الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الحضارات بين الشكر و كفران النعم‏

﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ * فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ * لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ 1.

يضرب لنا اللَّه جل وعلا في الآيات المتقدمة مثلين من حضارتين عاشتا ثم بادتا ، إلا أن أحدهما عاشت عيشة طيبة واستمرت في حياتها حتى قضت أجلها المسمّى لها ، فانتهى بذلك وجودها انتهاء طبيعياً . أما الحضارة الأخرى فقددمّرها الخالق سبحانه شرّ تدمير ، وأنهى وجودها بشكل مأساوي على الرغم من تمتعها بكافة وسائل العيش الرغيد التي وفّرها اللَّه سبحانه لها .

الحضارات الإلهية

لقد تمثلت الحضارة الأولى في حضارة بني إسرائيل وخصوصاً في عهد النبي داود وابنه سليمان‏عليهما السلام ، فأما النبي داود فقد شملت حضارته الصناعات ، حيث ألان له الرب الحديد ، وسخّر له الجبال ، فلفظت الأرض ما في جوفها من المعادن التي‏كان الحديد من جملتها ، فصنع داود عليه السلام من هذا الحديد اللين الدروع المعروفة بالدروع الداودية .
أما النبي سليمان‏عليه السلام ؛ فقد اتسعت حضارته ، وترامت أطرافها ، حيث أنعم اللَّه عز وجل عليه باستجابة الدعاء وجعل له‏ملكاً عظيماً لم ولن يؤتيه لأحد من قبل ، ولا من بعد ؛ فقد كان‏عليه السلام يمتطي الريح ببساطه المعروف ، ومعه مئات الألوف من‏الجنود المجندة ، وكانت حركة هذا البساط بالاستناد إلى مقاييسنا الحديثة ما يقرب من ستمائة كيلو متر في النصف الأول ‏من النهار ، ومثل ذلك عصراً ، كما يشعر بذلك قوله تعالى : ﴿ ... غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ... 2؛ أي ‏أن الريح كانت تحمل النبي سليمان‏ عليه السلام وجنوده مسافة شهر كامل خلال نصف يوم ، ثم لا تلبث أن تعود هذه المركبة بهم‏ قاطعة نفس المسافة خلال نصف نهار أيضاً! ومما تذكره كتب التاريخ أن سليمان‏ عليه السلام كان يصبح في بعلبك ، ثم يكون في ‏بغداد عند الظهيرة ، وفي خاوران عند العصر ، ثم يعود إلى قصره في بعلبك!
إن الحضارة الرفيعة التي كانت لنبّي اللَّه سليمان‏ عليه السلام لم يستطيع البشر أن يصلوا إلى مستواها حتى اليوم ، على الرغم مما حققه الإنسان من تقدم علمي .
وعلى سبيل المثال ؛ فإن استخدام الطير لإنجاز بعض المهام ما هو إلا استخدام محدود لدينا ، في حين أن النبي سليمان‏ عليه السلام‏ أوتي منطق الطير كما تشير إلى ذلك بوضوح قصة الهدهد المعروفة . كما أن البشر لم يستطع الوصول إلى مستوى استخدام ‏القوى الغيبية العاملة كالجن ، في حين أن النبي سليمان‏عليه السلام كان بإمكانه أن يستخدمها لتقدم له مختلف أنواع الخدمات ،ومن جملة هذه الخدمات ـ كما يذكر القرآن ـ صناعة القدور الراسية ، والجفان الكبيرة الحجم .

انتهاء العمر الطبيعي للحضارة

ومع ذلك فإن هؤلاء الجنّ لم يستطيعوا أن يتبينوا موت النبي سليمان ‏عليه السلام إلا من خلال ( الأرضة ) التي أكلت ‏منسأته . ففي رواية عن الإمام جعفر الصادق ‏عليه السلام ، أنه قال : إن سليمان بن داود عليه السلام قال ذات يوم لأصحابه : إن اللَّه تبارك ‏وتعالى قد وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي ، سخّر لي الريح والإنس والجن والطير والوحوش ، وعلمني منطق‏ الطير ، وآتاني من كل شي‏ء . ومع جميع ما أوتيت من الملك ما تمّ لي سرور يوم إلى الليل ، وقد أحببت أن أدخل قصري ‏في غد فأصعد أعلاه وأنظر إلى ممالكي ، فلا تأذنوا لأحد عليّ لئلاّ يرد عليَّ ما ينغص علي يومي . قالوا : نعم .
فلما كان من الغد أخذ عصاه بيده وصعد إلى أعلى موضع من قصره ، ووقف متكئاً على عصاه ينظر إلى ممالكه مسروراً بما اُوتي فرحاً بما اُعطي ، إذ نظر إلى شابّ حسن الوجه واللباس قد خرج عليه من بعض زوايا قصره ، فلما بصر به‏ سليمان ‏عليه السلام قال له : من أدخلك إلى هذا القصر ، وقد أردت أن أخلو فيه اليوم ؟ فبإذن من دخلت ؟
فقال الشاب : أدخلني هذا القصر ربه ، وبإذنه دخلت .
فقال : ربه أحق به مني ، فمن أنت ؟!
قال : أنا ملك الموت .
قال : وفيما جئت ؟
قال : جئت لأقبض روحك‏
قال : امض لما اُمرت به ، فهذا يوم سروري ، وأبى اللَّه عز وجل أن يكون لي سرور دون لقائه .
فقبض ملك الموت روحه ، وهو متكى‏ء على عصاه ، فبقي سليمان‏ عليه السلام متكئاً على عصاه وهو ميت ما شاء اللَّه‏ ) 3 .
ولعل النبي سليمان ‏عليه السلام ظلّ سنة كاملة على هذه الحالة ، والجن ينظرون إليه ، فحسب بعض السذج والبسطاء أن النبي‏ سليمان هو الإله ، لا من البشر الذي يتعب ، ولا يستطيع الوقوف كل هذه المدة ، إذ الإنسان بحاجة إلى الأكل والشرب‏والنوم ، في حين أن سليمان ‏عليه السلام ظل واقفاً لمدة عام كامل وهو مشرف على جيشه ومملكته ، فهو إله إذن!
وكان ذلك امتحاناً لرعاياه ، وعندما انتهى وقت الامتحان أمر اللَّه تقدست أسماؤه الأرضة أن تنخر منسأة النبي سليمان ، فانهارت هذه المنسأة ، وأنهار معها سليمان‏عليه السلام ، وخرّ إلى الأرض ، وحينئذ أدرك الجن أنهم كانوا على خطأ عظيم .
لقد استمرت هذه الحضارة لفترة طويلة حتى بعد وفاة صاحبها بعام ، ففي هذه السنة كان وصي سليمان‏عليه السلام ، آصف بن‏ برخيا هو الذي يقود المملكة ، ويدير شؤونها ، وقد استمرت هذه الحضارة بصورة طبيعية كما ابتدأت .

الحضارة التي دُمّرت‏

وفي المقابل ذكر القرآن الكريم قصة حضارة أخرى كانت على عكس الأولى تماماً ، ألا وهي حضارة ( سبأ ) التي كانت تمثل قبائل جنوب الجزيرة العربية في منطقة اليمن ، وقد استطاعت هذه الأمة أن تشيّد سد مأرب الذي ما تزال معالمه موجودة إلى الآن . ففي ذلك الوقت الذي يتحدث عنه القرآن الكريم والذي شُيّدت فيه الحضارة السبئية آتى اللَّه سبحانه العرب الحكمة ، فبنوا سدّاً في تلك المنطقة حفظوا فيه المياه ، ثم شقوا القنوات إلى مناطق شاسعة من‏بلادهم ، فغمرت بذلك الأرض واستصلحت ، حتى أن الرجل كان يكفيه أن يحمل سلّة فارغة ويمرّ تحت الأشجار المختلفة ثم يعود إلى بيته وقد امتلأت سلّته تلك بأنواع الفواكه دون أن يكلّف نفسه عناء قطفها!
واتسعت حضارة سبأ ، ولكن أصحابها كفروا بأنعم اللَّه ، فأباد عز وجل حضارتهم ، حيث سلّط على ذلك السد الفئران‏فهدمته ، فانطلق السيل العرم إلى المناطق الزراعية ، وأغرقها مع أهلها ، فهلك منهم من هلك ، ونجا منهم من هرب إلى‏شمال ووسط الجزيرة العربية .
وقد حدّثنا القرآن الكريم عن هذه الحضارة بقوله : ﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ 4.
فالقرآن يشير هنا بوضوح إلى أنهم لم يستحقوا العذاب والغرق والفناء إلا لأنهم أعرضوا وكفروا ، فكانت نهاية مأساوية لحضارة لو كانت شكرت أنعم ربها لدامت مئات السنين ، إلا أن الكفر هو الذي أدى إلى انقراضها وهي في‏أوج قوتها وعنفوانها .

التاريخ يعيد نفسه‏

والقرآن الكريم يضرب لنا هذه الأمثلة وغيرها ليبين لنا أن التاريخ يعيد نفسه دوماً ، لأنه ليس إلا تطبيقاً وتجسيداً لسنن‏اللَّه سبحانه في الأرض ، فهو عبارة عن تطبيقات للأنظمة والقوانين التي وضعها البارئ لهذا الكوكب ؛ فالقوانين لا يمكن‏أن تتبدل ، كقانون الجاذبية الذي كان ولا يزال يجذب الأشياء إلى الأرض ، كما أن الحر والبرد يمثلان حقائق وقوانين لم‏ تتغيّر منذ الأزل .
وهكذا الحال بالنسبة إلى قانون الحضارات ، فإنه هو الآخر ثابت لا يتغيّر ؛ فعندما يكفر الإنسان بربّه ، ولا يشكر أنعمه‏فإن حضارته لابد أن تنتهي وتزول شر زوال ، حتى لو كانت هذه الحضارة في عنفوان شبابها . أما إذا شكر الإنسان ربه ،فإن حضارته سوف تدوم وتستمرّ حتى ينقضي عمرها الطبيعي . فكما أن الإنسان يطول عمره إذا اتبع المناهج الصحية السليمة ومن ثم يموت موتاً طبيعياً ، وكما أن الإنسان الذي يرتكب الفواحش يصاب بالأمراض والشيخوخة المبكرة والانهيار العصبي وعشرات الأمراض الأخرى ، فإن نفس هذه القاعدة تنطبق على الحضارات أيضاً .
إن قانون الحضارات هو قانون يتكرّر ويتجسّد اليوم في واقع الأمة الإسلامية وفي كل مكان ، فنحن لو شكرنا اللَّه‏سبحانه وتعالى لدامت نعمه علينا كما يقول عز وجل : ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ 5. فهذا إعلان إلهي بأن الشكر يؤدّي إلى دوام النعمة ، بل وزيادتها .

الشكر و أسلوبه‏

والسؤال المطروح هنا هو : ما هو الشكر ، وكيف يكون ؟
الجواب : إن الشكر هو شكر كل نعمة من خلال الفيض بها على الآخرين ؛ فشكر نعمة المال يكون ببذله ، وشكر نعمة العلم بنشره ، وشكر نعمة الجاه باستغلاله في سبيل خدمة الآخرين ، وشكر نعمة الهدى يتجسّد في الاستقامة . . فلكل‏نعمة شكر يلائمها ، ولكننا عندما أحجمنا عن الشكر فإن حضارتنا انتهت ؛ فأصحاب المال بخلوا ، وأصحاب العلم‏جبنوا ، والعاملين تكاسلوا . . . وبالتالي فإن الجميع قد انهار ، وانهارت الحضارة بانهيارهم . والسبيل الوحيد لنهوضنا ، وإعادة أمجادنا السابقة ، والحصول على استقلالنا ، هو الاعتبار بما جرى للأمم السابقة التي كفرت بأنعم ربها وتنكّرت‏لها ، وغفلت عن ذكر اللَّه ، فكانت النتيجة أن انهارت حضاراتها ، وانقرضت ، وتحوّلت إلى خبر يذكر .
ومن أجل أن نحول دون تورّطنا في هذا المصير ؛ فإن علينا أن نؤدي فريضة الشكر إلى الخالق تعالى بالمعنى الذي ذكرناه‏سالفاً ، وأن نعرف قدر نعمه ، ولا يصيبنا البطر والطغيان والغرور ، لأن شكر النعمة موجب لدوامها وثباتها ؛ بل‏وزيادتها . وهذه سنة إلهية ثابتة لا يمكن أن تتغير ، ولن تجد لسنّة اللَّه تبديلاً 6 .