهم أقدر منهم على فهم نصوص الدين الذي نزل عليهم ، وفهم أغراضه وأهدافه في الإنسان !
لهذا سرعان ما امتلأ بازار التصوف بألوان الأفكار والسلوكيات ، وبرز وُعَّاظٌ وعُبَّادٌ وقراءٌ ومُنَظِّرُون لمعرفة الله وعبادته ، وكانوا كلهم أو جلهم من الشعوب الأخرى غير العرب وغير الشيعة طبعاً ، وكان مستواهم الذهني نوعاً متقدماً على المسلمين العرب ولذلك تحول العرب إلى أتباع ومريدين لهؤلاء العلماء والمشايخ المتصوفة العجم !
ثم بدأ شيوخ المتصوفة بجذب الأتباع وتنظيمهم ، الأمر الذي أكد الحاجة إلى مراكز للقاءاتهم وبرامجهم ، فكانت الخانقاهات !
وطبيعي أن يبحث شيوخ التصوف عن شخصيات عارفة لله عابدة له ليتخذوها قدوة ، وأن يجدوا أهل البيت عليهم السلام قبل غيرهم ، ولذلك تجد الأكثرية الساحقة منهم تنسب طريقتها إلى أمير المؤمنين عليه السلام كمصدر لأفكارها في معرفة الله تعالى وعبادته !
وبهذا دخل التشيع بمعنى حب أهل البيت عليهم السلام إلى ثقافتهم ، ودخل مديح أمير المؤمنين عليه السلام خاصة إلى أناشيدهم وأذكارهم وأورادهم .
والخلاصة أن التصوف في الأمة كان وما زال تياراً واسعاً قوياً وجذاباً ، وطبيعي أن يكون الخطأ فيه أكثر من الصواب ، والكذابون فيه أكثر من الصادقين 1 .

  • 1. كيف رد الشيعة غزو المغول ( دراسة لدور المرجعين نصير الدين طوسي و العلامة الحلي في رد الغزو المغولي ) ، العلامة الشيخ علي الكوراني العاملي ، مركز الثقافي للعلامة الحلي رحمه الله ، الطبعة الأولى ، سنة 1426 ، ص 421 ـ 424 .