الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

هل العولمة تستحق كل هذا النقاش؟

لم يحصل في تاريخ الفكر الإنساني القديم والحديث، هذا المستوى الكمي المتصاعد والمتراكم بسرعة مدهشة، كالذي نراه يحصل اليوم مع فكرة العولمة. ولاحقاً سوف يسجل المؤرخون الاجتماعيون والاقتصاديون، وفي الميادين الأخرى أيضاً، أن فكرة العولمة هي من أكثر الأفكار والقضايا التي استحوذت على أوسع اهتمام، وبالشكل الذي يفوق وبدون أي قياس الاهتمام بأي فكرة أو قضية أخرى تقريباً. فالعولمة هي الفكرة التي يشتغل عليها في زمن واحد العالم برمته، بكل ثقافاته وأديانه وقومياته وجغرافياته، يختلفون عليها، وينقسمون حولها، ويتصادمون بشأنها أيضاً.
والمدهش في هذه الفكرة أنها عبرت بسرعة من خطاب النخبة والطبقة العالمة إلى خطاب الشارع وعموم الناس، وتحولت إلى فكرة شعبية يتساءل عنها الناس بمختلف شرائحهم الاجتماعية، ويحاولون التعرف عليها بأي صورة مبسطة كانت، وبالنمط الذي لم يحدث من قبل مع أي فكرة أخرى، من الأفكار التي اتصفت بالتعقيد والتشابك، أو التي ينشغل بها في العادة شرائح معينة من أهل العلم وأهل الاختصاص. فالناس اليوم يتحدثون عن العولمة كما لو أنها تنتمي إلى قاموس كلماتهم اليومية، حيث دخلت بقوة إلى مجل التداول اللغوي الجماهيري.
ومعظم الذين كتبوا عن العولمة أشاروا وباندهاش إلى مثل هذه الملاحظة، وتوقفوا عندها لشدة وضوحها. فكلمة العولمة التي لم يكن لها مكان، تحولت كما يقول رئيس كلية لندن للاقتصاد والسياسة، والمنظر لأطروحة الطريق الثالث في أوروبا، أنطوني جيدنز إلى كلمة على كل لسان، فلا يكتمل خطاب سياسي، أو دليل لرجال الأعمال إلا بالإشارة إلى هذه الكلمة. وأدى الاستخدام الواسع للكلمة إلى جدل عميق في الدوائر الأكاديمية، وقد أضحت قدراً ومحورا لمعظم المناقشات السياسية والمناظرات الاقتصادية في السنوات الأخيرة. رغم أن هذه الكلمة كما يضيف جيدنز في كتاب آخر له، وحتى ثمانينات القرن العشرين، تكاد لا توجد في الكتابات الأكاديمية، أو في اللغة اليومية. لقد أتت من حيث لا نعلم لتصبح أمامنا أينما التفتنا.
ولعل هذا النقاش الواسع، والعابر بين الأمم والمجتمعات حول العولمة، بعلم أو بدون علم، هو من صور الانخراط في العولمة، ومن مظاهر قوتها أو سحرها حين استطاعت أن تفرض على الجميع هذا المستوى من التداول والنقاش الذي لم ينقطع أو يتوقف. وحين اقتحمت العولمة علينا حياتنا بدون استئذان، وفرضت علينا وجوداً يكاد أن يكون قسرياً، بحيث لا يمكن تجاهله أو التنكر له، أو القفز عليه. الأمر الذي يفسر انخراط حتى المعارضين والمناهضين للعولمة في النقاش والسجال الدائر حولها.
ولعل الحذر في مثل هذا الكلام، أن يكون هو أيضاً من الانطباعات الخفية للعولمة، ومن تأثيراتها علينا حين نصورها بهذا الشكل الذي لا يخلو من مبالغة. مع ذلك فكل ما في العولمة يحرض على النقاش، وحسب رأي جيدنز أن هناك ثمة خلاف على معظم جوانب العولمة.
فهل كانت العولمة بحاجة حقاً إلى كل هذا النقاش؟ وهل استنفذ هذا النقاش طاقته وقيمته ولم يعد له من طائل؟ وهل بقي أحد من الكتاب لم يكتب عن العولمة؟ أو لم يأت على ذكرها؟ ولا أدري إذا كنا قد وصلنا إلى درجة الملل من الكتابة عن العولمة أو الحديث عنها؟ وهل ما زالت هذه الكتابات تلفت الانتباه فعلاً؟ أم أننا وصلنا لدرجة الإسراف والإفراط ولم يعد هناك من جدوى أو إغراء للحديث عنها؟1

  • 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الأربعاء / 3 مايو 2006م، العدد 14494.