الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

المفكرون المصريون والتحول نحو الاسلاميات

يذكر أحمد أمين في مذكراته (حياتي)، كيف أنه اتفق مع الدكتور طه حسين وعبد الحميد العبادي، على إعادة كتابة التاريخ الإسلامي برؤية جديدة ومعاصرة، على أن يأخذ كل واحد منهم منحى خاصاً به، فأخذ طه حسين المنحى الأدبي، وأخذ أحمد أمين المنحى العقلي، وأخذ عبد الحميد العبادي المنحى السياسي. وفي هذا السياق أصدر أحمد أمين كتابه  (فجر الإسلام) سنة1928م، وأصدر طه حسين كتابه  (على هامش السيرة) في ثلاثة مجلدات سنة 1933م. هذه المبادرة كانت بداية تحول ليس في توجهات هؤلاء فحسب، و إنما تركت أثرا مهما في توجهات الثقافة والمعرفة بمصر، حيث تميزت حقبة الثلاثينيات من القرن العشرين باهتمام واضح بحقل الإسلاميات، وما يتصل بالتاريخ الإسلامي على وجه الخصوص، فقد صدر في اقل من عام واحد أكثر من عشرين كتابا في الإسلاميات، وتحديداً سنة1935م، ووصف طه حسين هذه الفترة في بعض كتاباته المنشورة باللغة الفرنسية بقوله: (لقد نشأت فيما بين سنتي 1933م و 1946م حركة أدبية كاملة ذات طابع ديني).

وتعزز هذا الاهتمام وتواصل بشكل يلفت الانتباه، فقد نشر الدكتور محمد حسين هيكل كتابه المعروف (حياة محمد) سنة1935م، بعد أن كان مدافعاً عن إحياء الفرعونية بمصر، ونشر أديب المسرح توفيق الحكيم كتابه (محمد الرسول البشر) سنة1936م، بعد عودته من باريس وإطلاعه هناك على الكتابات الفرنسية التي تهاجم الإسلام ونبيه الكريم بغير حق، وبالذات كتاب فولتير حول النبي محمد(ص)، وفي سنة1940م بدأ عباس محمود العقاد يقدم كتاباته المتلاحقة في الإسلاميات، والتي بدأها بكتابه (عبقرية محمد).
لا شك أن هذه الظاهرة شديدة الأهمية وجديرة بالتأمل وإعمال النظر، وقد خضعت في وقتها وإلى سنوات بعدها لتفسيرات وتأويلات حاولت فهمها وتكوين معرفة بها، وتحددت هذه المحاولات في اتجاهين رئيسين: الاتجاه الذي يركز على المنحى الذاتي، وهو إما يرتبط بتحولات فكرية ونفسية عميقة، كالذي حصل مع الدكتور محمد حسين هيكل، وإما يرتبط بتغيرات في طبيعة الاهتمامات الفكرية والبحثية من جهة اتجاهات الكتابة والتأليف، كما حصل مع عباس محمود العقاد. وهناك من يضيف تفسيراً أخر يربطه أصحابه بالدكتور طه حسين تحديداً، وذلك في محاولة منه لإعادة الاعتبار إلى ذاته وتجاوز ذيول وبقايا المشكلة التي تفجرت سنة1926م مع كتابه (في الشعر الجاهلي)، وهي المشكلة التي أثرت على وضعه الاجتماعي والمهني والأكاديمي، فأراد أن يصحح وضعه حسب هذا الرأي، فاتجه نحو الكتابة في الإسلاميات.
أما الاتجاه الثاني فيركز على المنحى الموضوعي، والذي يتحدد حسب هذا الاتجاه في النشاطات التبشيرية وتزايد نفوذها في مصر وحمايتها في ظل وجود الانتداب البريطاني على مصر، والترويج للكتابات الغربية والاستشراقية المعادية للإسلام ورسالته ونبيه. الوضع الذي أثار حفيظة المصريين والكتاب والمفكرين منهم بالذات، حيث اتجه بعضهم نحو الرد على تلك الكتابات بالتأليف في حقل الإسلاميات.
هذه التفسيرات لا نريد أن نتوقف عند مناقشتها بالموافقة أو المخالفة، النسبية أو التامة، لا لأنها تلامس الظاهرة في نطاق زمنها السابق فحسب، وإنما لتعاقب هذه الظاهرة في مصر وتجددها وانبعاثها في أزمنة متتالية الأمر الذي يستدعي تفسيرات أكثر شمولية، فبعد سنة 1967م بدأت إرهاصات لتحولات جديدة في هذا الشأن، وتأكدت في سنة1970م، وترسخت وتنامت في الثمانينيات، وتواصلت إلى التسعينيات من القرن العشرين. فكان من هؤلاء الدكتور مصطفى محمود الذي وثق تجربته في كتابه (رحلتي من الشك إلى الإيمان)، وأوقف نشر كتابين من مؤلفاته هما (الله والإنسان) وكتابه (إبليس)، وتركزت كتاباته بعد ذلك حول قضايا العلم والإيمان الذي عرف ومازال يعرف بها. ومن هؤلاء أيضاً المفكر الاقتصادي عادل حسين صاحب كتاب (الاقتصاد المصري من الاستقلال إلى التبعية)، الذي قال عنه جلال أمين (إن أي عالم اقتصاد يتمنى أن ينسب هذا الكتاب له)، وأصبح فيما بعد من أكثر المتحمسين إلى المشروع الحضاري الإسلامي، وهو الاصطلاح الذي كان يردده كثيراً ويتمسك به بشدة. إلى الدكتور طارق البشري المفكر والمستشار القانوني المعروف الذي عكس خبرته ومعرفته القانونية المتميزة في كتاباته ومؤلفاته الإسلامية لاحقا، إلى الدكتور محمد عمارة أحد أكثر الكتاب العرب تأليفاً وتصنيفاً في الإسلاميات. وهكذا إلى الدكتور عبد الوهاب المسيري أستاذ الأدب الإنجليزي وصاحب أشهر موسوعة عربية حول اليهود واليهودية والصهيونية. وهؤلاء تحولوا من اليسار والماركسية إلى الإسلام. وشملت هذه التحولات أيضاً رائد الوضعية المنطقية في العالم العربي الدكتور زكي نجيب محمود، كما أوضح ذلك في كتابه (رؤية إسلامية)، الذي كتب بلغة دينية تعبدية غير معهودة على الإطلاق في كتابات زكي نجيب محمود التي تنزع نحو العلم والفلسفة والمنطق، كما شملت رائد الوجودية في العالم العربي الدكتور عبد الرحمن بدوي، الذي تحول في كتاباته باتجاه الرد على المستشرقين الأوروبيين وأصدر في هذا الصدد كتابين، الأول في الدفاع عن القرآن ضد منتقديه، والثاني في الدفاع عن نبي الإسلام محمد(ص)، وعن هذا التحول في اتجاهات بدوي صدر كتاب في القاهرة بعنوان (عبد الرحمن بدوي فيلسوف الوجودية الهارب إلى الإسلام)، الدكتور بدوي الذي كان يتهم بالدفاع والترويج لأفكار المستشرقين يتحول إلى ناقد لهم وبطريقة عنيفة، حيث يصف كتاباتهم بالضلال والخداع والتعصب والحقد ضد الإسلام وكتابه المقدس ونبي الإسلام.
لا شك أن هذه ظاهرة غير عادية بكل المقاييس، ولم تحصل بهذا الشكل في أي بلد عربي آخر، وتتأكد قيمتها لكونها حصلت في مصر، البلد الذي يتأثر كل العالم العربي بثقافته ومعارفه، وتتضاعف هذه القيمة بالنظر إلى نوعية هؤلاء الأشخاص وهم من قمة المفكرين، ليس على مستوى مصر فحسب، وإنما على مستوى العالم العربي. وبإجمال شديد، يمكن أن نفسر هذا التحول عند هؤلاء من خلال فلسفة العودة إلى الذات بعد الوصول إلى قمة عالية في الفكر والمعرفة!1.

  • 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة الحج والعمرة ـ العدد الثالث، يوليو ـ أغسطس 2002م.