حقول مرتبطة:
الكلمات الرئيسية:
الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
في مفهوم المثقف الديني
في عام 2000م، أصدرت من بيروت كتابا بعنوان (محنة المثقف الديني مع العصر)، حاولت فيه أن ألفت النظر لمفهوم المثقف الديني، وتحريك هذا المفهوم إلى مجال التداول الفكري والثقافي. في سعي نحو الاقتراب من هذا المفهوم، وإعطائه فرصة النظر والتأمل فيه، لتكوين المعرفة بطبيعته ومكوناته وملامحه. خصوصاً بعد ما تعرضت صورة المثقف إلى نقد واهتزاز وتشكيك كادت تطيح به. وهناك من أطاح به فعلاً كعلي حرب في كتابه (أوهام النخبة أو نقد المثقف) الذي أظهر المثقف على أنه بائع للأوهام والسراب، وظل يلاحقه بأوصاف الفشل والعجز والإحباط. ومن يطلع على هذا الكتاب ما عليه إلا أن يتخلى عن تسمية المثقف، ويتبرأ من الانتساب إلى دائرة هؤلاء، من شدة وقسوة ذلك النقد. وهناك من أخرج مفهوم المثقف عن دائرة الانتماء إلى الفضاء الثقافي العربي، والمرجعية الثقافية الإسلامية، واعتبره مفهوماً غريباً علينا. وهذا ما ذهب إليه محمد عابد الجابري في كتابه (المثقفون في الحضارة العربية) حيث يرى أن مفهوم المثقف رغم رواجه الواسع إلا أنه لا يشير إلى شيء محدد، ولا يحيل إلى نموذج معين، ولا يرتبط بمرجعية واضحة في الثقافة العربية، الماضية والحاضرة، ويفتقد إلى التبيئة الصحيحة داخل الثقافة العربية الإسلامية. إلى جانب العديد من المحاولات النقدية الأخرى. وفي ذلك الوقت لم يكن مفهوم المثقف الديني قد دخل حيز المجال التداولي على النطاق الواسع، ومازال هو خارج هذا التداول، لكنه بات متاخماً له.
والمثقف الديني مفهوم ينطلق من ثلاث خلفيات متماسكة ومتشابكة. من خلفية أن الدين يمثل مرجعية فكرية وتشريعية وأخلاقية ينطلق منها المثقف، وينتظم فيها، ويتحاكم إليها. والمرجعية إنما تتشكل على أساس العلم والمعرفة الواسعة والعميقة، وبدون هذه المعرفة، وبهذا المستوى لا يتحول الدين إلى مرجعية عند المثقف، كما أن الدين لا يمنع الإنسان في أن يكون مثقفا. ومن خلفية إن الثقافة لا تتصادم مع الدين، وبالتالي لا ينبغي التخلي عن أحدهما كشرط للتمسك بالعنصر الآخر. وقد توحدت العلاقة بين الثقافة والدين مع أول آية نزلت من القرآن الكريم، وهي آية ﴿ ... اقْرَأْ ... ﴾ 1التي ترمز إلى العلم والمعرفة والثقافة، وتتسع باتساع الخلق﴿ ... اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ 1. والقرآن الكريم الذي يحرض على النظر في سيرة السابقين، ويجعل من الحكمة ضالة المؤمن، فهذا يعني أن الدين ليس بديلاً عن الثقافة، لأنه لا يلغي التراث الإنساني، ويعترف بدور العقل، كما أن الثقافة ليست بديلاً عن الدين. والخلفية الثالثة، هي أن الدين لديه القدرة على مواكبة العصر، والتواصل مع حركة العلوم والمعارف، والاستجابة لمتطلبات المدنية والتقدم، وهذا يعني أن الدين لا يحجب عن المثقف مواكبة العصر، أو التواصل مع حركة العلوم والمعارف.
ومن بعد آخر فإن مفهوم المثقف الديني يتضمن دعوة إيجابية إلى من ينتمون للدين، ومن ينتمون إلى الثقافة، فمن ينتمون إلى الدين والمتمثلون في رجال أو علماء الدين، فإن هذا المفهوم يدعوهم إلى الخروج عن الإنغلاقات الثقافية، والانفتاح والتواصل مع العلوم والمعارف الحديثة والمعاصرة. ومن ينتمون إلى الثقافة والمتمثلون في المثقفين ورجال الفكر، فإن هذا المفهوم يدعوهم إلى الخروج عن الإنغلاقات الدينية، والانفتاح والتواصل مع العلوم والمعارف الدينية. والعمل على بناء نموذج يكون فيه المثقف دينيا، والديني مثقفا. وهذا ما نحتاج إليه فعلياً، وغياب مثل هذا النموذج هو الذي يعبر عن أزمتنا الثقافية الراهنة.
يضاف إلى ذلك أن هذا المفهوم جاء في مرحلة لكي يعلن عن حضور المثقف الديني في حياتنا الفكرية والثقافية، فقد كان تعبيراً عن انخراط شريحة من المثقفين الدينيين اللامعين، الذين ساهموا بتقديم أعمال وكتابات لافتة وخلاقة.
لكن الذي وجدته منذ أن طرحت هذا المفهوم هو أن بعض المثقفين يتحرجون من التعامل مع مفهوم المثقف الديني. ولعل منشأ هذا الحرج من أمرين، الأول الحرج من التعامل مع الدين بصفة عامة، إما بسبب عدم امتلاك المعرفة الدينية، وإما لغياب المعرفة الدينية عن مجال الثقافة. والثاني أن هذا الاقتران ليس مألوفاً ولعله ليس مرغوباً فيه أيضاً. وهذا هو محل الكلام2.