حقول مرتبطة:
الكلمات الرئيسية:
الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
لقاء العلماء
أدخلني صديقي إلى مسجد في جانب الحرم مفروش كله بالسجاد و في محرابه آيات قرآنية منقوشة بخط جميل ، و لَفَتَ انتباهي مجموعة من الصبيان المعممين جالسين قرب المحراب يتدارسون و كل واحد في يده كتاب ، فأعجبت لهذا المنظر الجميل و لم يسبق لي أن رأيت شيوخا بهذا السن أعمارهم تتراوح ما بين الثالثة عشرة و السادسة عشرة و قد زادهم جمالا ذلك الزي فأصبحوا كالأقمار ، سألهم صديقي عن " السيد " فأخبروه بأنه يصلي بالناس جماعة ، و لم أفهم من هو " السيد " الذي سألهم عنه غير أنني توقعت أنه أحد العلماء.
و عرفت فيما بعد أنه السيد الخوئي زعيم الحوزة العلمية للطائفة الشيعية .
مع العلم بأن لقب " السيد " عند الشيعة هو لقب لكل منحدر من سلالة النبي ( صلى الله عليه و آله ) ، ويرتدي " السيد " العالم أو طالب العلوم الدينية عمامة سوداء ، و أما العلماء الآخرون فيرتدون عمامة بيضاء و يلقبون بـ " الشيخ " و هناك نوع من الأشراف الذين ليسوا بعلماء فلهم عمامة خضراء .
طلب إليهم صديقي أن أجلس معهم ريثما يذهب للقاء " السيد " و رحبوا بي و أحاطوني بنصف دائرة و أنا أنظر في وجوههم و أستشعر براءتهم و نقاوة سريرتهم و أستحضر في ذهني حديث النبي ( صلى الله عليه و آله ) حيث قال : " يولد المرء على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " و قلت في نفسي : أو يشيعانه .
سألوني من أي البلاد أنا ، قلت : من تونس ، قالوا : هل يوجد عندكم حوزات علمية ؟ أجبتهم : عندنا جامعات و مدارس ، و انهالت علي الأسئلة من كل جانب ، و كلها أسئلة مركزة و محرجة ، فماذا أقول لهؤلاء الأبرياء الذين يعتقدون أن في العالم الإسلامي كله حوزات علمية تدرس الفقه و أصول الدين و الشريعة و التفسير ، و ما يدرون أن في عالمنا الإسلامي و في بلداننا التي تقدمت و تطورت ، أبدلنا المدارس القرآنية بروضات للأطفال يشرف عليها راهبات نصرانيات فهل أقول لهم إنهم ما زالوا " متخلفين " بالنسبة إلينا ؟ .
و سألني أحدهم : ما هو المذهب المتبع في تونس ؟ قلت : المذهب المالكي ، قال : ألا تعرفون المذهب الجعفري ؟ فقلت : خير إن شاء الله ، ما هذا الاسم الجديد ؟ لا ، نحن لا نعرف غير المذاهب الأربعة و ما عداها فليس من الإسلام في شيء .
و ابتسم قائلا : عفوا ، أن المذهب الجعفري هو محض الإسلام ، ألم تعرف بأن الإمام أبا حنيفة تتلمذ على يد الإمام جعفر الصادق ؟ و في ذلك يقول أبو حنيفة : " لولا السنتان لهلك النعمان " ، سكت و لم أبد جوابا ، فقد أدخل علي أسما جديدا ما سمعت به قبل ذلك اليوم و لكني حمدت الله أنه - أي إمامهم جعفر الصادق - لم يكن أستاذا للإمام مالك و قلت نحن مالكية و لسنا أحنافا .
فقال : أن المذاهب الأربعة أخذ بعضهم عن بعض فأحمد بن حنبل أخذ عن الشافعي و الشافعي أخذ عن مالك و أخذ مالك عن أبي حنيفة و أبو حنيفة أخذ عن جعفر الصادق و على هذا فكلهم تلاميذ لجعفر بن محمد ، و هو أول من فتح جامعة إسلامية في مسجد جده رسول الله و قد تتلمذ على يديه أكثر من أربعة آلاف محدث و فقيه ، و عجبت لهذا الصبي الذكي الذي يحفظ ما يقول مثل ما يحفظ أحدنا سورة من القرآن ، و قد أدهشني أكثر عندما كان يسرد علي بعض المصادر التاريخية التي يحفظ عدد أجزائها و أبوابها ، و قد استرسل معي في الحديث و كأنه أستاذ يعلم تلميذه ، و شعرت بالضعف أمامه ، و تمنيت لو أني خرجت مع صديقي ولم أبق مع الصبيان ، فما سألني أحدهم عن شيء يخص الفقه أو التاريخ إلا و عجزت عن الجواب ، سألني من أقلد من الأئمة ؟ قلت : الإمام مالك !
قال : كيف تقلد ميتا بينك و بينه أربعة عشر قرنا ، فإذا أردت أن تسأله الآن عن مسألة مستحدثة فهل يجيبك ؟ فكرت قليلا و قلت : و أنت جعفرك مات أيضا منذ أربعة عشر قرنا فمن تقلد ؟ أجاب بسرعة هو و الباقون من الصبية : نحن نقلد السيد الخوئي فهو إمامنا .
و لم أفهم أكان الخوئي أعلم أم جعفر الصادق ، و بقيت معهم أحاول تغيير الموضوع فكنت أسألهم عن أي شيء يلهيهم عن مسألتي فسألتهم عن عدد سكان النجف و كم تبعد النجف عن بغداد و هل يعرفون بُلدانا أخرى غير العراق ، وكلما أجابوا أعددت لهم سؤالا غيره حتى أشغلهم عن سؤالي لأني عجزت و شعرت بالقصور ، و لكن هيهات أن أعترف لهم و إن كنت في داخلي معترفا إذ أن ذلك المجد و العز و العلم الذي ركبني في مصر تبخر هنا و ذاب ، خصوصا بعد لقاء هؤلاء الصبيان عرفت الحكمة القائلة :
فقل لمن يدعي في العلم فلسفة * عرفت شيئا و غابت عنك أشياء و تصورت أن عقول هؤلاء الصبيان أكبر من عقول أولئك المشايخ الذين قابلتهم في الأزهر و أكبر من عقول علمائنا الذين عرفتهم في تونس .
و دخل السيد الخوئي و معه كوكبة من العلماء عليهم هيبة و وقار ، و قام الصبيان و قمت معهم ، و تقدموا من " السيد " يقبلون يده ، و بقيت مسمرا في مكاني ، ما إن جلس " السيد " حتى جلس الجميع و بدأ يحييهم بقوله : " مساكم الله بالخير " يقولها لكل واحد منهم فيجيبه بالمثل حتى وصل دوري فأجبت كما سمعت ، بعدها أشار علي صديقي الذي تكلم مع " السيد " همسا ، بأن أدنو من " السيد " و أجلسني على يمينه و بعد التحية قال لي صديقي : أحك للسيد ماذا تسمعون عن الشيعة في تونس .
فقلت يا أخي كفانا من الحكايات التي نسمعها من هنا و هناك ، و المهم هو أن أعرف بنفسي ماذا يقول الشيعة ، و عندي بعض الأسئلة أريد الجواب عنها بصراحة .
فألح علي صديقي و أصر على أن أروي " للسيد " ما هو اعتقادنا في الشيعة ، قلت : الشيعة عندنا هم أشد على الإسلام من اليهود و النصارى لان هؤلاء يعبدون الله و يؤمنون برسالة موسى ( عليه السلام ) ، بينما نسمع عن الشيعة أنهم يعبدون عليا و يقدسونه ، و منهم فرقة يعبدون الله و لكنهم ينزلون عليا بمنزلة رسول الله و رويت قصة جبريل كيف أنه خان الأمانة حسب ما يقولون و بدلا من أداء الرسالة إلى علي أداها إلى محمد ( صلى الله عليه و آله ) .
أطرق " السيد " رأسه هنيهة ثم نظر إلي و قال : نحن نشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله صلى الله عليه و على آله الطيبين الطاهرين ، و ما عليّ إلا عبد من عبيد الله و التفت إلى بقية الجالسين قائلا و مشيرا إلي : أنظروا إلى هؤلاء الأبرياء كيف تغلطهم الإشاعات الكاذبة ، و هذا ليس بغريب فقد سمعت أكثر من ذلك من أشخاص آخرين ، فلا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم ، ثم التفت إلي و قال : هل قرأت القرآن ؟ قلت : حفظت نصفه و لم أتخط العاشرة من عمري .
قال : هل تعرف أن كل الفرق الإسلامية على اختلاف مذاهبها متفقة على القرآن الكريم ، فالقرآن الموجود عندنا هو نفسه موجود عندكم . قلت نعم هذا أعرفه .
قال : إذاً ألم تقرأ قول الله سبحانه و تعالى : ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ... ﴾ 1.
و قوله أيضا : ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ... ﴾ 2.
و قوله : ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَٰكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ... ﴾ 3.
قلت بلى أعرف هذه الآيات قال : فأين هو علي ؟ إذا كان قرآننا يقول بأن محمدا هو رسول الله فمن أين جاءت هذه الفرية ؟ سكتُ و لم أجد جوابا ، و أضاف يقول : و أما خيانة جبريل " حاشاه " فهذه أقبح من الأولى ، لان محمد كان عمره أربعين سنة عندما أرسل الله سبحانه إليه جبريل ( عليه السلام ) ، و لم يكن علي إلا صبيا صغيرا عمره ست أو سبع سنوات ، فكيف يا ترى يخطئ جبريل و لا يفرق بين محمد الرجل و علي الصبي ؟ .
ثم سكت طويلا بينما بقيت أفكر في أقواله و أنا مطرق أحلل و أتذوق هذا الحديث المنطقي الذي نفذ إلى أعماقي و أزال غشاوة عن بصري و تساءلت في داخلي كيف لم نحلل نحن بهذا المنطق .
أضاف " السيد الخوئي " يقول : و أزيدك بأن الشيعة هي الفرقة الوحيدة من بين كل الفرق الإسلامية الأخرى التي تقول بعصمة الأنبياء و الأئمة ، فإذا كان أئمتنا سلام الله عليهم معصومين عن الخطأ و هم بشر مثلنا ، فكيف بجبريل و هو ملك مقرب سماه رب العزة بـ " الروح الأمين " .
قلت : فمن أين جاءت هذه الدعايات ؟ .
قال : من أعداء الإسلام الذين يريدون تفريق المسلمين و تمزيقهم و ضرب بعضهم ببعض و إلا فالمسلمون أخوة سواء كانوا شيعة أم سنة فهم يعبدون الله وحده لا يشركون به شيئا ، و قرآنهم واحد و نبيهم واحد و قبلتهم واحدة ، و لا يختلف الشيعة عن السنة إلا في الأمور الفقهية كما يختلف أئمة المذاهب السنية أنفسهم في ما بينهم فمالك يخالف أبا حنيفة ، و هذا يخالف الشافعي و هكذا ...
قلت : إذاً كل ما يحكى عنكم هو محض افتراء قال : أنت بحمد الله عاقل و تفهم الأمور و قد رأيت بلاد الشيعة و تجولت في أوساطهم فهل رأيت أو سمعت شيئا من تلك الأكاذيب ؟ قلت : لا لم أسمع و لم أر إلا الخير و إني أحمد الله سبحانه أن عرفني بالأستاذ منعم في الباخرة ، فهو السبب في مجيئي إلى العراق و قد عرفت أشياء كثيرة كنت أجهلها فضحك صديقي منعم قائلا : و منها وجود قبر للإمام علي ، فغمزته و استدركت قائلا : بل تعلمت أشياء جديدة حتى من هؤلاء الصبيان و تمنيت لو أتيحت لي الفرصة و تعلمت مثلهم في الحوزة العلمية هنا .
قال " السيد " : أهلا و سهلا ، إن كنت تريد طلب العلم فالحوزة على ذمتك ، و نحن في خدمتك ، و رحب الحاضرون بهذا الاقتراح و خصوصا صديقي منعم الذي تهلل وجهه .
قلت : أنا متزوج و عندي ولدان : قال : نحن نتكفل بكل مستلزماتكم من سكن و معاش و كل ما تحتاجون إليه و المهم هو طلب العلم ، فكرت قليلا و قلت في نفسي ليس من المعقول أن أصبح تلميذا بعد ما قضيت خمس سنوات و أنا أستاذ أمارس التعليم و تربية النُشء ، و ليس من السهولة أن أتخذ قرارا بمثل هذه السرعة .
شكرت السيد الخوئي على هذا العرض و قلت سوف أفكر في الموضوع بجد بعد رجوعي من العمرة بحول الله و لكني في حاجة إلى بعض الكتب ، فقال السيد : أعطوه الكتب ، و نهض جمع من العلماء و فتحوا عدة خزانات و ما هي إلا لحظات حتى وجدت أمامي أكثر من سبعين مجلدا فكل واحد جاءني بدورة من الكتب و قال : هذه هديتي ، و رأيت أنه لا يمكنني حمل هذا العدد الكبير معي خصوصا و أني متوجه إلى السعودية الذين يمنعون دخول أي كتاب إلى بلادهم خوفا من تفشي بعض العقائد التي تخالف مذهبهم و لكني ما أردت التفريط بهذه الكتب التي لم تر عيني مثلها في سابق حياتي .
فقلت لصديقي و للحاضرين بأن طريقي طويل يمر بدمشق و الأردن إلى السعودية و في العودة سيكون أطول فسأمر بمصر و ليبيا حتى الوصول إلى تونس ، و زيادة على ثقل الحمل فإن أغلب الدول تمنع دخول الكتب ، فقال " السيد " أترك لنا عنوانك و نحن نتكفل بإرسالها إليك ، و استحسنت هذا الرأي و أعطيته بطاقة شخصية بها عنواني في تونس ، و شكرت فضله ، و لما ودعته و نهضت للخروج ، نهض معي قائلا : أسأل الله لك السلامة و إذا وقفت على قبر جدي رسول الله فبلغه مني السلام و تأثر الحاضرون و تأثرت كثيرا و أنا أنظر إلى عينيه تدمعان ، و قلت في نفسي حاشى لله أن يكون هذا من المخطئين حاشى لله أن يكون هذا من الكاذبين ، إن هيبته و عظمته و تواضعه تنبيء حقا أنه من سلالة الشرف ، فما كان مني إلا أن أخذت يده و قبلتها رغم ممانعته .
و قام الجميع لقيامي و سلموا علي ، و تبعني بعض الصبية من الذين كانوا يجادلونني و طلبوا مني عنواني للمراسلة فأعطيتهم إياه .
اتجهنا من جديد إلى الكوفة بدعوة أحد الذين كانوا في مجلس السيد الخوئي و هو صديق منعم إسمه أبو شبر ، نزلنا في بيته و سهرنا ليلة كاملة مع مجموعة من الشبان المثقفين و كان من بينهم بعض طلبة السيد محمد باقر الصدر فأشاروا علي بمقابلته و تعهدوا بأنهم سيرتبون لقائي مع حضرته في اليوم التالي ، و استحسن صديقي منعم هذا الاقتراح و لكنه تأسف لعدم إمكانية حضوره لان له شغلا في بغداد يستلزم حضوره ، و اتّفقنا على أن أبقى في بيت السيد أبو شبر ثلاثة أيام أو أربعة ريثما يعود منعم ، الذي غادرنا بعد صلاة الفجر و قمنا نحن للنوم و قد استفدت كثيرا من طلبة العلوم الذين سهرت معهم و تعجبت من تنوع العلوم التي يتلقونها في الحوزة فهم زيادة على العلوم الإسلامية من فقه و شريعة و توحيد يدرسون العلوم الاقتصادية و العلوم الاجتماعية و السياسية ، و التاريخ و اللغات و علوم الفلك و غير ذلك 4.
-
المقطع السابق: السفر إلى النجف
-
المقطع اللاحق: لقاء مع السيد محمد باقر الصدر
-
ثمّ اهتديت
- 1. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 144، الصفحة: 68.
- 2. القران الكريم: سورة الفتح (48)، الآية: 29، الصفحة: 515.
- 3. القران الكريم: سورة الأحزاب (33)، الآية: 40، الصفحة: 423.
- 4. المصدر:كتاب ثم إهتديت، للشيخ محمد التيجاني.