الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

أنا البريء وأنت المتهم

كنت أقرأ خبرا عن شخص كان يتسوق في مركز كبير ومزدحم، وفجأة اصطدم قفاه بشخص آخر فالتفت إليه مسرعا واعتذر منه، لكنه توقف وأعاد نظره إلى ما اصطدم به، ليكتشف أنه اصطدم بمرآة كبيرة ملصقة بالحائط، فأخذ يضحك بصوت عال ليأتي إليه أحد العاملين بالمركز ويسأله إن كان بخير وعلى ما يرام، فأجابه: أنا على أحسن حال، وأنا في حالة من السرور لا توصف، فلأول مرة أعتذر من نفسي، وأصارحها بخطئي.
في العمل يقول رب العمل للموظف: أنت من قصر، وأنت من أخطأ وأنت من تلكأ ومن فشل، ولست أنا، والموظف يحمّل كل الفشل للمسؤول الذي قصر في المتابعة ورسم الخطط وملاحقة التفاصيل كما يعتقد.
وفي المنزل يقولها الأب لأبنائه حين يصطدم معهم أو يتشاجرون معه، ويقولها الأبناء لآبائهم، ويقولها الزوج لزوجته حين يفقد السيطرة على أولاده، أو حين يحصل اضطراب في وظائفهم المنزلية، ولا تتأخر الزوجة عن رد التهمة إلى نفس المصدر.

القليل منا من يقف مع نفسه كفرد وكمجموع ليسألها بصفاء فيما له وما عليه، وهو الأمر الذي توجهنا له شريعتنا الغراء بأن نحاسب أنفسنا في كل ليلة فإن عملنا خيرا استزدنا منه، وإن عملنا سوءا استغفرنا الله منه.

والأمر سيان في كل تجمع أو مجتمع أو دولة، فكل يرمي الخطأ والتقصير على الآخر، وكأن الكمال في جهة والنقص والتقصير كله في الجهة المقابلة.
وأما نحن الناس مع بعضنا فلسان حالنا يميل لشيطنة الآخر وإلصاق الأخطاء به مع ميل كبير للاعتداد بالنفس وتنزيهها عن كل نقص أو تفريط أو تقصير.
كل ابن آدم خطاء... إلى آخر، هذا الحديث المروي عن سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم هو حديث للقراءة والإعجاب والتسلي بمكارم الأخلاق. أما في الواقع فكل واحد منا يقول: أنا هنا في هذا الموضوع وفي هذا التصرف وفي هذا الموقع لم أخطئ.
لست أدري كيف يعود الواحد منا بذاكرته لأيام شبابه فيكتشف أخطاءه، ويرجع إلى تعامله مع زوجته وأولاده قبل سنوات قريبة فيبصر بعض هفواته ويستغرب منها لأنها جبال كبيرة، ويسلط بعض الضوء على حياته فيرى حفرا ومطبات قد انزلق إليها وسقط في بعضها، ثم إذا استوى وعاد إلى لحظته اعتقد أنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
تبرئة النفس وشيطنة الآخر وإلصاق الأخطاء به وحده هو أمر مريب، لأنه يكشف نفسا مريضة مغرورة عمياء تائهة، والمجتمعات المصابة بهذه النفس لا تتقدم أبدا، لأنها لا تعترف بأخطائها وإخفاقاتها ومن ثم تتعاون للإصلاح والعلاج، بل تعيش دوامة التلاوم ومتاهة التقاذف للأخطاء والنكسات ﴿ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ ﴾ 1، ومع تقبلها هذه النفس المريضة تصبح بارعة وقادرة على إخراج الآخر ورسمه في صورة المخطئ دائما، ويصبح لكل واحد من أفرادها ويكيليكسا متطورا مهمته تسليط الضوء على ما يعتقده من زلات الآخرين وكبواتهم 2.