الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الوراثة و دورها في السعادة و الشقاء

قانون الوراثة

أدرك الإنسان منذ أمد بعيد ، أن الموجود الحي ينقل كثيراً من الصفات و الخصائص إلى الأجيال التي تليه ، فالجيل اللاحق يكتسب صفات الجيل السابق . فبذرة الزهرة تحفظ في نفسها خصائص الساق و الورقة و الزهرة و الألوان الطبيعية لها ، و بعد الانبات تأخذ بإظهار تلك الخصائص واحدة تلو الأخرى .

إن بذرة المشمش تشتمل على جميع الصفات المائزة للشجرة التي وجدت منها ، فعندما تزرع هذه البذرة ، و تنبت ، و تأخذ بالنمو تظهر تلك الصفات تدريجياً . و هكذا فالقطة الصغيرة تشبه أبويها في هيكلها و شعرها و مخالبها .
و ترث صفات أسلافها . و كذلك الطفل الافريقي فهو يشبه أبوبه في سواد البشرة و تجعد الشعر ، و وضع الأنف و لون العيون في حين أن الطفل الأوروبي يرث المميزات التي يختص بها العنصر الذي ينتمي إليه أبواه في لون البشرة و العيون و الشعر و وضع الأنف و ما شاكل ذلك .
و بصورة موجزة نقول : إن قانون الوراثة من القوانين المهمة في حياة الموجودات الحية . و هذا القانون هو الذي يكفل للنبات و الحيوان و الانسان بقاء صورها النوعية الخاصة بها ... و على هذا الأساس يكتسب الأبناء صفات الآباء من دون حاجة إلى أي نشاط إرادي منهم .

عامل الوراثة

حققت العلوم التجريبية انتصارات رائعة في مختلف مظاهر الطبيعة . و بذلك كشفت اللثام عن كثير من الحقائق التي كانت مجهولة لدى السابقين و لقد ساير ( علم الأجنة ) و ( البحث عن الخلية ) التقدم العلمي في الجالات الأخرى في تكامله و توسعه يوماً بعد يوم .
لقد استطاع العلماء أن يفحصوا الموجودات الصغيرة بواسطة أجهزة قوية و مكرسكوبات ( مجاهر ) دقيقة ، توصلوا أخيراً إلى أن منشأ ظهور الموجود الحي هو وحدة صغيرة جداً تسمى ( الخلية ) ، و هذه تتكامل تحت شروط معينة ، و تظهر بصورة حشرة أو حيوان أو إنسان . إن اكتشاف هذا السر الدفين عقد قانون الوراثة أكثر ، و أدى إلى توسع البحوث فيه و التساؤل عن أسرار هذه الخلية و كيفية تأثير عوامل الوراثة فيها و أين تكمن ؟
" لقد صرف علماء الحياة وقتاً كثيراً خلف الميكرسكوبات في البحث عن أسرار الخلية . فإن المسألة كانت محاطة بمشاكل عديدة . فهم كانوا يواجهون الخلية من جهة و كيف أن هذا العضو المادي يحتفظ بخواصه الفيزياوية و الكيمياوية ، و من جهة أخرى كانوا يصطدمون بقوانين الوراثة التي أخذت تتضح حسب معادلات رياضية دقيقة تبعاً لقانون ( مندل ) " .
« فأين يكمن عامل الوراثة ؟ و في أي جزء من الخلية ؟ و على أي الأعضاء يقع عبء هذه الظاهرة ؟ أي جزء من ( البروتوبلازم ) و أي جانب من ( النواة ) يجعل الطفل يرث شكل أنف أمه و عيني أبيه . و الصفة الفلانية من أجدادة ؟! » 1 .
و بعد الجهود العظيمة و التتبع الدقيق توصل العلماء إلى أن في الخلية ( نواة ) بيضية الشكل ذات جدار مرن ، توجد في داخلها أجسام صغيرة تظهر عند انقسام الخلية ، و لقد أسموها بـ ( الكروموسومات ) .
« و لقد توصل كثير من علماء الحياة إلى معرفة أعدادها وأثبتوا أن كل خلية من خلايا جسم الانسان تحوي 48 كروموسوماً ، و خلية الفأرة 40 ، و الذبابة 12 ، و الحمص 12 ، و الطماطم 24 ، و النحلة 32 ... ألخ » 2 .
و لقد خطا العلماء في تحقيقاتهم العلمية في هذا المضمار خطوة أخرى ، فتوصلوا إلى أن في ( الكروموسومات ) أجساماً صغيرة جداً أطلقوا عليها إسم ( الجينات ) ، و أثبتوا أن هذه الأجسام هي الناقلة للصفات الوراثية في الحقيقة . فالجينات هي التي تؤثر في انتقال صفات الشعر و البشرة و وضع الأنف و الشفتين و غير ذلك من الصفات من الآباء و الأمهات إلى الأولاد .
« و لقد أثبت علم الوراثة الحديث ، أن الصفات الوراثية تنتقل بواسطة الكروموسومات و تتوزع توزيعاً خاصاً في الخلايا التناسلية و عليه فإن لهذه الكروموسومات أجزاء صغيرة جداً يبلغ عددها العشرات و المئات تسمى بـ ( الجينات ) ، و هي تكون العوامل الوراثية . لقد توصلوا إلى وضع هذه الجينات في نوع من الذباب اسمه ( دروزوفيل ) و عينوا مراكز تلك الجينات بالنسبة إلى الكروموسومات و عرفوا أبعادها ... » 3 .
« إن الصفات الوراثية ترتبط بعوامل معينة تسمى بـ ( الجينات ) وإن عددها كثير جداً . هذا و لا تخلو الجينات من تأثير على بعضها البعض . فقد يرتبط تأثير واحد بعدة جينات بمعنى أن كلاً منها ينقل جزء معيناً من تلك الخواص و الصفات ... » 4 .

الوراثة قبل تطورها

لم تكن البشرية تجهل قانون الوراثة تماماً فيما مضى ، بل كانوا يجهلون خصوصياتها ، إن علماء الماضي كانوا يعلمون أن في بذرة الزهرة و نواة الشجرة و نطفة الانسان و الحيوان ذخائر تنقل صفات الأجيال السالفة للأجيال اللاحقة .
إن ما اكتشفه علماء الوراثة اليوم ، و توصلوا إليه بأبحاثهم الدقيقة من وجود موجودات صغيرة داخل الكروموسومات تنقل الصفات الوراثية و التي
أسموها ( الجينات ) ليس أمراً جديداً كل الجدة . فالرسول الأعظم و الأئمة الطاهرون عليهم السلام ، الذين كانوا يكشفون الحقائق بنور الوحي و الالهام لم يغفلوا أمر هذا القانون الدقيق . بل أشير إليه في بعض النصوص و أطلق على عامل الورائة فيها اسم ( العرق )
و بعبارة أوضح : فإن المعنى الذي يستفيده علماء الوراثة اليوم من كلمة ( الجينة ) هو نفس المعنى الذي استفادته الأخبار من كلمة ( العِرق ) و على سبيل المثال نذكر بعض تلك الروايات .
1 ـ عن النبي ( صلى الله عليه و آله ) : « أنظر في أي شيء تضع و لذلك ، فإن العِرق دساس » 5 . وحينما نراجع المعاجم اللغوية في معنى كلمة ( دساس ) نجد أن بعضها ـ كالمنجد ـ يعلق على ذلك بالعبارة التالية : « العرق دساس أي : أن أخلاق الآباء تنتقل إلى الأبناء » 6 .
فهذا الحديث يتحدث عن قانون الوراثة بصراحة . ويعبر عن العامل فيها بالعِراق . فالنبي ( صلى الله عليه و آله ) يوصي أصحابه بألا يغفلوا عن قانون الوراثة بل يفحصوا عن التربة الصالحة التي يريدون أن يبذروا فيها ، لكي لا يرث الأولاد الصفات الذميمة .
2 ـ عن الامام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « حسن الأخلاق برهان كرم الأعراق » 7 . و هذا الحديث يثبت إمكان اكتشاف الطهارة العائلية للفرد من السجايا الفاضلة عنده .
3 ـ و هذا محمد بن الحنفية ابن الامام علي ( عليه السلام ) كان حامل اللواء في حرب الجمل ، فأمره علي بالهجوم ، فأجهز على العدو ، لكن ضربات الأسنة و رشقات السهام منعته من التقدم فتوقف قليلاً ... و سرعان ما وصل إليه الامام و قال له : « إحمل بين الأسنة » فتقدم قليلاً ثم توقف ثانية ، فتأثر الامام من ضعف ابنه بشدة فاقترب منه و « ... ضربه بقائم سيفه و قال : أدركك عرق من أمك » 8 .
فهنا يثبت الامام ( عليه السلام ) أن الجبن الذي ظهر واضحاً في ابنه محمد ليس موروثاً منه ( عليه السلام ) لأنه لم يعرف للجبن معنى قط ، فلا بد وأن يكون من أمه ، لأنها لم تكن من الفضيلة بدرجة تكون معها بمنزلة الصديقة الزهراء ( عليها السلام ) .

الشذوذ عن قانون الوراثة

و بالرغم من أن قانون الوراثة قانون و ثابت و عام . و أن انتقال الصفات الوراثية من الآباء و الأمهات إلى الأبناء أمر مسلم به عند علماء الوراثة فإن هناك ظواهر تثبت شذوذ الطبيعة عن هذا القانون ، و لقد أثبتت التحقيقات العلمية أنواعاً من هذا الشذوذ في كثير من الفطريات و الأعشاب و الأزهار و الأشجار و الحشرات و الحيوانات البرية و المائية و الطيور و حتى في البشر .
لقد أثبتت التجارب أن هذه الطفرة الحاصلة في بعض الصفات الوراثية قد تصبح وراثية فتنتقل إلى الأجيال اللاحقة ، بينما تبقى في بعض الحالات جامدة لا تتعدى الأجيال التي تأثرت بهذه الطفرة .
إن هذه الطفرة أو الشذوذ عن قانون الوراثة يمكن أن يعزى إلى سببين رئيسين : أحدهما : التغيرات الحاصلة في وضع ( الجينات ) و ( الكروموسومات ) الموجودة في الخلية الحية . و ثانيهما : وراثة الصفات الموجودة في الأجداد و الأسلاف البعيدين و ظهور بعض الصفات التي كانت مضمرة في الآباء .
و الآن لنستعرض هذين العاملين بشيء من الاختصار :
1 ـ التغيرات الحاصلة في وضع الجينات :
« يجب أن لا يغيب عن البال أنه قد تظهر بعض الخواص الوراثية تبعاً للبيئة ، و على العكس فقد تختفي بعض الصفات في أحد الأجيال و تقف نهائيا . و قد تستمر الصفات الحادثة في الانتقال من جيل إلى جيل . هذه العملية تسمى بالطفرة ، و التي لم يتوصل بعد إلى معرفة عللها الواقعية . و عليه فمن الخواص الأصلية للطفرة هي قبليتها للتوارث ، و يستنتج من هذا أنه عند حصول نقصان في بعض الجينات أو الكروموسومات في الخلايا التناسلية ، و تحصل تغيرات مهمة في الأجيال اللاحقة من حيث بناء الجسم . و لقد بقي العلماء مقتصرين على ملاحظة الطفرة التلقائية ( الذاتية ) لمدة . و لكن مولر استطاع في سنة 1927 أن يحدث هذه الطفرة تجريبياً بواسطة توجيه بعض الأشعة على الخلايا التناسلية ثم جاء راديوم فاستطاع أن يجري تجارب دقيقة على تلك الخلايا بتأثير الأشعة السينية » 9 .
و كثيراً ما نشاهد طفلاً أشهب العينين ، أشقر الشعر ، أبيض البشرة ذا هيكل غربي تماماً في حين أن أبويه يملكان عيوناً سوداً ، و شعراً أسود ، و بشرة سمراء ، و هيكلاً شرقياً تماماً . إن هذه التغيرات التي تخالف السير الطبيعي لقانون الوراثة يمكن أن تستند إلى التغيرات الأولية و الفجائية للجينات . و هذا التغير يوجد في النبات و الحيوان و الانسان على السواء . و كثيراً ما يقع هذا التغير حيث يؤدي إلى اختلاف العناصر و منشأ هذا كله راجع إلى الطفرة . و لكن العلوم البشرية لم تتوصل بعد إلى العلل الواقعية لأمثال هذه الطفرات الحاصلة ، اللهم إلا مجرد بعض النظريات و الاحتمالات الفارغة .
« من المحتمل أن تكون الطفرات التلقائية التي تظهر من دون علة واضحة ناشئة من تأثير بعض الأشعة الطبيعية كاشعاعات الأرض المتصلة بالقوة الناقلة لأمواج الراديو في الترية ، أو إشعاعات الهواء الناشئة من الشمس أو إشعاعات ما وراء السدم و المجرات ... » 10 .
2 ـ الوراثة عن الأجيال البعيدة :
كان الفرض الأول يتضمن ظهور علل في الطبيعة تبعث على التغيرات الابتدائية للجينات ، و ظهور صفات جديدة من دون سابقة ما ، و لكن الفرض الثاني في الموضوع هو وجود الجينات الصانعة للصفات الجديدة في خلايا الأجيال السابقة بصورة مضمرة ، و ظهور عند حصول الشروط المساعدة لها .
« إذا أخذنا فأرتين إحداهما بيضاء والأخرى رمادية وزاوجنا بينهما ، فالجيل الناشىء منها يكون رمادي اللون هجيني . و هذا يدلنا على أن لبعض الألوان خاصية الغلبة ، و لبعضها خاصية المغلوبية . فإذا لقحنا الفئران الناتحة من الجيل الأول فيما بينها كان الجيل الثاني على ثلاثة أنواع : رمادي نقي ( غالب ) في ربع الحالات و رمادي هجيني في نصف الحالات ، و أبيض نقي ( مغلوب ) في ربع الحالات ، و من هنا نستنتج أن اللون الأبيض الذي اختفى في الجيل الأول لم يندثر تماماً بل ظهر في الجيل الثاني بنسبة 1 / 3 عند تلقيح فأرتين رماديتين هجينيتين » 11 .
« يمكن تمييز المجرم الذي نشأ على الاجرام من صغره عن غيره في علم النفس بأنه يشبه الانسان القديم في اختلال تركيب الوجه أو الجمجة . و اندفاع الجبهة إلى الأعلى وحدة الأذن و عدم التصاقها تماماً . إن ظهور هذه العلامات ناتج من الوراثة و الأخذ من الأجداد ، و لذلك فمن السهل ملاحظة غرائز الانسان القديمة في هؤلاء الأفراد . كما يمكن مشاهدة صفات الحيوانات القديمة المندثرة في بعض الحيوانات الحاضرة بلا فرق » 12 .

الصفات المختفية

و من السهولة بمكان نستنتج من هاتين الفقرتين : أن الحيوان أو الانسان قد يرث من أبويه أو أجداده البعيدين صفات كانت مختفية فيهم و لكن توفر بعض الشروط المناسبة و البيئة الخاصة أدى إلى ظهور تلك الصفات في الأجيال اللاحقة . إن العلماء اليوم يربطون بين الانسان الحالي و أجداده الماضين بالجينات الناقلة للصفات الوراثية ربطاً دقيقاً ومعقداً في نفس الوقت .
« يمتد الانسان في الزمن مثلها يمتد في الفراغ إلى وراء حدود جسمه ... و حدوده الزمنية ليست أكثر دقة و لا ثباتاً من حدوده الاتساعية . فهو مرتبط بالماضي و المستقبل ، على الرغم من أن ذاته لا تمتد خارج الحاضر ... وتأتي فرديتنا كما نعلم إلى الوجود حينما يدخل الحيمن في البويضة . و لكن عناصر الذات تكون موجودة قبل هذه اللحظة ، و مبعثرة في أنسجة أبوينا وأجدادنا وأسلافنا البعدين جداً . لأننا مصنوعون من مواد آبائنا وأمهاتنا الخلوية . و تتوقف في الماضي على حالة عضوية لا تتحلل ... و تحمل في داخل أنفسنا قطعاً ضئيلة لا عداد لها من أجسام أسلافنا ... و ما صفاتنا و نقائصنا إلا إمتداد لنقائصهم و صفاتهم ... » 13 .
« إن أساس تكوين أنسجة الانسان مسألة يكتنفها الغموض ، إذ أننا لا نعرف كيف جمعت ( جينات ) أبويه وأجداده في البويضة التي نشأ هو منها ، كما نجهل إذا كانت ذرات نووية معينة من أحد الأسلاف البعيدين المنسيين غير موجودة فيه . أو إذا كانت تغييرات اختيارية في ( الجينات ) قد لا تتسبب في ظهور بعض الصفات غير المتوقعة . فقد يحدث أحياناً أن يبدي أحد الأطفال الذين عرفت ميول أسلافهم لعدة أجيال ، إتجاهات جديدة وغير متوقعة » 14 .
الاعجاز العلمي للرسول الأعظم ( صلى الله عليه و آله ) :
و بعد أن تطرقنا لذكر بعض الأسس الممهدة لقانون الوارثة و بالنظر إلى التحقيقات العلمية الدقيقة التي توصل إليها علماء الوراثة في العصر الحاضر ، يتضح جلياً مدى عمق بعض الأحاديث المروية عن النبي ( صلى الله عليه و آله ) نكتفي بذكر حديثين يتعلقان بمورد واحد أو موردين متشابهين . و هذان الحديثان يعتبران من المعاجز العلمية للنبي الكريم ، و لولا الاكتشافات الحديثة لما اتضح معناهما . لقد توصل علماء البشر طوال سنين عديدة وبعد جهود عظيمة صرفوها ليل نهار لادراك بعض الحقائق و الوصول إلى أسرار دقيقة . لقد فتحت هذه التحقيقات العلمية باب فهم بعض الآيات والروايات الغامضة مما أدى إلى معرفة عظمة شخصية الرسول الأعظم الذي كان يتكلم بلسان الوحي ، ويرى بنور الالهام .

الحديث الأول

« عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : أتى رجل من الأنصار رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) فقال : هذه ابنة عمي و إمرأتي ، لا أعلم منها إلا خيراً ، و قد أتتني بولد شديد السواد ، منتشر المنخرين جعد قطط ، أفطس الأنف ، لا أعرف شبهه في أخوالي و لا في أجدادي . فقال لامرأته : ما تقولين ؟ قالت لا و الذي بعثك بالحق نبياً ما أقعدت مقعده مني ـ منذ ملكني ـ أحداً غيره قال : فنكس رسول الله رأسه ملياً ، ثم رفع بصره إلى السماء ثم أقبل على الرجل فقال : يا هذا إنه ليس من أحد إلا بينه و بين أدم تسعة و تسعون عرقاً كلها تضرب في النسب ، فإذا وقعت النطفة في الرحم اضطربت تلك العروق و تسأل الله الشبه لها . فهذا من تلك العروق التي لم تدركها أجدادك و لا أجداد أجدادك خذي إليك إبنك . فقالت المرأة : فرجت عني يا رسول الله » 15 .

الحديث الثاني

« عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي عليه السلام ، قال : أقبل رجل من الأنصار إلى رسول الله ، فقال : يا رسول الله هذه بنت عمي و أنا فلان إبن فلان ... حتى عد عشرة أباء و هي بنت فلان ... حتى عد عشرة آباء . ليس في حسبي و لا حسبها حبشي ، و إنها وضعت هذا الحبشي ، فأطرق رسول الله طويلاً ثم رفع رأسه ، فقال : إن لك تسعة وتسعين عرقاً و لها تسعة و تسعين عرقاً ، فإذا اشتملت إضطربت العروق و سأل الله عز وجل كل عرِق منها أن يذهب الشبه إليه ، قم فانه ولدك ولم يأتك إلا من عرق منك أو عرق منها ، قال : فقام الرجل وأخذ بيد إمرأته و إزداد بها و بولدها عجباً » 16 .
إن خلاصة ما توصل إليه علماء الوراثة في العصر الحديث بالنسبة إلى انتقال صفات الأجيال السابقة للأجيال اللاحقة تنحصر في جملة أمور مذكورة كلها في هذين الحديثين .
1 ـ إن عوامل الوراثة ذرات صغيرة تسمى ( الجينات ) . و هي توجد في الخلية التناسلية من الأبوين أو الأجداد السابقين .
و لقد سبق و أن أشرنا في المقدمة الرابعة من البحث أن الروايات تسمي عامل الوراثة بـ ( العرق ) الذي ورد التصريح به في الحديثين كليهما .
2 ـ يرى العلماء أن عدد الجينات في الخلية التناسلية كثيراً نوعاً ما و من خلال نقلنا لبعض النصوص ظهر أنها تبلغ العشرات و المئات و مع ذلك فانهم لم يتوصلوا إلى إثبات أعدادها بصورة قطعية .
بينما نجد الحديثين المنقولين يصرحان بأن عدد الأعراق هو 99 ، فقد يكون المراد منها هو الاعراق الصانعة للصفات العنصرية فقط كلون البشرة ، و لون الشعر و تجعده ، و لون الشعر و تجعده ، و لون العين و غير ذلك من الصفات . و قد يكون التعبير عن الـ 99 للدلالة على الكثرة من دون الالتفات إلى العدد نفسه ، كما ورد في القرآن الكريم بشأن عدم جدوى استغفار النبي ( صلى الله عليه و آله ) للمنافقين : ﴿ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ... 17 . فالمعنى : إن تستغفر لهم كثيراً ، لا عدد السبعين فقط كي يكون معناه أنك إذا استغفرت لهم إحدى و سبعين مرة فان الله يغفر لهم ! . فالخلاصة أن العلم الحديث وافق الحديث النبوي الشريف في كثرة عدد الأعراق .
3 ـ لا يحصر علماء الوراثة اليوم قابلية الوراثة في الأبناء عن آبائهم القريبين فقط ، بل يرون أنه قد يرث الولد صفات أجداده البعيدين و حتى الانسان القديم .
و كذلك الحديث الذي نقلناه فانه كان يرى قابلية الوراثة في الانسان عن أجداده السابقين و حتى الانسان الأول ( أبو البشر آدم ) كما ورد التصريح به في رواية عن الامام الصادق عليه السلام : « إن الله تبارك وتعالى إذا أراد أن يخلق خلقاً جمع كل صورة بينه وبين آدم . ثم خلقه على صورة إحداهن . فلا يقولن أحد لولده : هذا لا يشبهني و لا يشبه شيئاً من آبائي » 18 .
إن جميع الصور و الصفات القبلة للتوارث في الآباء و الأجداد حتى أبي البشر أدم يمكن أن تدخل في بناء صورة الانسان الذي ثبتت خليته التناسلية في الرحم . وبما أن تدخل في بناء صورة الأنسان الذي ثبتت خليته التناسلية في الرحم . و بما أن البشر يجهلون المدى الواسع لقانون الوراثة وقد كان يصادف أن يخرج الولد على غير صورة أبويه فكان يؤدي ذلك إلى أن يشك الرجل في زوجته باحتمال أن الوالد من غيره ، نجد الامام الصادق عليه السلام يحذر بعض الرجال من أن يقولوا : إن الولد لا يشبهني و لا يشبه أبائي لأنه قد يكون آخذاً صفاته من أجداده البعيدين جداً .
4 ـ يرى علماء الوراثة أن الجينات الناقلة للصفات الوراثية توجد في نواة الخلية الذكرية و الأنثية على السواء . و قد يستند التغير الفجائي في تلك الصفات إلى أحدهما . و كذلك حكم النبي صلى الله عليه و آله حيث قال للأنصاري : « ولم يأتك إلا من عرق منك أو عرق منها ».
إنه لم يمض على الاكتشافات العلمية الحديثة في عالم الوراثة واكتناه الأسرار الدقيقة و الرموز المعضلة للجينات و الكروموسومات أكثر من قرن واحد ، بينما نجد أن كلام النبي صلى الله عليه و آله في هذا الموضوع يطوي قرنه الرابع عشر . فنبي الاسلام العظيم أخبر عن تلك الحقائق بنور الوحي المبين .
و هنا لا بأس من الالتفات إلى نكتة لطيفة ، و هي أن الأنصاري حين سأل النبي صلى الله عليه و آله توقف النبي صلى الله عليه و آله في جواب قليلاً ولم يجب بسرعة ، فما السر في ذلك ؟!.
هناك حديث آخر يوضح الأمر جلياً ، و يجيب على هذا السؤال : « إن يهودياً سأل النبي صلى الله عليه و آله مسألة فمكث النبي ساعة ثم أجاب عنها ، فقال يهودي : و لمن توقفت فيما علمت ؟ فقال صلى الله عليه و آله : توقيراً للحكمة » 19 . فكما أنه يجب توقير الحكماء و العلماء يجب توقير أقوالهم الحكمية أيضاً . و إن لأسلوب إلقاء الكلام دخلاً كبيراً في التأثير على نفس السامع ، فالكلام مهما كان عميقاً لو ألقي بسرعة و عجلة لا يؤثر التأثير المطلوب ، بعكس ما إذا ألقي بتأنٍ و اتزان ، و كذلك فعل النبي صلى الله عليه وآله في الجواب على مشكلة الزوج والزوجة بالنسبة إلى ولدهما الذي لم يكن يشبههما إذ سكت قليلاً توقيراً لتلك الحكمة العظيمة .
5 ـ إن الصفات التي لها قابلية الانتقال من الآباء إلى الأبناء عديدة مثل : الجنون و الحمق ، لون البشرة ، لون العين ، بناء الوجه و الأنف ، لون الشعر ، و الخصائص المرتبطة به و غير ذلك . و لكن العلم الحديث لم يتوصل بعد إلى تحديدها تماماً .

العوامل المساعدة

« ... تتنقل أمراض معينة كالسرطان والسل ... ألخ من الآباء إلى الأبناء و لكن كاستعداد فقط ، و قد تعوق أحوال النمو ظهور هذه الأمراض أو تساعد على تحققها » 20 .
و كذلك السجايا الخلقية و الصفات الحميدة أو الصفات الرذيلة للاباء و الأمهات تهيء استعداداً في الأولاد ، فالاباء و الأمهات الذين يمتازون بصفات الشجاعة و الكرم و التضحية و الخدمة ، يخلفون أبناء ذوي فضيلة وإباء و كرم . و على العكس من ذلك ، فإن الأسر المعروفة بالبخل و الجبن و الأنانية و الحمق لا يخلفون في الأغلب إلا أولاداً حقراء لا وزن لهم في المجتمع .
و لا تقتصر هذه القاعدة التي ذكرناها على الانسان ، بل تسري في الحيوانات أيضاً ، فهناك عناصر معينة من الخيول تمتاز على غيرها بصفات خاصة . و كذلك الحمام فهناك بعض الفصائل المعينة فيه لها قابلية التربية و الاستعداد للقيام ببعض الأعمال و الخدمات .
سأل المأمون العباسي بعض خواصه و محارمه يوماً عن سبب ما يلاقيه من جفاء و خيانة و قلة إنصاف من بعض أصحابه و أقاربه الذين كان قد قلدهم مناصب عالية و رتب مهمة في الدولة ، في حين أن المفروض أن يقابلوا إحسانه بالإحسان لا الاساءة ، فقال له أحدهم : إن المعنيين بأمر الحمام الزاجل و المهتمين بتربيته يتحققون عن أصله و فصيله الذي ينتمي إليه و عندما يطمئنون إلى عراقة نسبه يهتمون بتربيته كثيراً و يجنون من ذلك فوائد كثيرة ... « و أنت يا أمير المؤمنين تأخذ أقواماً من غير أصول و لا تدريج ، فتبلغ بهم الغايات فلا يكون منهم ما تؤثره » 21 .
فمن الطبيعي أن لا يكون الأفراد المختارون لاشغال المناصب من دون امتحان و لا نظر في أصولهم و أحسابهم و أنسابهم ، على حالة مرضية من حيث الاخلاص و الأمانة و الوفاء ...
إن الاسلام يرى أن في سلوك الأباء و الأمهات تأثيراً كبيراً على سلوك أبنائهم الذين يرثون صفاتهم الصالحة أو الطالحة ، و لذلك نجد القرآن الكريم يحكي على لسان نوح هذه الحقيقة الناصعة حيث يقول بعد أن يئس من هداية قومه طيلة 900 عام : ﴿ وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا 22 23 .
و لقد رأينا قبل صفحات كيف أن الامام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يخاطب ابنه محمد بن الحنفية حينما جبن عن التقدم « أدركك عرق من أمك » .

الشرف الموروث

يقول الامام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) في الفضائل العائلية : « إذا كرم أصل الرجل كرم مغيبه و محضره »24 .
فمن كان ينتمي إلى نسب عريق في الفضائل كان ملازماً للصفات الخيرة في حضوره و غيابه و ذهابه و إيابه .
و كذلك قال عليه السلام : « عليكم في قضاء حوائجكم بكرام الأنفس و الأصول ، تنجح لكم عندهم من غير مطال و لا من » 25 . و من هنا يعلم أن الشرف العائلي في الأفراد يجعلهم يقضون حوائج الناس من دون آن يحملوهم مناً أو يتماهلوا في ادائها .
و روي عنه عليه السلام أيضاً : « عليكم في طلب الحوائج بشراف النفوس ذوي الأصول الطيبة ، فإنها عندهم أقضى ، و هي لديهم أزكى » 26 .
كما يقول في مورد آخر : « حسن الأخلاق برهان كرم الأعراق » 27 . فيستكشف عن حسن أخلاق الانسان شرافة طباع عائلته و كرم نفوسهم .
و كقاعدة عامة يمكن أن نقول : إنه يجب البحث عن الأفراد الشرفاء من بين العوائل الشريفة و العريقة ، فالأسر التي عرفت طوال سنين متمادية بالطهارة و التقوى ، و التي خرجت من جميع الامتحانات في الحياة بنجاح باهر ، لا بد و أن يبرز من بينها رجال شجعان يجاهدون في الصفوف الأولى دائماً 28 ، و كرام يمدون يد المعونة إلى الفقراء في أوقات الأزمة ، و يقدمون ثروتهم بكل خلوص و ارتياح للمحتاجين ، فيسلون بذلك قلوب المصابين و يكونون آباء عطوفين لليتامى ، تملأ قلوبهم الرحمة و الشفقة و الخير و المحبة الناس .

الأسر المنحطة

و على العكس من أولئك نجد الأسر المنحطة التي لا تفهم معنى للشجاعة ، و لا توجد كلمة الكرم و العفو في قواميسهم ، و الذين لا يفكرون في شيء غير شهواتهم الدنيئة و أغراضهم الشخصية ، تملأ قلوبهم الأنانية و الاثرة ، و لا يخلفون إلا أولاداً سافلين منحطين .
و لهذا نجد النبي ( صلى الله عليه و آله ) يحذر المسلمين ـ في موضوع الزواج ـ من اختيار الزوجة التي تنتمي إلى أسر منحطة سافلة مهما كانت جميلة فيقول : « إياكم و خضراء الدمن . قيل : يا رسول الله و ما خضراء الدمن ؟ قال : المرآة الحسناء في منبت سوء » 29 .
و من خلال العهد الذي بعث به الامام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى مالك الأشتر النخعي ( رض ) حينما جعله والياً على مصر ، و الذي يعتبر أحسن العهود من نوعه ... نجد فقرات عديدة تشعر الاهتمام بأصالة النسب ، كما في وصيته باختيار الأصحاب من العوائل الشريفة ، و ذلك قوله ( صلى الله عليه و آله ) : « ثم الصق بذوي الأحساب و أهل البيوتات الصالحة و السوابق الحسنة ثم أهل النجدة و الشجاعة و السماحة ، فإنهم جماع من الكرم ، و شعب من العرف » 30 .

إختيار الموظفين الأكفاء

و لنستمع إليه ( عليه السلام ) يقرر لابن الأشتر كيفية إنتخاب الموظفين الأكفاء ، و مراعاة الشروط الدقيقة في توليتم المناصب و المهمات : « و توخ منهم أهل التجربة و الحياء من أهل البيوتات الصالحة و القدم في الاسلام المتقدمة ، فإنهم أكرم أخلاقاً ، و أصح أعراضاً ، و أقل في المطامع إشرافاً و أبلغ في عواقب الأمور نظراً » 31 .
فيشترط في الموظف الذي يقلد أمور الادارة أن يكون عفيفاً منتمياً إلى عشيرة شريفة و أسرة عريقة في الاسلام و التدين ، لما في ذلك من مصالح عظيمة ، و درء لمخاطر كثيرة ، فهؤلاء يؤدون و اجباتهم بإخلاص ، لا يرتشون و لا يستغلون مناصبهم لاطماعهم و غاياتهم الشخصية .
* * *
يستفاد من مجموع البحوث السابقة : أن الطفل في رحم أمه يكون خلاصة لمجموعة من الصفات الظاهرية و المعنوية لآبائه و أجداده القريبين و البعيدين ، و هناك عشرات العوامل المختلفة ( الوراثية والطفرة ) تؤثر فيهم آثاراً صغيرة أو كبيرة ، مفيدة أو مضرة . فإذا كانت هذه العوامل كلها صالحة محبذة و كانت نتائجها حسنة و مفيدة فذلك معنى سعادة الطفل في بطن أمه . أما إذا كانت العوامل ـ كلها أو بعضها ـ فاسدة و سيئة فيعتبر الطفل شقياً في بطن أمه بنفس النسبة من فساد العوامل .
قد يتأثر الطفل ببعض الصفات ـ و هو في بطن أمه ـ كالجنون و الحمق و العمى و الشلل و الصرع و التصاق التوأمين برأس واحد أو بدن واحد ، و عشرات غيرها من الانحرافات الأخرى ، فمن البديهي حينئذ أن يكون الطفل شقياً و هو في بطن أمه .
1 ـ قال النبي ( صلى الله عليه و آله ) : « الشقي من شقى في بطن أمه ، و السعيد من سعد في بطن أمه »32 .
2 ـ و في حديث آخر : « الشقي شقي في بطن أمه ، و السعيد سعيد في بطن أمه » 33 .
3 ـ و كذلك ورد عنه ( عليه السلام ) : « الشقي من شقى في بطن أمه » 34 .
و لكي يمنع الاسلام من حدوث أولاد أشقياء و أجيال فاسدة و ناقصة وضع تعاليم دقيقة وسلك أوضح السبل لالزام اتباعه بالعمل بها ، فوضع أصول التربية الاسلامية الدقيقة التي تعدل من سلوك الأفراد ، فيمنع ذلك من ظهور الصفات الرذيلة في أعقابهم . و كذلك نجد قوانين الأمم المتحضرة اليوم تهتم بهذا الموضوع فوضعت قوانين لم تتعد دائرة الوضع والتقنين ولم تصل إلى حيز التنفيذ . و على سبيل الاستطراد نستعرض بعض التعاليم الاسلامية بهذا الصدد باختصار :

الجنون

الجنون من الصفات الخطرة التي تنتقل بالوراثة من الآباء إلى الأبناء . إن الأبوين المصابين بالجنون لا ينتجان إلا مجانين ، و هذا هو قانون طبيعي غير قابل للتبديل ، و المولود المجنون ليس شقياً لنفسه فحسب بل يسبب شقاوة المجتمع أيضاً .
و من خلال النص التالي يتضح مدى اهتمام الاسلام بهذا الموضوع فعن الامام الباقر ( عليه السلام ) : أنه « سأله بعض أصحابنا عن الرجل المسلم تعجبه المرأة الحسناء ، أيصلح له أن يتزوجها و هي مجنونة ؟ قال : لا ، و لكن إن كانت عنده أمة مجنونة فلا بأس بأن يطأها و لا يطلب ولدها » 35 . يستنتج من هذا الحديث ؟ اهتمام الاسلام بالسلامة العقلية للمجتمع ، فهو لا يرضى للمسلم بأن يتزوج مجنونة وإن كانت جميلة ، لأن ذلك يؤدي إلى إكثار المجانين في المجتمع .
لقد قرر الاسلام تسهيلات قانونية لفسخ الزواج في بعض الموارد ومن تلك الموارد : الجنون ، فإذا تزوجت المرأة من رجل ظناً منها بأنه فرد عاقل ثم انكشف لها جنونه فلها الحق في أن تفسخ عقد الزواج بنفسها من دون حاجة إلى القيود الموجودة في الطلاق ، و كذلك الرجل بالنسبة إلى زوجته المجنونة .
و هذا القانون مضافاً إلى أنه يحرر كلاً من الرجل و المرأة من القيود و الأضرار الناشئة من جنون شريكته ( أو شريكها ) في الحياة ، يضع حداً فاصلاً دون إزدياد أفراد مصابين بالجنون في المجتمع .

الحمق و البلادة

و كذلك الحمق و البلادة و البلادة و البله فأنها تنتقل من الآباء و الأمهات إلى الأبناء ، الأمر الذي يسبب أقسى أنواع شقاء المجتمع ، فالفرد الأحمق يظل طوالي سني عمره أسيراً للحرمان العقلي و عدم النضج الفكري مما يسبب للأمة مشاكل عديدة .
و لقد توصل العلم الحديث ، بعد التجارب العديدة و الاحصائيات الدقيقة إلى خطر هذا النوع من الزواج ، و لذلك أخذ العلماء يحذرون الناس منه :
« يجب أن يعلم كل فرد أن التزوج من الأسر المصابة بالجنون أو الحمق أو البلادة ، أو الإدمان على الخمرة يؤدي إلى تحطيم كيان المجتمع و هدم قانون التكاثر و التناسل ، مما يجر معه سلسلة من المعايب و الجرائم التي لا تحمد عقباها » 36 .
لقد نظر منقذ البشرية العظيم بعين الوحي النافذة إلى الحقائق إلى هذا الموضوع ، وأدرك أخطاره فحذر المسلمين منه و لذا نرى الامام الصادق عليه السلام يروي عن النبي ( صلى الله عليه و آله ) : « إياكم و تزوج الحمقاء ، فأن صحبتها بلاء و ولدها ضياع » 37 . و أحسن تعبير عن الأولاد الناتجين من آباء أو أمهات مصابين بالحمق هو الضياع .
« لقد لاحظ ( كدار ) في إحصائياته الدقيقة التي أجراها على الأسر التي كان آباؤها أو أمهاتها مصابين بضعف العقل وجود ( 470 ) طفلاً ضعيفي العقل منهم و ( 6 ) فقط سالمين و بديهي أن إيجاد جيل منحط و مجرم و أبله يعد خيانة كبيرة » 38 .

شرب الخمر

لقد انتشر شرب الخمر في كثير من دول العالم ، و تكبلوا بهذا الداء الوبيل و أسراره . هذا السم الفاتك لا يكتفي بتوجيه ضربات قاسية إلى المدمنين عليه فقط ، بل يتعداهم إلى أطفالهم البريئين و يجعلهم يرزحون تحت كابوس الأمراض و العوارض المختلفة . تترك الخمرة آثاراً سيئة على أجسام المدمنين عليها ، و من تأثيراتها فيهم إيجاد اختلالات في خلايا المخ و الأعصاب مما تجعلهم أناساً غير اعتياديين ، ومما يبعث على الأسف أن هذا الاختلال ينتقل إلى أولادهم ، و النطف الحادثة من أناس مأسورين للخمرة تنتج أطفالاً منحرفين و غير اعتياديين في سلوكهم و تفكيرهم . إن قسماً كبيراً من المجانين الذين يقضون حياتهم في ( مستشفيات المجانين ) يئنون من ويلات إنحراف آبائهم :
« إن قلة الذكاء وإختلال القوة العاقلة تنشأ من المشروبات الروحية والسلوك الافراطي في جميع جوانب الحياة ، إنه لا ريب في وجود رابطة قوية بين استعمال المشروبات الروحية والضعف العقلي في مجتمع ما . و من بين الدول المتقدمة علمياً و صناعياً نجد فرنسا أكثرها استعمالاً للخمرة في حين أنها أقل تلك الدول حصولاً على جوائز نوبل » 39 .
لقد عرف الاسلام جميع العوارض و الويلات الناشئة من الخمرة ، و نظر نظرته الثاقبة إلى آثارها السيئة في المدمنين عليها و في أولادهم ، فلم يكتف بتحريم عصرها والتعامل بها وتعاطيها على المسلمين من الجهة القانونية فقط ، بل منع من الاتصال الجنسي و التناكح مع شاربي الخمر بكل صراحة و هناك بعض الشواهد على ذلك :
1 ـ عن الامام الصادق ( عليه السلام ) : « من زوج كريمته من شارب خمر ، قد قطع رحمها » 40 .
و بديهي أن يعتبر إنجاب أطفال مختلين ( بدنياً و عصبياً و روحياً ) قطعاً لرحم المرأة التي بامكانها أن تنجب أولاداً سالمين من غيره .
2 ـ و عن النبي الكريم ( صلى الله عليه و آله ) : « شارب الخمر لا يزوج إذا خطب » 41 . و هناك العشرات من الروايات الواردة عن الأئمة المعصومين عليهم السلام في هذا الموضوع ، و لكن أشدها تحذيراً وأعظمها توبيخاً ما إذا حصل الاتصال الجنسي في حالة السكر ، كما يتضح ذلك من الحديث الآتي :
3 ـ عن الامام الصادق ( عليه السلام ) أنه قال : « أيما امرأة أطاعت زوجها وهو شارب الخمر ، كان لها من الخطايا بعدد نجوم السماء ، و كل مولود يلد منه فهو نجس ، و لا يقبل الله منها صرفاً و لا عدلاً حتى يموت زوجها ، أو تخلع عنه نفسها » 42 .
و إليك نصاً لأحد علماء الغرب بهذا الصدد : « يقول الدكتور كاريل : إن سكر الزوج أو الزوجة حين الاتصال الجنسي بينهما يعتبر جريمة عظيمة ، لأن الأطفال الذين ينشأون في ظروف كهذه يشكون في الغالب من عوارض عصبية و نفسية غير قابلة للعلاج » 43 .

تعقيم المجانين الخمريين

رأينا فيما مضى كيف الاسلام العلاج الحاسم في منع التزوج بالأفراد المصابين بالجنون الخمرة . و لقد عمل العلماء اليوم في التأكيد على منع هذا النوع من الزواج كثيراً حتى إنه يوجد في بعض الولايات الأمريكية قانون خاص بشأن تطهير النسل . بموجب ذلك القانون تجري عمليات للأولاد و البنات الذين أصيبوا بالجنون نتيجة إفراطهم في شرب الخمر لاخصائهم و إحالتهم على العقم الدائمي لمنع إنجابهم .
هذا و ليست العوامل الباعثة على النواقص البدنية و النفسية للطفل في رحم أمه مقتصرة على هذه الأمور المختصرة ، فهناك عوامل عديدة أخرى لا تزال مجهولة للعلماء لحد الآن في حين أن لها تأثيراً في وضع الطفل في رحم الأم ، و موجدة لعيوب و نواقص أو باعثة على ظهور حسنات و فضائل فيهم .
فكثيراً ما يتفق وجود أولاد ناقصين و مختلفين عصبياً و عقلياً في حين أن آبائهم وأمهاتهم لم يكونوا معتادين على المشروبات الروحية وغيرها ، و على العكس فقد يصادف ظهور أفراد عصاميين أذكياء من أسر حقيرة في المجتمع :
« و لكن نظراً لأن البشر ليسوا من أصل نفي فانه ليس في الامكان التكهن بحالة النسل الذي نيشأ من زواج معين . و مع ذلك ، فأنه من المعروف أن الأطفال الذين يولدون في أسرات مكونة من أفراد متفوقين يكونون في الغالب أكثر تفوقاً من الأطفال الذين يولدون في أسرت أدنى مرتبة ... و نظراً للمصادفات التي تحدث في اتحادات النويات فقد يشمل أحفاد الرجل العظيم على أفراد متوسطين ، كما قد يولد رجل عظيم لأسرة خاملة مغمورة » 20 .

تأثير العوامل الجوية

يستفاد من تحذير أئمة الاسلام ( عليه السلام ) في بعض الروايات عن قسم من الحوادث الجوية حين إنعقاد النطفة ، كالزلزال و الطوفان و مقابلة قرص الشمس و ما شاكل ذلك ، و كذلك منع الحمل من بعض الأطعمة ، أن لذلك كله تأثيراً في إيجاد آثار مرضية أو غير مرضية في الأطفال .

المصير

و هنا نقطة مهمة يجب الالتفات إليها ، و هي أن السعادة و الشقاء اللتان تصيبان الطفل في رحم الأم ، على نوعين : فقسم منها يكون قضاء حتمياً لا يقبل التبديل . فهذا النوع يلازم الطفل حتى نهاية حياته ، و من هذا القسم : الجنون و العمى المتأصل . و قسم اخر يكون الرحم بالنسبة إليه كتربة مساعدة فقط و حينئذ يكون بقاء تلك السعادات أو الشقاوات دائراً مدار الظروف التي تساعد على نموها .
إن القاعدة العامة للوراثة تقتضي أن ينجب الآباء المؤمنون و الأمهات العفيفات أولاداً طيبين ، فهؤلاء يمكن أن يحرزوا السعادة في أرحام أمهاتهم فلا توجد في سلوكهم عوامل الانحراف الموروثة . إلا أننا لا نستطيع الحكم على هؤلاء بأن ينموا و ينشأوا ويعيشوا إلى الأبد كذلك إذا قد يصادفون بيئة فاسدة تعمل على انحرافهم و تغيير سلوكهم و سجاياهم الموروثة و قلبها رأساً على عقب ، و أخيراً نجد هذا الطفل الذي كان سعيداً في بطن أمه يعد في صفوف الأشقياء و يصير جرثومة للفساد و المجون و الاستهتار .
و هكذا الطفل المولود من آباء وأمهات لا يعرفون عن الإيمان شيئأً فانه يعتبر شقياً في رحم أمه ـ تبعاً لقانون الوراثة ـ لكن قد يصادف بيئة صالحة
و تربية جذرية تعمل على استئصال العوامل الشريرة من داخل نفسه و أخيراً يكون من الأتقياء المؤمنين و الأفراد الصالحين في المجتمع .
و لهذا نجد النبي ( صلى الله عليه و آله ) يصرح : « السعيد قد يشقى ، و الشقي قد يسعد » 44 .
و قد ورد عن الإمام علي ( عليه السلام ) أنه قال : « السعيد من وعظ بغيره و الشقي من انخدع لهواه و غروره » 45 .
و بصورة موجزة نقول : إن السعادة تحصل للانسان من مجموعة عوامل طبيعية ( وراثية ) و تربوية . و كذلك الشقاء ... و لقد أوضح الامام الصادق ( عليه السلام ) هذا المبدأ في عبارة مختصرة فقال : « إن حقيقة السعادة أن يختتم للمرء عمله بالسعادة . و إن حقيقة الشقاء أن يختتم للمرء عمله بالشقاء » 46 .
إن هذه الرواية تدلنا على حقيقة واضحة ، هي أنه يجب الاحاطة بجيمع العوامل الوراثية و التربوية للفرد ، و النظر إلى نتيجة تفاعلاتها ثم الحكم عليه بالسعادة أو الشقاء . 47 .

  • 1. تاريخ علوم : 707 ، تأليف بي ييروسو ترجمة حسن صفاري و هو كتاب قيم طبع سنة 1954 م للمرة الخامسة و الستين باللغة الفرنسية عدا الترجمات إلى اللغات الأخرى .
  • 2. المصدر نفسه . و هنا يلاحظ أن عدد هذه الكروموسومات زوجي في كل خلية ، فكروموسومات خلية الانسان 24 زوجاً ، و الفأرة 20 زوجاً ، و الذبابة 6 أزواج ، و هكذا ... فهذه تنقسم عند تكوين الخلايا التناسلية في الأحياء إلى قسمين لكي لا يتعاظم عددها بل يبقى ثابتاً في كل نوع . لأن بقاءها على حالها يؤدي إلى تضاعف عددها لاجتماع الخلايا الذكرية و الأنثية ، و هكذا تزداد في كل مرة إلا أن انقسامها يجعل عددها ثابتاً . و هذا الانقسام يسمى بالانقسام الخيطي .
  • 3. جه ميدانيم ؟ بنياد أنواع صفحة 69 .
  • 4. جه ميدانيم ؟ سرطان صفحة 42 .
  • 5. المستطرف من كل فن مستظرف : 2 / 218 .
  • 6. المنجد ، مادة دس .
  • 7. غرر الحكم ودرر الكلم للامدي : 167 طبعة دار الثقافة في النجف الأشرف .
  • 8. تتمة المنتهى : 17 .
  • 9. جه ميدانيم ؟ سرطان ص 42 .
  • 10. نفس المصدر : 102 .
  • 11. جه ميدانيم ؟ سرطان صفحة 42 ، و تمسى الصفة الغالبة في علم الوراثة بالعامل الغالب و الصفة المغلوبة بالعامل المتنحي .
  • 12. جه ميدانيم ؟ جنايت ص 36 . هذا هو رأي علماء القانون الذين ينتمون إلى ( المدرسة الوضعية ) . إذ ترى هذه المدرسة في شخص المجرم والصفات الوراثية التي تلقاها من أسلافه العامل الحاسم في تقرير مصيره ، من هؤلاء ( لو مبروزو ) ، بينما تبرز ( النظرية الاجتماعية ) في هذه المدرسة أهمية الأسباب الاجتماعية المتصلة ببيئة الجرم . ومن دعاتها ( فيري ) و( جاروفالو ) .
  • 13. الانسان ذلك المجهول ، للدكتور الكسيس كارل : 203 .
  • 14. المصدر السابق |197 .
  • 15. وسائل الشيعة : 5 / 128 باب أن الولد يلحق بالزوج .
  • 16. مستدرك الوسائل للمحدث النوري : 2 / 631 .
  • 17. القران الكريم : سورة التوبة ( 9 ) ، الآية : 80 ، الصفحة : 200 .
  • 18. مكارم الأخلاق : 114 .
  • 19. سفينة البحار للقمي : 439 مادة ( دبر ) .
  • 20. a. b. الانسان ذلك المجهول : 196 .
  • 21. مجموعة ورام : 2 / 286 .
  • 22. القران الكريم : سورة نوح ( 71 ) ، الآية : 26 و 27 ، الصفحة : 571 .
  • 23. هذا و تشير الآية إلى عاملي الوراثة و المحيط في التأثير على سلوك المجتمع ، فإن الكافرين إما أن يفسدوا البيئة ، أو يخلفوا أولاداً طالحين .
  • 24. غرر الحكم و درر الكلم للامدي : 144 طبعة النجف الأشراف .
  • 25. المصدر السابق : 214 .
  • 26. المصدر السابق : 214 طبعة النجف الأشرف .
  • 27. المصدر السابق : 167 طبعة النجف الأشرف .
  • 28. يتضح هذا جلياً في اختيار الامام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لفاطمة الكلابية ( أم البنين ) بعد وفاة ابنة عمه الصديقة الزهراء ، إذ قال ( عليه السلام ) لأخيه عقيل ـ وكان عارفاً بالأنساب ـ : « أخطب لي امرأة ولدتها الفحولة من العرب لأرزق منها ولداً يكون عوناً لولدي الحسين يوم عاشوراء ... الخ » فإن الإمام ينظر إلى شجاعة الأسرة التي يريد أن يخطب منها زوجته لتنجب له ولداً شجاعاً .
  • 29. بحار الأنوار للشيخ المجلسي : 23 / 54 . و خضراء الدمن عبارة عن الخضرة التي تنشأ من أنبات بعض الحشائش على قطعة من الأرض مليئة بالروث فيتراءى للناظر أنها أعشاب طيبة الرائحة ، لكن النظر إلى أصول هذه الحشائش يكشف للناظر وجود الروث تحتها . فالمرأة الحسناء التي تنتمي إلى أسرة منحطة شأنها شأن هذه الحشائش التي ظاهرها جميل و باطنها خبيث .
  • 30. نهج البلاغة شرح محمد عبده : 3 / 101 ، طبعة المكتبة التجارية .
  • 31. نهج البلاغة شرح محمد عبده : 3 / 105 .
  • 32. بحار الأنوار للمجلسي : 3 / 44 .
  • 33. المصدر السابق : 3 / 43 .
  • 34. تفسير روح البيان : 1 / 104 . إلى هذه الأحاديث وأشبهها يستند القائلون بالجبر ، بحجة أن الله هو الذي يقدر السعادة و الشقاء للانسان و هو في بطن أمه . و لكن اتضحالرد على هذه الشبهة من تفسيرنا السعادة و الشقاء بمعناهما الشامل لكل وجوه الخير والصلاح و الراحة ، أو جميع أصناف الشر و الضيق و القلق لا خصوص الإيمان و الكفر . و لقد أجبنا عن شبهة الجبر بالتفصيل في كتابنا ( دفاع عن العقيدة ) .
  • 35. وسائل الشيعة للحر العاملي : 5 / 10 . و يظهر من التفريق الذي ورد في الحديث ، بين الزوجة و الأمة : أن الإسلام يركز اهتمامه في منع التزوج من المجنونة إلى منع ظهور مجانين جدد ، و لذلك سمح للرجل بأن يشبع رغبته الجنسية مع جاريته ، لأن الجارية لا يراد منها الانجاب في الغالب بل يتخذ معها وسائل منع الحمل .
  • 36. راه ورسم زندكى ترجمة برويز دبيري : 91 .
  • 37. الجعفريات : 92 .
  • 38. راه و رسم زندكى : 74 .
  • 39. المصدر السابق : 12 .
  • 40. وسائل الشعية للحر العاملي : 5 / 9 .
  • 41. المصدر نفسه .
  • 42. لآلىء الأخبار : 267 .
  • 43. راه زندكى تأليف الكسيس كارل ترجمة برويز دبيري : 91 .
  • 44. تفسير روح البيان : 1 / 104 .
  • 45. نهج البلاغة : 1 / 149 .
  • 46. معنى الأخبار : 345 .
  • 47. المصدر : كتاب الطفل بين الوراثة و التربية للشيخ الفلسفي ، تعريب فاضل الحسيني الميلاني : 57 ـ 80 ، طبعة دار التعارف للمطبوعات ، بيروت ـ لبنان ( هذا الكتاب مجموعة من المحاضرات التي ألقاها الخطيب البارع العلامة الشيخ محمد تقي فلسفي في جامع سيد عزيز الله ـ طهران في رمضان 1381 هـ ) .