الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
التقوى حكمة الحج
﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ 1.
إن كلمة التقوى من طبيعتها اختصار الغاية والحكمة من أداء فريضة الحج المباركة ، وهذه الكلمة الطيبة تنشعب بدورها إلى شعبتين أساسيتين ، هما الهدى والمغفرة . وبتعبير آخر ؛ العفو والرضوان . ومن دون معرفة هاتين الشعبتين الشاملتين تبقى الحكمة من فريضة الحج غامضة لدى مؤديها . فالمرء إن لم يكن عارفاً بهدف فعلٍ ما فإنه لا يحققه ، وإن هو حققه فإنما يحقق نسبةً ضئيلة منه ، فيما ستبقى أعماله غير منضبطة ومتوازنة مع خط الهدف الذي يرغب في تحقيقه .
فالإحرام ـ بتروكه وواجباته المتعددة ـ والحضور في الميقات ، والنية والتلبية ، والطواف ، والسعي ، والتقصير ، والوقوفان ، وأداء المناسك في منى ثم المبيت فيها ، ثم الطواف . . كل هذه وسائل ، والهدف الأساس هو غيرها ، وقد أكد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من مرة هذه الحقيقة بقوله الكريم : " إنّما الأعمال بالنيات ولكل امرئٍ ما نوى " 2 . فالنية تشكل جوهر الفعل وروحه والحقيقة التي تقف خلفها حركة الإنسان ، ومن لا نية له لا عمل له .
إن النية هي التعرف والوصول إلى حقيقة الفعل ، ومن دونها لن يكون لهذا الفعل محتوى .
وما سمعتموه من الخطباء وتوجيه العلماء أو قرأتموه في طيات الكتب يمثل شيئاً بسيطاً بالنسبة إلى عظمة مناسك الحجّ ، هذه الفريضة الإلهية والرحلة القدسية ، فهل تدرون ما تفعلون حيث تعرجون إلى الله عز وجل ؟ فانتم ضيف الله الكريم ، وقد اختاركم من بين مئات الملايين من المسلمين ، وهذا الاختيار من المؤكد أن يكون وراءه حكمة عظيمة متعالية ، فهل لكم أن تعرفوا قيمة أنفسكم ولماذا تحجون وكيف تعكسون مردود هذا الحج على مفاصل حياتكم؟؟
المغفرة و الهدى
يعتقد علماء المسلمين أن الوقوف في عرفة يجسد نقطة الأوج في حركة الحاج ، ويعتقدون أيضاً أن السر في تسمية عرفة بهذا الاسم يعود إلى وصول الحاج معرفة نفسه ، وبالتالي توصله إلى معرفة ربه ـ كل حسب درجته ـ وذلك بعد أن اختزل في داخله معاني المناسك التي أداها في الأيام والأفعال السابقة .
أما تلك المعرفة لن تتأتّى لأحد ما لم يتنازل الإنسان عن ذاتيته وأنانيته في مقابل تسليمه الله تعالى والتمسك بدين الله ، حيث يهجر الهوى الذي يحجبه عن الله ، وقد جاء في الحديث : " أن أقرب ما يكون العبد إلى الله حين السجود " 3 . نظراً إلى أن الساجد قد وضع أشرف وأكرم ما لديه –وهو جبهته ـ على الأرض عنواناً للخضوع والانصهار والعبودية وهجران الذات . فهو يرغم أنفه على الخضوع والاقتراب إلى الله . وكذلك الوقوف في عرفات ، حيث يتجرد من كل شيء في حركة تصاعدية نحو المعرفة بالله وبالذات معرفةً أقرب ما تكون إلى الواقع .
وهنا ؛ لابد من الإشارة إلى أن من الذنوب التي لا تغفر لمرتكبها ، تلك الذنوب التي لا يعرف كونها ذنوباً من حيث حجم التأثير التي تتركها وتخلفها على صاحبها . فمن يستهن بذنوبه على اعتبارها ذنوباً غير ذات بال ، عليه التأكد بأن ذنوبه هذه يكمن فيها الخطر الأكبر ، نظراً إلى كونه يحاول ـ وبأنانية وكبرياء ـ تحليل ما قد حرمه الله عليه ومنعه من ارتكابه ، وبالتالي فإنه من الممكن تصوره محاولاً إحداث البدعة والضلالة واعتبارها شرعاً في دين الله . وهذا الأمر بالذات يعتبر من أكبر الكبائر .
ولقد رأينا ورأيتم إن البعض ممن يدعي الإسلام يحاول إلغاء دور العلماء ، رافضاً التخصص في توضيح المسائل الشرعية على تفاوت أهميتها للناس ، مؤكداً أن الناس بإمكانهم فهم الدين ، ولكنه في الوقت ذاته لا يجرؤ على إلغاء دور الأطباء مثلاً ، مع التفاوت الفاحش من حيث الأهمية بين الدين الذي يتعلق مصير الإنسان به وبين الطب الذي لا يتجاوز معالجة جسد الإنسان .
وهناك من الناس من يصنع من نفسه طاغوتاً أو صنماً في بيته ، ويحمل بقوة أفراد عائلته على الخضوع له دون إحرازه عاملاً من عوامل الاحترام ، اللهم إلا أنه يوفر لهم لقمة العيش ، وحتى هذه الأخيرة لا يُعلم من أين يكتسبها ، وهو بهذه الطريقة يجهل فضاعة وخطر سلوكه ، حيث أنه في كل لحظة من اللحظات يعتبر مذنباً مصرّاً على ذنوبه .
إذن ؛ فالاستغفار ـ في عرفة أو غيرها ـ ينبغي أن يأخذ حدوده وتتوفر فيه شرائطه ، وأول شروطه الندم على الذنب ؛ وهذا يستوجب بادئ بدء معرفة وتشخيص أن هذا العمل ذنب ، والنية للتغيير والإقلاع عنه . فمعرفة الذنوب والاعتراف بها والتصميم على تركها ، يعتبر المحطة الأولى من محطات الاستغفار .
ثم إن الإنسان إذا كان يريد التعرف إلى حقيقة نفسه ، وأنه قد غفر له أم لا ، فإن عليه أن يعرض نفسه على القرآن ؛ فهو خير مرآة تعكس الحقيقة الإنسانية كما هي ومن دون شوائب ، فإنه من المؤكد أن ينال الهدى من كلام الله المجيد . فهو ميزان لا غشٌ ولا إفراط ولا تفريط فيه أبداً ، وبهذه الطريقة يكون المرء قد أزاح حجاباً آخر من حجب الشيطان عن عقله وعن نفسه .
وثّمَّ موضوع أخلاقي آخر يجدر بالإنسان اتخاذه سلوكاً ملازماً له ، من شأنه كبح جماحه وتلمّس حقيقته ، ألا وهو ضرورة أن يقيس نفسه فيما يخص الأمور الدنيوية بمن هم دونه ، لكي تهون عليه ضغوطات الحياة ويطرد عن نفسه وساوس الشيطان وهوى النفس الأمّارة بالسوء . هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإنه يلزمه أن يقيس نفسه فيما يخص أمور الآخرة بمن هو أعلى منها ، حتى يكون ذلك دافعاً له نحو أداء المزيد من أفعال الخير واغتنام ما أتيح له من فرص . وهذا يعني وجوب تعرف المرء على أهمية الالتزام بالقناعة والطموح ومعرفة فوائدهما ومعرفة الخط الفاصل بينهما ، حيث أن فائدتهما العظمى تظهر في أنهما سيحققان للإنسان عيشة راضية ، بما للكلمة من معنى ؛ سواء في الدنيا أو في الآخرة . فما أروع أن يكون المرء غير متكالب على الدنيا ، قانعاً بما أنعم الله عليه فيها ، طامعاً في الآخرة ، ومصمماً على العروج إلى أعلى عليين ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر 4 .
لمزيد من المعلومات يمكنكم مراجعة الروابط التالية: