الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

سنّة العدل والحقّ‌ من سنن التطور الإجتماعي في القرآن الكريم

سنّة العدل والحقّ سنّة إلهيّة كونيّة عامّة تشمل في عمومها المجتمع البشريّ، مع فارق في التنفيذ بين منظومة المجتمع البشريّ وغيره من المنظومات الكونيّة، نشأ من اختياريّة السلوك الإنسانيّ والحرّيّة التكوينيّة الّتي وهبها الله للإنسان، وبها استحقّ موقع الخلافة الإلهيّة في عالم الوجود، دون غيره من المخلوقات.

لقد خلق الله الإنسان، وجعله حرّاً في اختيار السلوك الّذي يقرّر مصيره. قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى:

﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا 1.

﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ ... 2.

﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ... 3.

وقد أكّد القرآن الكريم في كلّ هذه النصوص الّتي تضمّنت التصريح بحرّيّة الإنسان في إرادته وسلوكه الّذي يقرّر مصيره، أنّ هذه «الحرّيّة» لا تعني «اللامسؤوليّة»، ولا تعني «إلغاء المعايير القبليّة» الّتي يتحدّد على ضوئها الحقّ، ويتميّز بها عن الباطل؛ فإنّ الإنسان حُرّ، وهو مسؤول في حرّيّته أن يختار بها السلوك الصحيح السليم، وأن يتجنّب السلوك السقيم، وأن يختار الحقّ ويقف إلى جانبه، وأن يرفض الباطل ويقف في وجهه. قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ... 4.

﴿ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ﴾ 5.

﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ... 6.

﴿ ... وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ... 7.

﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ... 8.

فلا تعني حرّيّة الإنسان- إذاً- أنّ الإنسان هو الّذي يحدّد الحقّ والخير والفضيلة باختياره؛ فكلّ ما اختاره الإنسان- مجتمعاً، أو فرداً- فهو الخير والحقّ والفضيلة، وكلّ ما رفضه الإنسان- مجتمعاً، أو فرداً- فهو الباطل والشر والرذيلة، بل الخير والشرّ، والعدل والظلم، والفضيلة والرذيلة، مقولات «ما قبل الإنسان»، وهي سابقة في وجودها وتقرّرها على الإنسان واختياره وإرادته الحرّة، والإنسان مسؤول في إرادته الحرّة أن يطبّق إرادته وسلوكه الاختياريّ على تلك المعايير (قبل الإنسانيّة)، وأن يتّبع في إرادته ومواقفه الاختياريّة تلك المعايير القبليّة.

هذا على النقيض من الثقافة الغربيّة، وما انبثق منها من النظريّات الاجتماعيّة الّتي تتّفق في أغلبها على نقطة خطيرة للغاية؛ وهي بَعْدِيّة القيم الأخلاقيّة والمقدّسات والمعنويّات كلّها للإنسان وإرادته، فالإنسان هو الّذي يحدّد الخير والحقّ والعدل بإرادته واختياره، فكلّ ما اختاره الإنسان هو الخير والفضيلة والحقّ، فالقيم هي الّتي تتّبع الإنسان، وليس العكس!

هذه الرؤية الغربيّة الهيومانيزميّة هي الأساس في التفكير الاجتماعيّ الغربيّ وقيمه، من الحرّيّة، والديمقراطيّة، وغيرهما. وهي‌ رؤية أقلّ ما ينتج منها: ضياع القيم والأخلاق، وسلطة الهوى على المجتمع الإنسانيّ وسلوكه، ثمّ ما ينتهي إليه من الفوضى الأخلاقيّة، وشيوع الفساد، وتفشّي الظلم، وهيمنة الطواغيت على مقدّرات المجتمع الإنسانيّ، ومصيره، ومواقع القرار فيه.

أمّا الإسلام، فإنّه يؤكّد على قبليّة القيم والمعايير الأخلاقيّة على المجتمع الإنسانيّ، والإنسان، وإرادته، وأنّ الإنسان مسؤول أمام تلك القيم والمعايير، وعليه أن يختار سلوكه وفقاً لما تمليه عليه القيم الأخلاقيّة العليا، وأن يختار الخير دون الشرّ، والعدل دون الظلم، والحقّ دون الباطل.

وبما أنّ العقل الإنسانيّ ليس معصوماً في إدراكه الخلقيّ، وكثيراً ما يخطئ في فهمه للقيم الأخلاقيّة، أو في تطبيقها على جزئيّاتها ومصاديقها، فقد جاء الدّين ناطقاً عن لسان الوحي الإلهيّ المعصوم، ليضع النقاط على الحروف، ويحدّد للإنسان الطريق السليم في الحياة، والصراط المستقيم الّذي لا يزيغ عن الحقّ والعدل أبداً:

﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ 9.

ومهما يكن من أمر، فسنّة العدل والحقّ سنّة كونيّة عامّة أكّد عليها وعلى شمولها القرآن الكريم، فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى:

﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ... 10.

﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ... 11.

﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ... 12.

فالسنّة الّتي تحكم السماوات والأرض هي سنّة الحقّ التامّ، والعدل الكامل، وهذه السنّة كما تحكم السماوات والأرض في خلقها الأولى- قبل يوم القيامة- كذلك تحكمها في خلقها المعاد يوم القيامة. قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى:

﴿ ... وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ ... 12.

﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ... 13.

﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ... 14.

﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ 15.

﴿ ... مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ... 16.

والحقّ هو العدل في صورته الكونيّة، كما أنّ العدل هو الحقّ في صورته الاجتماعيّة، فالسلوك الاجتماعيّ المنطبق على معايير الحقّ هو السلوك العادل، والخلق الكونيّ المنطبق على معايير الخير والفضيلة هو الحقّ في مقياسه الكونيّ.

فالكون- كلّه- قائم على أساس الحقّ والعدل والخير، وليس المجتمع الإنسانيّ بدعاً في هذا النظام الكونيّ العامّ، فسنّة الحقّ العامّة تشمل المجتمع الإنسانيّ، فهو أيضاً قائم على أساس الحقّ.

وهنا سنّة أخرى خَصّ الله بها الإنسان دون غيره من موجودات الكون؛ وهو أنّ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وهب للإنسان الإرادة، وحرّيّة الاختيار، وجعله ذا سلطة كونيّة على سلوكه ومصيره، فهو الّذي يختار سلوكه، وهو الّذي يقرّر لنفسه مصيرها. قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى:

﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ... 2.

﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ... 3.

﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ 9.

والّذي ينتج عن هذه السنّة عندما تجري في المجتمع الإنسانيّ الّذي تحكمه سنّة الحقّ والعدل الكونيّة، هو حتميّة المرحلة الّتي يختار فيها الإنسان بإرادته الحرّة إقامة العدل والحقّ التامّ على نفسه ومجتمعه، وهذه هي الغاية الّتي يتّجه إليها المجتمع الإنسانيّ في تطوّراته الاجتماعيّة، وتحوّلاته التاريخيّة. قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى:

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ... 17.

﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ 18.

﴿ ... إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ 19.

فعلى أساس هاتين السنّتين: سنّة العدل والحقّ الكونيّة، وسنّة الحرّيّة والاختيار في الإرادة الإنسانيّة، تنبثق سنّة الخطّ التطوّريّ العامّ الموجَّه في التاريخ، والّتي تعني أنّ تطوّرات المجتمع البشريّ وتحوّلاته لابدّ أن تؤدّي بالمجتمع الإنسانيّ- في نهاية الأمر- إلى أن يبلغ درجة من النضج الإراديّ، والوعي في الاختيار، تجتمع فيها الإرادة الغالبة في المجتمع الإنسانيّ على اختيار نظام العدل التامّ الشامل، تحت قيادة معصومة، تقيم العدل والقسط على ربوع الأرض كلّها، وبذلك تستقرّ حكومة الصالحين. قال رسول الله (ص):

«لا تقوم الساعة حتى تملؤ الأرض ظلما وجورا وعدوانا، ثم يخرج من أهل بيتي من يملؤها قسطا و عدلا كما ملئت ظلما وجورا»20 21.

 

للمزيد راجع كتاب سنن التطور الإجتماعي في القرآن الكريم