الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

نحن والمسألة الحضارية

يذهب سليمان الخطيب في كتابه (أسس مفهوم الحضارة في الإسلام)، إلى أنه في مقابل النظريات الغربية للحضارة، لا نجد إزاء هذا كله دراسات منهجية متكاملة لعرض المفهوم الإسلامي لقضية الحضارة من خلال الأصول الإسلامية قرآناً وسنة... لذلك فنحن نفتقد بحثاً محدداً نستطيع الرجوع إليه، يقوم بصياغة مفهوم الحضارة في الإسلام، بحيث يكون لنا في نهاية الأمر مرجعاً أساسياً يمكن للباحث الرجوع إليه في إطار الدراسات الإسلامية المعاصرة.
والذي اعتقده أن الإشكالية الأساسية التي تظهر جوانب الضعف في الكتابات الإسلامية حول المسألة الحضارية هو غياب البحث التاريخي وحفرياته المعرفية حول تاريخ الحضارات، ودراسة أنظمتها السياسية والاقتصادية، وتشريعاتها الفقهية والقانونية، وتصوراتها الفكرية والفلسفية والدينية، ونماذجها الاجتماعية والأخلاقية، ومنظوراتها التاريخية والحضارية.

فبعد مقدمة ابن خلدون التي استندت على بحث تاريخي موسع حول الحضارة الإسلامية، لم تنجز دراسات تتصف بالاستكشاف العلمي والبحث التاريخي المحكم والجاد في مجال تاريخ الحضارات، بحفريات معرفية تستعين بكل طرائق البحث التاريخي العلمي كالوثائق والمخطوطات والآثار.
والذي عمق هذه الإشكالية هو عدم وجود مفكرين وباحثين اجتماعيين وتاريخيين ينهضون بمهمة البحث في هذا المجال، من أمثال ول ديوانت صاحب الكتاب الشهير (قصة الحضارة) الذي أمضى نصف قرن في دراسة تاريخ الحضارات بالتعاون مع زوجته، وقد شجعه نجاح كتابه (قصة الفلسفة) المنشور في سنة 1926م، على التخلي عن التدريس سنة 1927م، لتكريس كل جهده في مشروع كتابه (قصة الحضارة) حيث تجول حول العالم، وأصدر أول مجلد سنة 1935م، خصصه للتراث الشرقي. أو أمثال فرناند بروديل صاحب كتاب (تاريخ وقواعد الحضارات) المنشور سنة 1966م، حيث اقترح في كتابه إدخال دراسة الحضارات الكبرى في التعليم الثانوي، وهكذا أمثال أرنولد توينبي صاحب كتاب (تاريخ البشرية)، وإدوارد بروي المشرف على كتاب (تاريخ الحضارات العام).
الأمر الذي أفقد الكتابات الإسلامية القدرة على الاكتشاف وتكوين المعارف الجديدة أو الواثقة، والتي تستند على وثائق وتحقيقات وتنقيبات وحفريات. كما تفتقد هذه الكتابات أيضا إلى الاستفادة الحية من خبرات التاريخ ومعارفه وكنوزه العلمية وتراثه الثمين، حيث أصبحت تلك الكتابات وكأنها خارج سياقاتها، ومقطوعة عن حركة الزمن، وغريبة عن المعرفة بالتاريخ، فهي أقرب إلى الوعظ، والدعوة إلى الاعتبار من غير التوصل إلى ما ينبغي الاعتبار منه. كما أنها تفتقد إلى البراهين والاستدلالات على ما تطرحه من أفكار أو حقائق، إذ لا توثق في الغالب بوقائع واستشهادات تاريخية محكمة، مما يقلل من شأنها العلمي واعتبارها المعرفي.
هذه الإشكاليات وغيرها جعلت من الدراسات الغربية في تاريخ الحضارات، مرجعاً للدراسات العربية في هذا الحقل على حساب استقلالها الفكري والعلمي، ومع اختلاف منظوراتها ومنهجياتها في البحث التاريخي من جهة الغايات والمقاصد، ونوعية التوظيفات نتيجة التباينات في مستويات التطور الحضاري العام.
وهذا بالتأكيد لا يقلل من شأن تلك الدراسات أو يلغي الاستفادة منها والرجوع إليها، أو يلغي الاستفادة منها، والرجوع إليها، وإنما لضبط عملية الاستفادة منها وترشيدها منهجياً.
وإذا كان العالم الإسلامي يتطلع إلى نهضة حضارية جديدة، فليس هناك تناسب على الإطلاق بين هذا التطلع وبين مستوى الدراسات والأبحاث والكتابات السائدة، والتي يفترض منها أن تساهم في تطوير مشروع النهضة، وبناء لبناتها وتعميق المعرفة بها، وتنمية الوعي والإدراك بحقائقها. ولا شك أن الحاجة ملحة، لأن يكون هناك مركز للدراسات الحضارية، لكن ما مدى القدرة على تحويل هذا المركز إلى عقل فعال ونشاط دؤوب في البحث العلمي، يجمع الخيرات ويتواصل مع الكفاءات ويكون بمثابة الاجتهاد الجماعي المتخصص في قضايا الحضارة والعمران والتقدم الإنساني1.

  • 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الأربعاء / 22 مارس 2006م، العدد 14459.