حقول مرتبطة:
الكلمات الرئيسية:
الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
مفهوم القطيعة المعرفية في المجال العربي
لعل أكثر من عرف بمفهوم القطيعة المعرفية في المجال العربي، هو الدكتور محمد عابد الجابري الذي لا يخفي أخذه هذا المفهوم من المفكر الفرنسي غاستون باشلار، ونقله من مجال تاريخ العلم إلى مجال تاريخ الفلسفة، وتحديداً تاريخ الفلسفة العربية الإسلامية، وإعطائه بعداً أوسع من البعد الذي كان يعطى له في المجال العلمي من جهة المعنى.
وأشار الدكتور الجابري لهذا المفهوم، وعرف به في كتابه (نحن والتراث) الصادر سنة 1980م، وذلك في محاولة منه لتطبيقه في قراءة التراث الفلسفي العربي الإسلامي، بقصد تكوين قراءة معاصرة لهذا التراث، منطلقاً من خلفية أساسية يقررها بقوله (إن تجديد العقل العربي يعني في المنظور الذي نتحدث فيه، إحداث قطيعة ايبستيمولوجية تامة مع بنية العقل العربي في عصر الانحطاط، وامتداداتها إلى الفكر العربي الحديث والمعاصر).
وارتبطت قراءة الجابري للتراث بهذا المفهوم الذي تمسك به، وانجذب إليه، وظل مدافعاً ومنافحا عنه أمام منتقديه، وبات يشكل مدخلاً في تكوين المعرفة بهذه القراءة، وفيصلاً للتفرقة مع القراءات الأخرى، بحيث لا يمكن تكوين المعرفة بهذه القراءة بعيداً عن هذا المفهوم، كما لا يمكن نقدها أيضاً خارج نطاق هذا المفهوم.
وحسب رؤية الجابري فإن القطيعة مع التراث لا تعني القطيعة بمعناها اللغوي الدارج، وإنما تعني في نظره التخلي عن الفهم التراثي للتراث، أي التحرر من الرواسب التراثية في عملية فهم التراث.
وبمعنى آخر أن القطيعة التي يدعو إليها الجابري ليست قطيعة مع التراث، بل قطيعة مع نوع من العلاقة مع التراث، القطيعة التي تحولنا حسب قوله من كائنات تراثية، إلى كائنات لها تراث.
وظهر الجانب التطبيقي لهذا المفهوم حين درس الجابري العلاقة بين ابن رشد وابن سينا في داخل الفلسفة الإسلامية، متخذاً من محاولة الفيلسوف الفرنسي ألتوسير في تطبيق هذا المفهوم على العلاقة بين ماركس وهيغل في داخل الفلسفة الأوروبية الحديثة نموذجاً.
في هذا الدرس وجد الجابري أن ابن رشد لا يمثل تكملة لابن سينا، ولا استمرارا له، بل هو ثورة عليه، ويسمي هذه الثورة قطيعة من ناحية النقد الايبستيمولوجي لتاريخ الفلسفة، أي أن ابن رشد قطع مع ابن سينا الذي كان يمثل قمة الفلسفة في المشرق، بحيث لا يمكن العودة من ابن رشد إلى ابن سينا أو الفارابي، مثلما يمكن العودة من الملا صدرا الشيرازي إلى السهروردي مباشرة ثم إلى ابن سينا فالفارابي.
وعلى هذا الأساس يعتقد الجابري أن الفلسفة في الأندلس، وخلافاً لما كان جارياً ليست استمراراً للفلسفة في المشرق، وتبين له حسب قوله أنه قد نشأت في الأندلس مدرسة تختلف تماماً عن المدرسة الفلسفية في المشرق، لا من جهة المضمون الفلسفي والمضمون الأيديولوجي اللذان يختلفان على كل حال من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان، ولكن من جهة المنهج والرؤية والإشكالية.
هذا التصور أثار ردة فعل سلبية في المشرق العربي، واعتبره البعض أنه كرس ضرباً من القطيعة بين المغرب والمشرق، وأظهر تحيزاً واضحاً إلى جانب المغرب في مقابل المشرق، وكأنه جاء ليضع حداً لما يقال عن تبعية المغرب إلى المشرق، وليعيد الاعتبار إلى المغرب، بل ويعلن عن تميزه وتفوقه أيضاً، بوصفه يمثل مشروعاً ثقافياً ذا طابع عقلاني، في مقابل مشروع ثقافي مشرقي ذي طابع غنوصي غير عقلاني.
الكلام الذي دفع البعض لتصوير هذا الموقف بأنه ضرب من الشوفينية المغربية، الأمر الذي يفسر شدة الحنق والانفعال من ذلك الكلام.
الموقف الذي استغربه الجابري واندهش منه، واضطره على أن يوضح هذه المسألة من جديد في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه (نحن والتراث) الصادرة سنة 1981م، لكنه التوضيح الذي أعاد فيه الجابري ما سبق أن ذكره من قبل، وأكد عليه، فجاء توضيحه دفاعياً في المنحى العام.
في هذا التوضيح أشار الجابري إلى أنه استعمل مفهوم القطيعة المعرفية بطريقة إجرائية لا غير، ساعدته كما يقول في تكوين إدراك أعمق لخصوصية فكر المشرق، وخصوصية فكر المغرب، ومكنته من ملاحظة أشياء لم يكن يلحظها من قبل.
وأراد الجابري من هذه الملاحظة التأكيد على أمر مزدوج، على تفريغ قراءته للتراث من الطابع الأيديولوجي، وإعطائها الطابع المعرفي من جهة، وعلى إلباس الطابع الأيديولوجي لموقف الناقدين له من جهة أخرى.
بمعنى أن الجابري أراد القول أن المشكلة ليست مشكلته الذي لم يكن أيديولوجياً في قراءته، وإنما هي مشكلة النقاد الذين نظروا إلى كلامه من زاوية أيديولوجية، وأهملوا الجانب الإجرائي.
ومن جانب آخر، وفي سياق الرد والتوضيح يرى الجابري أنه استعمل مفهوم القطيعة المعرفية لكي يتجنب استعمال مفهوم الخصوصية لأنهما يختلفان تماماً، فالخصوصية في نظره تحيل إلى الشروط الاجتماعية والتاريخية ومن ضمنها الخصائص القومية، في حين أن مفهوم القطيعة الايبستيمولوجية يجعل التحرك داخل نفس الثقافة وبعيداً عن الاعتبارات القومية. وبالتالي فلا معنى في رأيه للتخوف من انزلاق هذا المفهوم إلى تكريس نزعة شوفينية، لأن إجرائية هذا المفهوم ينحصر مفعولها في الميدان الايبستيمولوجي المحض، ولا يتعداه إلى غيره.
فهل كانت من حسنات استعمال هذا المفهوم إثارة كل هذا النقاش حسب قول الجابري نفسه، قد تكون هذه من حسناته، لكن لو كان النقاش بطريقة مختلفة!1
- 1. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة عكاظ ـ الخميس / 3 سبتمبر 2009م، العدد 15713.