حقول مرتبطة:
الكلمات الرئيسية:
الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
القرض و الدين و احكامهما
الدين والقرض من الأمور الشائعة بين البشر قديماً وحديثاً وهما عبارة عن ثبوت حق لشخص في ذمة شخص آخر، والفرق بينهما أن القرض ينتج عن طرق أخذ شخص مالاً أو شيئاً له قيمة مالية من آخر على أن يردّه إليه عند الاستطاعة، بينما الدين قد يحصل بسبب ذلك أو بسبب آخر كالبيع كما لو اشترى ولم يدفع لما اشتراه، أو استأجر ولم يدفع الإيجار فيصبح ديناً في ذمته، أو تزوج وجعل المهر مؤخراً إلى مدة معلومة مثلاً، وعليه فيكون كل قرض ديناً، ولكن ليس كل دين هو قرض، ويقال لمن له المال "الدائن" ولمن عليه المال "المديون".
والدين مبدئياً مكروه في الإسلام، وكلما كانت حاجة الإنسان للاستدانة قليلة وغير ضرورية كانت الكراهة أكثر، وكلما ازدادت الحاجة كلما صارت الكراهة أخف، بل قد يصل حكم الدين أحياناً إلى حد الوجوب كما لو توقف عليه حفظ نفسه من الهلاك أو نفسه من يعول بهم ولا يقدر على ذلك بأي سبيل إلا بالدين، ومن النصوص الدالة على كراهة الدين الحديث الوارد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): (إياكم والدين فإنه همّ بالليل وذلٌ بالنهار) وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (الدين أحد الرقيّن)، وأما الاستدانة عند الحاجة فلا مانع منها كما في الحديث عن الإمام الكاظم(عليه السلام): (من طلب هذا الرزق من حله ليعود به على نفسه وعياله كان كالمجاهد في سبيل الله، فإن غلب عليه فليستدن على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وآله ما يقوت به عياله).
إلا أنه ينبغي للإنسان عندما يريد الاستدانة أن يكون ناوياً لقضاء الدين من دون مماطلة أو إبطاء أو إنكار، لأن الإنسان الذي يعين أخاه على قضاء حاجته من خلال استجابته لطلب المديون، فينبغي على من أخذ المال أن يكون وفياً لمن ساعده على قضاء أموره، ولذا ورد في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): (من استدان ديناً، فلم ينوِ قضاءه كان بمنزلة السارق، ومن كان عليه دين ينوي قضاءه كان معه من الله حافظان على أداء أمانته، فإن قصرت نيته عن الأداء قصرت عنه المعونة بقدر ما قصّر من نيته).
ولهذا كان للدين ثواب كبير عند الله عز وجل للدائن ما فيه من المعونة على البر والخير وقطع لدابر الفتنة والفساد بين الناس، ولذا فمن يقرض الناس لمعاونتهم على قضاء أمورهم حتى لا تدفع بهم الحاجة إلى الانحراف له ثواب جلل وكبير عند الله كما في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): (من أقرض مؤمناً ينظر به ميسرة كان ماله في زكاة، وكان هو في صلاة من الملائكة عليه حتى يقضيه)، و عن الإمام الصادق (عليه السلام): (مكتوب على باب الجنة الصدقة بعشرة، والقرض بثمانية عشر)، وسبب زيادة أجر القرض على الصدقة، لأن القرض لا يكون إلا عن حاجة بينما الصدقة قد يطلبها من ليس بحاجة إليها، أو لأن مال القرض باعتبار أنه يعود إلى صاحبه فيقرضه مرة ثانية وهكذا مما يؤدي إلى دوران المال بين الناس، بينما الصدقة لا تعود لصاحبها فتنقطع عن الدوران بينهم ويقف أجرها لصاحبها عند حدود من وصلت إليه فقط.
وهنا ينبغي التنبيه على مسألة حساسة جداً ومهمة وهي ضرورة توثيق الدين عبر الكتابة والإشهاد حتى لا يكون هناك إرتحال لبعض من يقترضون المال من إنكاره لاحقاً، وهذه المسألة لا مانع فها شرعاً بل ان توثيق الدين أمر مستحب في الإسلام، وقد نطق القرآن بذلك في قوله تعالى﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ... ﴾ 1، وكذلك ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): (من ذهب حقه على غير بينه لم يؤجر)، وقال(عليه السلام): (لا تستجاب دعوة لرجل كان له مال فأدانه من غير بينة، إن الله سبحانه يقول له: ألم آمرك بالشهادة؟). وتتأكد مسألة توثيق الدين وكتابته عندما يكون الناس غير ملتزمين بالضوابط والأخلاق الإسلامية، أو عندما تكون عملية الثقة قليلة بين الناس، أو عندما يفسد الزمان وأهله كما ورد في بعض الروايات والمصادر عندنا، وكتابة الدين وتوثيقه بالعقود والمشهود عليها هو طريق لحفظ حقوق الدائنين المحسنين من الضياع من خلال الإخطار أو المماطلة الشديدة مع القدرة مع الوفاء ورد الديون لأصحابها.
وبما أن المديون هو عبارة عن الإنسان المحتاج للدين يأخذ المال من الآخرين لقضاء حوائجه، فيجب عليه عندما يصبح ميسوراً ومالكاً لمقدار ما عليه من الدين أن يرده إلى صاحبه بدون تأخير أو إبطاء، لان تأخير رد الدين في هذه الحالة هو عمل محرم لأنه مرتبط بحقوق الناس من دون مسوغ أو مبرر شرعي أو اجتماعي، ولذا ورد في الحديث عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلّم): (لا يحل لغريمك أن يمطلك وهو موسر كذلك لا يحل لك أن تستعسره إذا علمت انه معسر، وقد قال الله تعالى وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة)، وقد ورد في الشريعة الإسلامية أن أحسن الناس من كان أحسنهم قضاءً عندما يستدين لأن ذلك دليل صفاء نية وطهارة قلب وإحساس جيد بمعروف الآخرين الذين يخدمون إخوانهم من خلال القروض التي يقدمونها إليهم، مضافاً إلى أن المماطلة أو الإبطاء لها مضارها الكثيرة إذ أنها قد تكون سبباً لمنع المعروف بين الناس فلا يعود القادرون في مورد الاستعداد لإقراض المحتاجين عندما يرون أموالهم التي يقرضونها لا تعود إليهم أصلاً، أو أنها تعود ولكنه بعد المطالبات الكثيرة والإلحاح وما شابه ذلك.
وبما أن القرض هو نوع من الإحسان أو المساعدة التي يقدمها الإنسان القادر مالياً للعاجز من هذه الجهة، فلا يجوز شرعاً للمقرض أو الدائن أن يفرض على المقترض أو المديون أن يرد له الدين مع زيادة، لان هذه الزيادة تكون داخلة عندئذ تحت عنوان "الربا" وهو محرّم قطعاً كما في قوله تعالى:﴿ ... وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ... ﴾ 2 ولان هذه الزيادة لا مبرر لها من الناحية الشرعية وهي نوع من أكل المال بالباطل فلا تحل لأخذها ويجب عليه ردها إلى صاحبها. وقد ورد عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلّم): (كل قرض يجر منفعة فهو حرام)، والزيادة المحرمة لا فرق فيها بين أن تكون مالاً أو عملاً أو منفعة أو حقاً، فمثلاً يحرم أن يرد قرض المائة مثلاً مئة وعشرة، أو يحرم أن يرد قرض المائة على أن يعمل لديه المقترض فترة بدون أجر، أو يحرم أن يرد القرض مع الانتفاع مثلاً لمدة معينة ببيت يملكه المقترض، أو أن يرد القرض مع التنازل عن حق ثابت للمقترض.
نعم يجوز للدائن وهو صاحب المال أن يطالب المديون برد قسم من الدين فقط ويسامحه بالقسم الباقي فهذا مما لا مانع شرعاً منه و هو نوع من الإشفاق والإرفاق بحال المديون تارة، أو بسبب حاجة ملحة حدثت عند الدائن فصار مضطراً لتحصيل حقه ولو عبر التنازل عن قسم منه للمديون، وقد وردت نصوص في هذا المجال كما في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): (سُئل عن الرجل يكون له دين على آخر، فيقول له قبل أن يحل الأجل: عجِّل النصف من حقي على أن أضع عنك النصف، أيحل ذلك؟ قال"عليه السلام" نعم).
وبعد حصول الدين بشروطه الصحيحة يجب على المديون أن يسعى في سداد الدين، بل حتى أنه يجب عليه أن يعمل أي عمل كان يكسب من خلاله مالاً ليستعين به على الوفاء بالدين، باعتبار أن رد الدين لصاحبه واجب عليه، فإذا توقف أداء هذا الواجب على أمر آخر صار ذلك الأمر الآخر واجباً عليه أيضاً، والسبب في كون رد الدين واجباً هو أن حقوق الناس محترمة في الإسلام ولا يقبل الله تضييعها وإهمالها، ولذا أوجب الإسلام على المديون عندما يعجز عن سداد الدين أن يبيع كل ما لا يكون داخلاً تحت عنوان "المؤنة" وهي عبارة عن الأشياء التي يحتاجها فعلاً في معيشته كمسكنه ومأكله ومشربه وملبسه وما شابه ذلك، بل حتى ولو توفي المديون فيجب على ورثته إخراج الديون من التركة والميراث قبل توزيعها إن كان يزيد عن حجم الدين على الورثة.
وفي بعض الحالات التي تحدثنا عنها كمماطلة المديون من دون عذر في رد الدين أو كإنكاره أصل الدين يجوز للدائن أن يأخذ أي شيء للمديون مما يقع تحت يده بحيث تكون قيمته مساوية للدين الذي له في ذمة المديون، وهذا ما يعبر عنه بـ"المقاصة، والمقاصة لا تحتاج إلى إذن الحاكم الشرعي أو ولي الأمر وإن كان ذلك أحوط وأفضل لاعتبارات عديدة أهمها عدم السماح بحصول خلل في حياة الناس عندما يستوفون حقوقهم بهذه الطريقة من دون الاستئذان من أولياء الأمر الشرعيين.
ولا بد هنا من التنبيه على أمر أخير وهو أن الدين لا يسقط من ذمة المديون إذا لم يطالب الدائن به، لأن عدم مطالبته بدينه قد تكون لأسباب متعددة، فلو طالب به ولو بعد فترة طويلة يجب على المديون الوفاء به لأن ذمته مشغولة بالمال للدائن، ولا يحق للمديون في هذه الحالة الاحتجاج بطول الفترة أو ما شابه ذلك مما قد يستبطن أحياناً المسامحة أو إبراء الذمة، لأن هذا مما لا دليل عليه من الشريعة، وعليه فللدائن المطالبة بالمال ولا يجوز للمديون التخلف عن الدفع إذا كان قادراً وميسوراً.
والحمد لله رب العالمين3.
- 1. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 282، الصفحة: 48.
- 2. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 275، الصفحة: 47.
- 3. نقلا عن موقع سبل السلام لسماحة الشيخ محمد توفيق المقداد (حفظه الله).