حقول مرتبطة:
الكلمات الرئيسية:
الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
صفات المتقين
﴿ ... هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ 1
الآيات المذكورة تدور حول المتقين، و تطرح خصائصهم في خمسة عناوين هي:
1- الإيمان بالغيب
«الغيب و الشهود» نقطتان متقابلتان، عالم الشهود هو عالم المحسوسات، و عالم الغيب هو ما وراء الحس. لأنّ «الغيب» في الأصل يعني ما بطن و خفي.
و قيل عن عالم ما وراء المحسوسات «غيب» لخفائه عن حواسّنا. التقابل بين العالمين مذكور في آيات عديدة كقوله تعالى: ﴿ ... عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ ﴾ 2.
الإيمان بالغيب هو بالضبط النقطة الفاصلة الاولى بين المؤمنين بالأديان السماوية، و بين منكري الخالق و الوحي و القيامة. و من هنا كان الإيمان بالغيب أول سمة ذكرت للمتّقين.
المؤمنون خرقوا طوق العالم المادي، و اجتازوا جدرانه، إنّهم بهذه الرؤية الواسعة مرتبطون بعالم كبير لا متناه. بينما يصرّ معارضوهم على جعل الإنسان مثل سائر الحيوانات، محصورا في موقعه من العالم المادي. و هذه الرؤية المادية تقمّصت في عصرنا صفات العلمية و التقدمية و التطورية! لو قارنّا بين فهم الفريقين و رؤيتهما، لعرفنا أن: «المؤمنين بالغيب» يعتقدون أن عالم الوجود أكبر و أوسع بكثير من هذا العالم المحسوس، و خالق عالم الوجود غير متناه في العلم و القدرة و الإدراك، و أنّه أزليّ و أبديّ. و أنّه صمّم هذا العالم وفق نظام دقيق مدروس. و يعتقدون أنّ الإنسان- بما يحمله من روح إنسانية- يسمو بكثير على سائر الحيوانات. و أنّ الموت ليس بمعنى العدم و الفناء، بل هو مرحلة تكاملية في الإنسان، و نافذة تطل على عالم أوسع و أكبر.
بينما الإنسان المادي يعتقد أن عالم الوجود محدود بما نلمسه و نراه. و أن العالم وليد مجموعة من القوانين الطبيعية العمياء الخالية من أي هدف أو تخطيط أو عقل أو شعور. و الإنسان جزء من الطبيعة ينتهي وجوده بموته، يتلاشى بدنه، و تندمج أجزاؤه مرّة اخرى بالمواد الطبيعية. فلا بقاء للإنسان، و ليس ثمّة فاصلة كبيرة بينه و بين سائر الحيوانات3! ما أكبر الهوة التي تفصل بين هاتين الرؤيتين للكون و الحياة! و ما أعظم الفرق بين ما تفرزه كل رؤية، من حياة اجتماعية و سلوك و نظام! الرؤية الاولى تربّي صاحبها على أن ينشد الحق و العدل و الخير و مساعدة الآخرين. و الثانية، لا تقدّم لصاحبها أي مبرّر على ممارسة الأمور اللهم إلّا ما عاد عليه بالفائدة في حياته المادية. من هنا يسود في حياة المؤمنين الحقيقيين التفاهم و الإخاء و الطّهر و التعاون، بينما تهيمن على حياة الماديين روح الاستعمار و الاستغلال و سفك الدماء و النهب و السلب. و لهذا السبب نرى القرآن يتخذ من «الإيمان بالغيب» نقطة البداية في التقوى.
يدور البحث في كتب التّفسير عن المقصود بالغيب، أهو إشارة إلى ذات الباري تعالى، أم أنه يشمل- أيضا- الوحي و القيامة و عالم الملائكة و كل ما هو وراء الحس؟ و نحن نعتقد أن الآية أرادت المعنى الشامل لكلمة الغيب، لأن الإيمان بعالم ما وراء الحس- كما ذكرنا- أول نقطة افتراق المؤمنين عنالكافرين، إضافة إلى ذلك، تعبير الآية مطلق ليس فيه قيد يحدده بمعنى خاص.
بعض الروايات المنقولة عن أهل البيت عليهم السّلام تفسّر الغيب في الآية، بالمهدي الموعود المنتظر (سلام اللّه عليه) و الذي نعتقد بحياته و خفائه عن الأنظار، و هذا لا ينافي ما ذكرناه بشأن معنى الغيب، لأن الروايات الواردة في تفسير الآيات تبين غالبا مصاديق خاصة للآيات، دون أن تحدد الآيات بهذه المصاديق الخاصة، و سنرى في صفحات هذا التّفسير أمثلة كثيرة لذلك. و الروايات المذكورة بشأن تفسير معنى الغيب، تستهدف في الواقع توسيع نطاق معنى الإيمان بالغيب، ليشمل حتى الإيمان بالمهدي المنتظر عليه السّلام و يمكننا القول أنّ الغيب له معنى واسع قد نجد له بمرور الزمن مصاديق جديدة.
2- الارتباط باللّه
الصفة الاخرى للمتقين هي أنهم ﴿ ... وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ ... ﴾ 4.
«الصّلاة» باعتبارها رمز الارتباط باللّه، تجعل المؤمنين المنفتحين على عالم ما وراء الطبيعة على ارتباط دائم بالخالق العظيم. فهم لا يحنون رؤوسهم إلّا أمام اللّه، و لا يستسلمون إلّا لرب السماوات و الأرض، و لذلك لا معنى في قاموس حياتهم لعبادة الأوثان، أو التسليم أمام الجبابرة و الطواغيت.
مثل هذا الإنسان يشعر أنّه أسمى من جميع المخلوقات الاخرى، إذ أنّه منح لياقة الحديث مع ربّ العالمين، و هذا الإحساس الوجداني أكبر عامل في تربية الموجود البشري.
الإنسان الذي يقف خمس مرات يوميّا أمام اللّه، يتضرع إليه و يناجيه، ينطبع فكره و عمله و قوله بطابع إلهي، و مثل هذا الإنسان لا ينهج طريقا فيه سخط اللّه (على أن يكون تضرعه للّه صادرا عن أعماق قلبه و منطلقا من تمام وجوده)5.
3- الارتباط بالنّاس
المتقون- إضافة إلى ارتباطهم الدائم بالخالق- لهم ارتباط وثيق و مستمر بالمخلوقين، و من هنا كانت الصفة الثالثة التي يبيّنها لهم القرآن أنّهم ﴿ ... وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ 4.
يلاحظ أن القرآن لا يقول: و من أموالهم ينفقون، بل يقول: ﴿ ... وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ 4.
يلاحظ أن القرآن لا يقول: و من أموالهم ينفقون، بل يقول: ﴿ ... وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ 4، و بذلك وسّع نطاق الإنفاق ليشمل المواهب المادية و المعنوية.
فالمتقون لا ينفقون أموالهم فسحب، بل ينفقون من علمهم و مواهبهم العقلية و طاقاتهم الجسميّة و مكانتهم الاجتماعية، و بعبارة اخرى ينفقون من جميع إمكاناتهم لمن له حاجة إلى ذلك دون توقّع الجزاء منه.
الملاحظة الاخرى: إن الإنفاق قانون عام في عالم الخليقة، و خاصة في التركيب العضوي لكل موجود حي. قلب الإنسان لا يعمل لنفسه فقط، بل ينفق ما عنده لجميع خلايا البدن. الدماغ و الرئة و سائر أجهزة البدن تنفق دائما من ثمار عملها، و الحياة الجماعية- أساسا- لا مفهوم لها دو نما إنفاق6.
الارتباط بالنّاس- في الحقيقة حصيلة الارتباط باللّه. فالإنسان المرتبط باللّه يؤمن أن كل ما لديه من نعم إنّما هي مواهب إلهيّة مودعة لديه لفترة زمنيّة معينة.
و من هنا فلا يزعجه الإنفاق بل يسره و يفرحه، لأنه بالإنفاق قسّم مال اللّه بين عباد اللّه، و بقيت له نتائج هذا العمل و بركاته المادية و المعنوية. و هذا التفكير يطهّر روح الإنسان من البخل و الحسد، و يحوّل الحياة من ساحة لتنازع البقاء إلى مسرح للتعاون حيث يشعر كل فرد بأنه مسئول أن يضع ما لديه من مواهب تحت تصرف كل المحتاجين، مثل الشمس تفيض بأشعتها على الموجودات دون أن تتوقع من
من هذا التّفسير).
أحد جزاء.
في حديث عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام بشأن تفسير الآية ﴿ ... وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ 4 يقول: «إنّ معناه و ممّا علّمناهم يبثّون» 7.
بديهي أنّ الرّواية لا تريد أن تجعل الإنفاق مختصا بالعلم، بل إن الإمام الصادق يريد- بذكر هذا اللون من الإنفاق- أن يوسّع مفهوم الإنفاق كي لا يكون مقتصرا على الجانب المالي كما يتبادر إلى الأذهان لأول وهلة.
و من هنا يتضح ضمنيا أن الإنفاق المذكور في الآية، لا يقتصر على الزكوات الواجبة و المستحبة، بل يتسع معناه ليشمل كل مساعدة بلا مقابل.
4- الإيمان بالأنبياء عليهم السّلام
الخاصية الرابعة للمتّقين الإيمان بجميع الأنبياء و برسالاتهم الإلهية؛ ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ... ﴾ 8. و في هذا التعبير القرآني إشارة إلى أن المتقين يؤمنون بتوافق دعوة الأنبياء في المبادي و الاسس، بأنهم جميعا هداة البشرية نحو صراط مستقيم واحد، أحدهم يكمل الشوط الذي قطعه سلفه في قيادة البشرية نحو كمالها المرسوم. و يؤمنون بأن الأديان الإلهية ليست وسيلة للتفرقة و النفاق، بل على العكس وسيلة للارتباط و عامل للشّد بين أبناء البشر.
الأشخاص الذين يحملون مثل هذه الرّؤية و مثل هذا الإدراك، يسعون تطهير أرواحهم من التعصّب، و يؤمنون بما جاء به جميع الأنبياء لهداية البشر و تكاملهم، و يحترمون كل دعاة و هداة طريق التوحيد.
الإيمان برسالات الأنبياء السابقين، لا يمنع طبعا من انتهاج رسالة خاتمالأنبياء في الفكر و العمل، لأن هذه الرّسالة هي آخر حلقة من السلسلة التكاملية للأديان، و عدم انتهاجها يعني التخلف عن المسيرة التكاملية للبشرية.
5- الإيمان بيوم القيامة
آخر صفة في هذه السلسلة من الصفات التي قررها القرآن للمتقين ﴿ ... وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ 8.
إنهم يوقنون بأن الإنسان لم يخلق هملا و عبثا، فالخليقة عينت للكائن البشري مسيرة تكاملية لا تنتهي إطلاقا بموته، إذ لو كان الموت نهاية المسير لكانت حياة الإنسان عبثا لا طائل تحته.
المتّقون يقرّون بأن عدالة اللّه المطلقة تنتظر الجميع، و لا شيء من أعمال البشر في هذه الدنيا يبقى بدون جزاء.
هذا اللون من التفكير يبعث في نفس حامله الهدوء و السكينة، و يجعله يتحمل أعباء المسؤولية و مشاقها بصدر رحب، و يقف أمام الحوادث كالطود الأشمّ، و يرفض الخضوع للظلم. و هذا التفكير يملأ الإنسان ثقة بأن الأعمال- صالحها و طالحها- لها جزاء و عقاب، و بأنه ينتقل بعد الموت إلى عالم أرحب خال من كل ألوان الظلم، يتمتع فيه برحمة اللّه الواسعة و ألطافه الغزيرة.
الإيمان بالآخرة يعني شقّ حاجز عالم المادة و الدخول إلى عالم أسمى.
و يعني أن عالمنا هذا مزرعة لذلك العالم الأسمى و مدرسة إعدادية له، و أنّ الحياة في هذا العالم ليست هدفا نهائيّا، بل تمهيد و إعداد للعالم الآخر.
الحياة في هذا العالم شبيهة بحياة المرحلة الجنينية، فهي ليست هدفا لخلقة الإنسان، بل مرحلة تكاملية من أجل حياة اخرى. و ما لم يولد هذا الجنين سالما خاليا من العيوب، لا يستطيع أن يعيش سعيدا في الحياة التالية.
الإيمان بيوم القيامة له أثر عميق في تربية الإنسان. يهبه الشجاعة و الشهامة، لأن أسمى و سام يتقلده الإنسان في هذا العالم، هو و سام «الشهادة» على طريق هدف مقدس إلهي، و الشهادة أحبّ شيء للإنسان المؤمن، و بداية لسعادته الأبديّة.
الإيمان بيوم القيامة يصون الإنسان من ارتكاب الذّنوب. بعبارة اخرى، يتناسب ارتكابنا للذنوب مع إيماننا باللّه و اليوم الآخر تناسبا عكسيا، فكلما قوي الإيمان قلت الذنوب. يقول اللّه سبحانه لنبيّه داود: ﴿ ... وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾ 9 .
نسيان يوم الحساب أساس كل طغيان و ظلم و ذنب، و بالتالي أساس استحقاق العذاب الشديد.
آخر آية في هذا البحث تشير إلى النتيجة التي يتلقاها المؤمنون المتصفون بالصفات الخمس المذكورة، تقول: ﴿ أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ... ﴾ 10 ﴿ ... وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ 10.
و قد ضمن ربّ العالمين لهؤلاء هدايتهم و فلاحهم، و عبارة مِنْ رَبِّهِمْ إشارة إلى هذه الحقيقة.
و استعمال حرف (على) في عبارة عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ يوحي بأن الهداية الإلهية مثل سفينة يركبها هؤلاء المتقون لتوصلهم إلى السعادة و الفلاح. (لأن حرف- على- يوحي غلبا معنى الاستعلاء).
و استعمال كلمة «هدى» في حالة نكرة يشير إلى عظمة الهداية التي شملهم اللّه بها.
و تعبير هُمُ الْمُفْلِحُونَ يفيد الانحصار كما يذكر علماء البلاغة، أي إن الطريق الوحيد للفلاح هو طريق هؤلاء المفلحين 1112!
- 1. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآيات: 2 - 5، الصفحة: 2.
- 2. القران الكريم: سورة الحشر (59)، الآية: 22، الصفحة: 548.
- 3. نقلا عن: «محمّد و القرآن».
- 4. a. b. c. d. e. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 3، الصفحة: 2.
- 5. بشأن أهمية الصلاة و آثارها التربوية الكبرى، راجع تفسير الآية 114 من سورة هود (في المجلد السابع)
- 6. راجع بشأن الإنفاق و أهميته و آثاره، المجلد الثاني من هذا التّفسير، ذيل الآيات 261- 274 من سورة البقرة.
- 7. مجمع البيان، و نور الثقلين، في تفسير الآية المذكورة.
- 8. a. b. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 4، الصفحة: 2.
- 9. القران الكريم: سورة ص (38)، الآية: 26، الصفحة: 454.
- 10. a. b. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 5، الصفحة: 2.
- 11. صاحب «المنار» يصر على أن تكرار كلمة «أولئك» في الآية يفيد الإشارة إلى مجموعتين:
الاولى- أولئك الذين يتصفون بالإيمان بالغيب، و بإقامة الصلاة، و بالإنفاق. و الثانية- هم المؤمنون بالوحي السماوي و بالاخرة. نحن نستبعد كثيرا هذا التّفسير، لأن الصفات الخمس المذكورة مترابطة لا يمكن التفكيك بينها، و كلها تصف مجموعة واحدة.
- 12. المصدر: كتاب الامثل في تفسير كتاب الله المنزل، لسماحة آية الله الشيخ مكارم الشيرازي دامت بركاته.