Total votes: 58
Posted: 7 years ago
القراءات: 8561

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

وقت الفراغ: رؤية دينية

ان استغراق الانسان لوقته في عمل واحد، قد ينتج عنه الملل والسأم، لذلك تنصح التشريعات الدينية بأن يقسم الانسان وقته على وظائفه ومهامه المختلفة، لتنمية شخصيته في مختلف الأبعاد، وتلافيا للتعب والملل. فيكون وقت الفراغ من عمل، فرصة للانتقال الى عمل من نوع آخر. وحتى في العبادة المستحبة، لا ينصح الدين بالاستغراق فيها الى حد فقدان الرغبة والنشاط، ورد في صحيحي البخاري ومسلم عن عائشة عن النبي أنه قال: «يا أيها الناس عليكم من الأعمال ما تطيقون. فإن الله لا يمل حتى تملوا. وان أحب الأعمال الى الله ما دووم عليه وان قل».
إن ما يعيشه الإنسان من عمر في هذه الحياة يبدو قصيرا، قياسا الى عمر الزمن، وإلى آمال الانسان، ورغبته في الخلود، وهذا ما تعبر عنه آيات عديدة في القرآن الكريم، تحكي عما يدور في نفس الإنسان تجاه الحياة بعد مغادرتها. يقول تعالى: ﴿ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ 1. ويقول تعالى:﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ ... 2.
ويحكى عن شيخ المرسلين نوح : أنه جاءه ملك الموت ليتوفاه بعد أكثر من ألف سنة عاشها قبل الطوفان وبعده "في قول"، فسأله: يا أطول الأنبياء عمرا، كيف وجدت الدنيا؟ فقال: «كدار لها بابان، دخلت من أحدهما، وخرجت من الآخر».
إن ما يخسره الإنسان من ماله وسائر ممتلكاته ومكاسبه يمكن تعويضه، والتوفر على بدائله، لكن الوقت هو الشيء الذي لا يعوض ما فات منه، ولا يمكن تداركه، فكل لحظة تمضي لا تعود،، وكل يوم ينقضي لا يرجع. فهو رصيد محدود، ورأس مال نادر، بل هو رأس المال الحقيقي للإنسان، فلابد من الحفاظ عليه، والاستفادة منه بأعلى حد ممكن.
وفي الحقيقة فإن الوقت هو الحياة يقول علي ابن أبي طالب: «إنما أنت عدد أيام، فكل يوم يمضي عليك يمضي ببعضك».
وقال الشاعر:
كل يوم يمر يأخذ بعضي  *** يورث القلب حسرة ثم يمضي
وقال شاعر آخر:
إنا لنفرح بالأيام نقطعها *** وكل يوم مضى جزء من العمر
وتنبيها للإنسان على أهمية الزمن يقسم الله تعالى في القرآن الكريم بالعديد من الفواصل والمحطات الزمنية، كما في الآيات التالية:

  • ﴿ ... وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ 3
  • ﴿ ... وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ 4
  • ﴿ ... وَالضُّحَىٰ * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ 5
  • ﴿ ... وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ 6

هذه النصوص والتعاليم تربي الإنسان على احترام الوقت والاهتمام باستغلاله، وأن يتصرف فيه بمسؤولية وتقدير، ليستطيع تحقيق أكبر قدر من الإنجازات والمكاسب.
فهو مسؤول أمام الله تعالى عن تعامله مع أوقات حياته، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي قال: «لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه...» رواه البزار والطبراني بإسناد صحيح.
وكما يهتم الإنسان باحترام وقته واستثماره، عليه أن يحترم أوقات الآخرين، فلا يكون سببا في تضييعها وإهدارها بعدم الالتزام في المواعيد، والزيارة في الأوقات غير المناسبة لهم، وإطالة اللقاء والحديث دون فائدة أو غرض.
إن احترام الوقت هو أحد أهم مقاييس التقدم للأفراد والمجتمعات.

تنوع المهام والأبعاد

وهذه هي الزاوية الثانية من الرؤية الدينية لوقت الفراغ، فالإنسان كائن مميز، لشخصيته أبعاد مختلفة، فهو مادة وروح، نفس وجسد، وهو مواطن في عالمين: الدنيا والآخرة، له مصالحه الفردية وارتباطاته الاجتماعية، يتمتع بقدرات ذهنية عقلية وقوى عضلية بدنية..
هذه الأبعاد المختلفة لشخصيته تجعله متنوع الأدوار والمهام، بسبب تنوع قدراته وطاقاته، وإذا ما حصر الإنسان نفسه ضمن بعد واحد، فإنه يئد ويكبت سائر الجوانب والأبعاد.
كما أن استغراق الإنسان لوقته في عمل واحد، قد ينتج عنه الملل والسأم، لذلك تنصح التشريعات الدينية بأن يقسم الإنسان وقته على وظائفه ومهامه المختلفة، لتنمية شخصيته في مختلف الأبعاد، وتلافيا للتعب والملل.
فيكون وقت الفراغ من عمل، فرصة للانتقال إلى عمل من نوع آخر.
وحتى في العبادة المستحبة، لا ينصح الدين بالاستغراق فيها الى حد فقدان الرغبة والنشاط، ورد في صحيحي البخاري ومسلم عن عائشة عن النبي أنه قال: «يا أيها الناس عليكم من الأعمال ما تطيقون. فإن الله لا يمل حتى تملوا. وان أحب الأعمال الى الله ما دووم عليه وان قل» وفي حديث آخر عن أنس عنه : «ليصل أحدكم نشاطه، فإذا كسل أو فتر قعد».
وروي عن أحد العلماء الاجلاء أنه قال: (اجتهدوا في أن يكون زمانكم أربع ساعات: ساعة لمناجاة الله، وساعة لأمر المعاش، وساعة لمعاشرة الإخوان والثقات، وساعة تخلون فيها للذاتكم في غير محرم، وبهذه الساعة تقدرون على الثلاث ساعات).
من خلال هذه الرؤية تصبح العطل والإجازات من الدراسة والعمل، فرصة لتنمية أبعاد أخرى في شخصية الإنسان، وللقيام بأدوار ومهام في ميادين وحقول ثانية.
إن الله تعالى يخاطب نبيه محمدا بقوله:﴿ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَارْغَبْ 7أي إذا فرغت من مهمة ودور، فانتصب لمهمة أخرى، ودور آخر.
إن لكل جهة في حياة الإنسان حقوقا ومستلزمات، فلا يصح أن يستهلك جهده في جهة واحدة على حساب بقية الجهات، روي عن النبي أنه قال: «إن لبدنك عليك حقا، وإن لاهلك عليك حقا، وإن لزورك عليك حقا».

مشروعية الترويح

أما الزاوية الثالثة فهي ما تشير إليه النصوص والتشريعات الدينية، مشروعية الترويح عن النفس، وممارسة بعض البرامج الترفيهية.
تجاه وقت الفراغ، وطريقة التعامل معه، نجد أمامنا ثلاثة اتجاهات: يتمثل الأول في النظرة الجادة للوقت، ورفض التفريط بأي ساعة من ساعاته خارج إطار العمل، وتحمل الالتزامات والمسؤوليات. ولعلنا نجد في حماس اليابانيين للعمل، وعدم رغبتهم للتعطيل، والاستفادة من الاجازات، نموذجا لهذا الاتجاه، حتى أن نسبة من الوفيات لديهم تحصل بسبب إرهاق العمل، ذكر (ميشيل البير) في كتابه (الرسمالية ضد الرأسمالية): أن 10% من الذكور البالغين الذين يموتون في اليابان كل عام، يقتلون أنفسهم بكثرة العمل، ويحصل اليابانيون على أسبوع واحد اجازة في السنة، واقترحت الحكومة اليابانية تخفيض ساعات العمل من 44 ساعة الى 42 ساعة أسبوعيا، ولكن الأكثرية من الشعب تخالف هذا الاقتراح.
أما الاتجاه الثاني فعلى العكس من ذلك، حيث ينظر الى الفراغ والتحلل من واجبات العمل، كهدف وطموح، ويتعاطى مع الالتزامات العملية، كحالة اضطرارية قسرية، يبحث عن أي فرصة للتهرب منها.
والتقارير التي تتحدث عن ضعف مستوى الانتاجية لدى شعوب الدول النامية، مؤشر على شيوع هذا الاتجاه فيها.
إن بعض العمال والموظفين يختلق المبررات لأخذ الإجازة للتغيب عن العمل، ويأتي متأخرا عن وقت الدوام، ويخرج قبل انتهائه، وأثناء وقت العمل، يصرف وقتا كثيرا في قضاياه الشخصية، من شرب الشاي، أو محادثة الزملاء، أو التكلم تليفونيا، وما أشبه ذلك من الظواهر المؤسفة الشائعة، والتي بسببها يتدنى الإنتاج، ويتأخر إنجاز الأعمال.
والاتجاه الثالث يتبنى نظرة تكاملية تعتبر الفراغ وجها آخر لعملة العمل، فهما جانبان متفاعلان يثري كل منهما الآخر.
ففي وقت الفراغ، يمارس الإنسان بعض برامج الترويح والترفيه عن النفس، بهدف تجديد النشاط، واراحة الأعصاب، وتنفيس ضغوط العمل وصعوباته.
ونجد في التشريعات الدينية اقرارا لمشروعية الترويح والترفيه عن النفس. فقد روي عن النبي قوله: (روحوا القلوب ساعة بعد ساعة، فإن القلوب إذا كلت عميت).
وعن علي بن أبي طالب : «إن هذه القلوب تمل كما تمل الأبدان فابتغوا لها طرائف الحكم».
والقرآن الكريم يوجهنا الى التأمل في الطبيعة، والاستمتاع بجمالها، والتفكر في عظمة الخالق المبدع..
كما وردت نصوص دينية كثيرة في التشجيع على الأسفار والرحلات، وتجيز الفكاهة والمزاح المناسب، وتحث على الرياضة، من سباحة وركوب خيل، وسباق وغير ذلك.
لقد أصبح واضحا في المجتمعات الحديثة تأثير وقت الفراغ في مستوى العمل، فازداد الاهتمام ضمن العمل بساعات الترفيه وفترات الراحة والإجازات، من أجل أن يتمتع العامل بوقت فراغه، بصورة تنعكس إيجابيا على أدائه للعمل.
إن برامج الترويح عن النفس مصدر حيوية ونشاط، ودافعية للإنجاز، فساعة الترويح عن النفس، تجدد نشاط الإنسان وقدرته على أداء مهامه وواجباته، في الأبعاد المختلفة8.