تشكِّل واقعة كربلاء في ذاكرة المسلمين ووعيهم أروع صورة من صور التفاني في التضحية والبذل والإيثار والعطاء على امتداد التاريخ الإلهي العام، والإسلامي منه بشكلٍ خاص، وتشكِّل من ناحية أخرى نموذجاً راقياً بين العبودية لله عزّ وجلّ، وبين أحد أهم مظاهرها وتجلّياتها في الحياة الدنيا وهي "الشهادة" الحاصلة عن الجهاد في سبيل الله عزّ وجلّ.
حسب الرؤية الاسلامية تنتهي المجتمعات البشرية، وتفنى الحضارات الانسانية بسبب انحرافها عن الحق واختيارها طريق الباطل، ولكن الحق ليس شيئاً واحداً، فكل سنة الهية، وكل فطرة خلقها الله حق، وكل قانون طبيعي سنة، وكل ما أجراه الله على الكون حق، فاذا انحرف الانسان عن القانون الالهي دمر حياته بيده عاجلًا أو آجلًا.
تكشف زيارة الأربعين للإمام الحسين بن علي عن دلالات وآثار عظيمة، كما تبرز جانباً مهماً من تجليات عظمة الإمام الحسين ومكانته وفضله. إن ظاهرة الزيارة المليونية في زيارة الاربعين للإمام الحسين يعبر عن انتصار القيم والمبادئ والأهداف التي استشهد من أجلها الإمام الحسين في معركة كربلاء.
فالموقف الأول للإمام السجاد (عليه السلام) كان في الكوفة، عندما تجمّعت الناس لرؤية السبايا من نساء أهل البيت (عليهم السلام)، حيث خطب بالناس قائلاً: (أيّها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أنا من انتهكت حرمته، وسلبت نعمته وانتهب ماله، وسبي عياله، أنا ابن المذبوح بشط الفرات... أنا ابن من قتل صبراً وكفى بذلك فخراً....).
الإسلام بكلّ ما فيه هو ثورة على مختلف الصعد والمستويات، بدءاً من رأس الهرم في المجتمع وهو المعبّر عنه بصاحب السلطة والقرار، وصولاً إلى المسائل الصغيرة المتعلّقة بتفاصيل الحياة اليومية للفرد المسلم، وهو بهذا يشكّل دورة كاملة للحياة بما تضجّ به من الحركة والتفاعل فيما بين الأفراد وبينهم وبين السلطة الحاكمة.
ممّا لا شكّ فيه أنّ الثورة الحسينية فريدة من نوعها في التاريخ الإنساني العام، حيث أنّها الثورة الوحيدة التي لا زالت تلعب دوراً منذ حصولها وحتى اليوم، حيث تفاعلت معها كلّ الأجيال التي جاءت بعدها وأخذت منها كلّ معاني الجهاد والتضحية والفداء والإستشهاد، ولعلّ أصدق تعبير عن ذلك التأثير عبر العصور هو ما قاله الإمام الخميني المقدّس: (إنّ كلّ ما لدينا هو من عاشوراء).
من كلّ النصوص التي أوردناها نرى إذن أنّ الأئمة (عليهم السلام) هم الذين حملوا في عصورهم أمانة الثورة الحسينية وتولّوها بالرعاية والعناية وتكفّلوا بمهمة تبليغها إلى الأمة جميعاً عبر تشجيع المسلمين على إحيائها للبكاء على الحسين (عليه السلام) والإجتماع لتذكّر مصائب أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
أن الإمام الحسين لم يخرج إلى كربلاء لكي يستفيد أمراً دنيويًّا، وإنما خرج ليأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويدعو إلى الخير، ولهذا فإنه نال رضا الله تعالى، وحصل على أعظم الأجر، وفاز بالشهادة، والدرجة العالية في جنات النعيم، كما ورد في بعض الأخبار أن النبي قال للإمام الحسين: إن لك في الجنة درجات لا تنالها إلا بالشهادة.
أما بكاء الشيعة على الإمام الحسين عليه السلام فقد وردت روايات صحيحة تدل على أن رسول الله صلى الله عليه وآله بكى على الإمام الحسين عليه السلام قبل قتله بسنين كثيرة.
الإمام الحسين (عليه السلام) رمز الجهاد والتضحية والفداء والإستبسال والإستشهاد، وهذا أول ما يخطر بالبال عندما يرد اسم الحسين (عليه السلام) أو تنطق به الناس، حتى صارت هذه الصفات جزءاً لا يتجزّأ من تلك الشخصية الفذّة والرائدة، فلا يمكن أن نتصوّر الحسين (عليه السلام) مجرّداً عنها أو من دونها.
وأما عمَّتي فإنها سمعت ما سمعت وهي امرأة، ومن شأن النساء الرقة والجزع، فلم تملك نفسها أن وثبت تجر ثوبها وإنها لحاسرة، حتى انتهت إليه فقالت: وا ثكلاه! ليت الموت أعدمني الحياة، اليوم ماتت أمي فاطمة وأبي علي وأخي الحسن، يا خليفة الماضي وثمال الباقي.
"هيهات منّا الذلّة" كان شعار الحسين (عليه السلام) الذي رفعه في مواجهة الظروف الضاغطة التي كانت تريد أن تسلب منه حرية الإختيار في اتّخاذ القرار لتجعله تابعاً لحاكمٍ جائر ظالم لا يرى في الدولة إلّا مغنماً لشخصه ولعائلته وحاشيته، ولا يرى في الناس إلّا جهة العبودية للسلطان تنفّذ رغباته وتطيع أوامره ولو على حساب مصالحها وأمنها واستقرارها.
كَتَبَ الإمام الحُسين (عليه السلام) إلى بَني هاشم يَقول: (بسم الله الرحمن الرحيم، مِنَ الحُسين بن علي إلى بني هاشم، أمّا بَعد، فإنّه مَنْ لَحِقَ بي مِنكم إستُشهِد, وَمَن تَخَلّفَ عَنّي لَمْ يَبلغ الفَتْح، والسّلام)1.
كَتَبَ الإمام الحُسين (عليه السلام) إلى بَني هاشم يَقول: (بسم الله الرحمن الرحيم، مِنَ الحُسين بن علي إلى بني هاشم، أمّا بَعد، فإنّه مَنْ لَحِقَ بي مِنكم إستُشهِد, وَمَن تَخَلّفَ عَنّي لَمْ يَبلغ الفَتْح، والسّلام).
ولكن من تمسك بالنهج الحسيني قولاً وفعلاً بدّل هذه المقولة وقهر ذلك الجيش الأسطورة وعلمه درساً لن ينساه أبداً، وجعله يعاني من تلك الهزيمة إلى يومنا!! وهذا ما يفعله الحسين بمن يقتدي به و بمن يرفع شعاراته وكلماته...
مهما غرفنا من غدير كربلاء فلن ينضب ذلك النبع الرقراق، ومهما تعلمنا في تلك المدرسة فلن نستغني عنها أبداً، بل سنظل ندرس فيها إلى الأبد، وذلك لأن سيد شباب أهل الجنة – عليه السلام – هو الأستاذ فيها ليعلم البشرية أسرار الكمال والحياة الأبدية. ومن أبرز العناوين في هذا المضمار عنوان الجهاد. والجهاد في كربلاء له أبعاد وآفاق وأعماق عديدة. ونحن هنا نريد أن نتحدث عن دور التحررعما سوى الله تعالى في استمرار الجهاد.
حريّ بنا، وبعلمائنا الأجلاء وخطبائنا الأعزاء الكرام، أن نخصّص ليلة السادس من محرّم (ليلة حبيب) من كلّ عام لعرض موضوع قرآني؛ لربط المجتمع بالثقل الأكبر، من خلال مناسبة عظيمة استُبيح بها الثقل الأصغر؛ لنجمع في قلوبنا ثقافة الثقلين اللذين أوصانا رسول الله بالتمسّك بهما معاً.
بعض الثورات تمتدّ أيديها في الزمان إلى سنين أو عقود، وتمتدّ جذور رقعتها الجغرافية إلى دولة أو دول، وتحمل من القيم النبيلة الكثير من المبادئ والقيم والشعارات والدساتير العظيمة، وتتسع دائرة تأثيرها الإنساني إلى مجتمع أو مجتمعات وشعب أو شعوب وثورات، وتحظى من بين الثورات الأخرى بشيء من الفرادة والتميز.