الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

القضاء والقدر

القضاء والقدر من صميم العقائد الإسلامية التي جاء بها الكتاب والسنة ، ولا يجوز إنكارهما ، فمن استطاع أن يفهمهما على الوجه الصحيح بلا إفراط ولا تفريط فبها ، وإلا فلا يجوز للمكلف أن يتكلف فهمهما والتدقيق فيهما ، لئلا يضل وتفسد عقيدته ، لأن هذا المبحث من أدق المباحث الفلسفية التي لا يدركها أكثر الناس ، وعليه فيكفي الاعتقاد بهما بنحو الإجمال من دون الخوض في التفاصيل .
والقضاء : في اللغة له خمسة معانٍ :
1 ـ بمعنى الخلق : قال تعالى ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ 1 ، أي خلقهن سبع سماوات .
بمعنى الأمر : قال تعالى ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ... 2 ، أي أمر ربك .


بمعنى الإعلام : قال تعالى ﴿ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا 3 ، يعني أعلمناهم ذلك وأخبرناهم به قبل وقوعه .
4 ـ بمعنى الفصل في الحكم : قال تعالى ﴿ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ 4 ، أي يفصل في الحكم بالحق بين خلقه .
5 ـ بمعنى الفراغ من الأمر : قال تعالى ﴿ ... قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ 5 أي فُرِغ منه ، وقال تعالى ﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ... 6 .
إذا اتضح ما ذكرناه في معاني القضاء وأنه ليس له معنى واحد ، بل له معان متعددة ، يتبين أن معنى القضاء يكون بحسب الجملة التي ورد فيها ، فتارة يراد به الأمر ، وتارة يراد به الخلق ، وتارة يراد به الفصل في الحكم ، وتارة يراد به الفراغ من الشيء . . . وهكذا .
فقضاء الله سبحانه في أفعال خلقه هو أمرهم بالأفعال الحسنة ، ونهيهم عن الأفعال القبيحة ، وقضاؤه سبحانه في أنفس الناس هو خلقه لها ، وقضاؤه سبحانه وتعالى في أفعاله تعالى هو إيجاده لها ، وقضاؤه في الحوادث هو أنه سبحانه وتعالى أخبر ملائكته بوقوعها ، فوقعت بأسبابها الطبيعية ، لا بجبره لعباده عليها . . . وهكذا .
وأما القدر فالمراد به أن الله سبحانه وتعالى حدد كل شيء من الأرزاق والآجال وغيرها ، فجعل كل شيء بحد معلوم ، لا يزيد ولا ينقص ، قال سبحانه وتعالى ﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ 7 ، ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ 8 ، ﴿ ... وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا 9 .
والحاصل أن أفعال المكلفين قضاها الله بمعنى جعل لها حكما شرعياً : إما أمر أو نهي ، وقدرها بمعنى أنه سبحانه وتعالى جعل لكل حكم حدوده . وأما في ما يتعلق بالآجال والأرزاق والحوادث الكونية فإن الله سبحانه وتعالى قضاها بمعنى أوجدها ، وقدرها بمعنى أنه جعل لها حداً وقدراً خاصاً في الزمان والمكان وغيرهما 10 .