الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الحس الجمالي في الحضارة

لا ريب أن الحسّ الجمالي يشكّل جانباً مهمّاً من جوانب الحضارة ، وهذا الحسّ يتجلّى ـ أول ما يتجلّى ـ في الطهر و النقاء والنظافة ، ولكنّه يمتلك بالإضافة إلى ذلك أبعاداً أخرى .

إن في الإسلام تشجيعاً مستمرّاً ومتواصلاً على الجمال وما يؤدّي إليه ؛ وعلى سبيل المثال فإن من المستحب في الإسلام‏أن ينظر الإنسان إلى نفسه في المرآة لكي يهندم نفسه ، ويضفي مسحة من الجمال عليها ، كما أنّ من المكروه أن يهمل هذا الإنسان شعر رأسه ويتركه دون حلاقة إلا إذا تعهّده بالنظافة المستمرّ ، ومن المستحب أيضاً أن يمشّط الإنسان شعر رأسه ولحيته بشكل متواصل ، حتى أنه روي عن أبى بصير عن أبي عبد اللَّه ( الإمام جعفر الصادق‏عليه السلام‏ ) ، قال : سألته عن قوله تعالى : ﴿ ... خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ... 1قال : ( هو المشط عند كل‏صلاة فريضة ونافلة ) 2 .

الجمال من سمات الحضارة ؟

إن علينا أن نسأل أنفسنا في هذا المجال : ترى لماذا هذا التأكيد المستمر والمتواصل على يكون الإنسان ذا مظهر حسن‏وجميل ، ولماذا هذه المجموعة الكبيرة من التعاليم الإسلامية حول النظافة والأمور الجمالية . ؟
الجواب على ذلك : لأن تلك التعاليم هي من سمات الحضارة التي هي تكامل في وعي الإنسان ، وفي نفسه . ومن المعلوم‏أن من الأبعاد الحقيقية لوعي الإنسان هو الحس الجمالي ، فالإنسان المتكامل هو الذي يتحسّس ويتذوّق ، وهو الذي‏يبحث عن الجمال ويتلذّذ به .
وفي هذا المجال يقول تبارك وتعالى : ﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ 1. وهذه الآية تعني أن على الإنسان المسلم أن يكون متزيناً بأفضل الثياب ،وأن يكون في حالة عالية من الطهر والجمال عندما يريد أن يدخل المسجد لأداء الصلاة .
وبالإضافة إلى ذلك ؛ فإن من المستحب في الإسلام التطيّب ، لأن الطيب يمثل جانباً من الحسّ الجمالي لدى الإنسان إلى‏درجة أن رسول اللَّه‏صلى الله عليه وآله وسلم قال في حديثه المعروف : ( أحب من دنياكم ثلاثاً ؛ الطيب ، والنساء ، وقرّة عيني‏الصلاة ) 3 . ملخّصاً جميع أبعاد الجمال النفسي والروحي في هذه الكلمة القصيرة .
من هنا يجب تنمية الحس الجمالي في أنفسنا ، وفي وعينا ، وأن نكون ممن قال عنهم الإمام علي‏عليه السلام : ( إنّ اللَّه عزّ و جلّ جميل يحبّ الجمال‏ ) 4 ، وأن نعمّم الجمال على جميع جوانب حياتنا ؛ فتكون بيوتنا جميلة ، وكذلك الحال‏بالنسبة إلى مساجدنا ، وثيابنا ، ووجوهنا ، والمدينة التي نعيش فيها . . . وبالتالي يجب أن يكون لدينا الحسّ الجمالي ،والبحث الدائم عن الجمال ، لأننا عندما نزرع الجمال في كلّ بقعة من بقاع بيوتنا أو مدينتنا ، فإنّ قلوبنا ـ أيضاً ـ ستكون‏جميلة ، وحينئذ سنعرف معنى الصدق والوفاء وحبّ الآخرين ، لانّ قلوبنا ستتألق ـ في هذه الحالة ـ بالجمال ، فقد تربّت‏ونمت ، وتكاملت من قبل بالجمال .

جمال الكلمة و التعبير

والجمال قد يتجسّد في جانب آخر غير الطهر والنظافة ، هو جانب الكلمة . فعندما تجد أمامك مجموعة من المفردات ،فحاول أن تبحث عن أفضلها ، وأروعها ، وأكثرها تأثيراً من الناحية الجماليّة في الطرف الآخر ، وأن تحترز من اختيار الكلمات النابية الثقيلة على السمع ، بل عليك أن تختار الكلمات الجميلة الحسنة الوقع على الآذان والنفوس ، كما يقول عزّمن قائل : ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ ... 5. أي إنّ على‏الإنسان أن يبحث دوماً عن الأحسن لا الأفضل ، فحتّى لو كانت هناك كلمتان أحدهما حسنة والأخرى أحسن ، فإنّ‏علينا أن نختار الثانية على الأولى .
إنّ هذا الإحساس الجمالي ينمّي في ذاتنا روح الجمال ؛ فالكلمة الطيّبة والخلق الحسن هما انعكاس لجمال الروح ، وجمال‏الروح يفرزه الجمال الظاهري . فعندما يكون الإنسان في جو مشبع بالطهارة والنظافة والجمال ، فإن روحه ستكون أيضاً جميلة ، كما إن أخلاقه التي هي انعكاس لروحه التي تكون هي الأخرى ذات أخلاق جذابة وجميلة ، ولذلك يقول رسول‏اللَّه‏صلى الله عليه وآله وسلم : ( اطلبوا الخير عند حسان الوجوه‏ ) 6 . لأن ذوي الوجوه الحسنة هم ـ عادة ـ أبناء النعمة والجمال ، وبناء على ذلك ، فإن الخير منهم مأمول ، والشر مأمون .

القرآن آية الجمال الكبرى‏

وفي الآيات القرآنية هناك الكثير من المفردات والأساليب الجمالية ، التي لا أريد أن أتوسّع فيها كثيراً ، ولكنني اكتفي‏بالإشارة إلى أن البيان القرآني مبني أساساً على جمال التعبير ، والتصوير إلى درجة أنه يقع في أعلى مستويات الحسن‏والجمال . وهذه الظاهرة دليل على أننا كجيل قرآني ، وكأناس نتبع القرآن يجب أن نختار في أحاديثنا مثل تلك الكلمات ‏و التعابير الرائعة والجذابة التي من شأنها أن تزيد الطرف الآخر بهاءً وإشراقاً ، بل أكاد أن أقول : إن المفترض فينا أن‏نحاول تعويد ألسنتنا على الطريقة الجميلة في أداء الألفاظ .
فإذا كان الواحد منا ذا أدب رفيع ، ومستعملاً للكلمات الجميلة الطيبة ، حارصاً على أن يختارها اختياراً سواء في بيته أو مع الذين يتعامل معهم في المجتمع ، فإنه سرعان ما سيتعود على تلك الأساليب والتعبيرات الجميلة حتى تكون منسجمة مع عاداته وسلوكياته . وكذلك الحال عندما يريد الواحد منّا أن يؤلف كتاباً ، فإن هذا الكتاب سوف يعكس هو الآخر روحه الجمالية ، والأدب الرفيع الذي يتحلى به .
أما إذا أراد الإنسان أن يقسّم ويوّزع شخصيته ؛ كأن يتكلم فوق المنبر بطريقة ، وحين الكتابة بطريقة أخرى ، ويتكلم‏مع أهله بأسلوب ، ومع أصدقائه وزملائه بأسلوب آخر ، فإن كلامه سوف يتحول إلى تكلّف وتعسّف حتى في التعبير و في كيفية أداء الألفاظ .
وبكلمة ؛ لكي نتمتع بحضارة سامية ، لا بد لنا من أن نتحلى بالحس الجمالي في كل مجالات ؛ الشخصية والاجتماعية 7 .

  • 1. a. b. القران الكريم: سورة الأعراف (7)، الآية: 31، الصفحة: 154.
  • 2. بحار الأنوار : ‏81 / ‏329 .
  • 3. بحار الأنوار : ‏73 / ‏141 .
  • 4. بحار الأنوار : ‏10 / ‏92 .
  • 5. القران الكريم: سورة الإسراء (17)، الآية: 53، الصفحة: 287.
  • 6. بحار الأنوار : ‏67 / ‏9 .
  • 7. كتاب : الحضارة الإسلامية ، آفاق و تطلعات ، الفصل الثاني : في السلوك الحضاري .