الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

سنّة الاستخلاف‌ من سنن التطور الإجتماعي في القرآن الكريم

انسجاماً مع سنّة العدل والحقّ الكونيّة، وانعكاسها الاجتماعيّ ضمن سنّة الخط التطوّريّ الموجّه نحو قيام نظام العدل التامّ الشامل في المجتمع البشريّ، تأتي «سنّة الاستخلاف» الإلهيّة الّتي تعني: أنّ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى يستخلف في الأرض في كلّ دورة زمنيّة أمّة من الأمم، ويرشّحها لكي تقوم بدور الخلافة الإلهيّة في الأرض، فيمكّنها في الأرض، ويخوّل لها السلطة والقدرة، ويحمّلها مسؤوليّة قيادة الأمم الأخرى في سبيل إقامة العدل في الأرض كلّها، وعمرانها، وإدارتها، وفقاً لشريعة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى العادلة.

والاستخلاف الإلهيّ للإنسان في الأرض ذو مرحلتين:

المرحلة الأولى: الاستخلاف الفرديّ‌

وهو استخلاف الإمام العادل الشاهد على الإنسان.

قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى:﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ... 1.

وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى مخاطباً النبيّ داوود عَلَى نَبِيِّنَا وَآلِهِ وَعَلَيْهِ السَّلَام:

﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ... 2.

وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى مخاطباً النبيّ إبراهيم عَلَى نَبِيِّنَا وَآلِهِ وَعَلَيْهِ السَّلَام:

﴿ ... إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ 3.

وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى:

﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ 4.

تبيّن هذه الآيات سنّة الخلافة الفرديّة؛ وهي إمامة الأفضلين في مجتمع الإنسان، كما تشرح مواصفات هؤلاء الأئمّة الخلفاء، وأنّهم‌ صالحون، ويهدون بأمر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وأنّهم يُوحى إليهم فعل الخيرات، ولذلك فهم أئمّة المجموعة الخيّرة المستخلفة على الأرض، وأنّهم الّذين يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويعبدون الله عبادة خالصة من الشرك والرّيب والترديد، وهذه هي بالضبط مواصفات الأمّة المستخلفة التابعة للخليفة الإمام:

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ... 5.

وفي سياق الاستخلاف الفرديّ للإمام القائد المطيع لله المنفّذ لأوامره وأحكامه الهادي إلى سبيله، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى أيضاً:

﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ 6.

وفي هاتين الآيتين إشارة إلى استجابة الله دعاء إبراهيم عَلَى نَبِيِّنَا وَآلِهِ وَعَلَيْهِ السَّلَام عندما اختاره الله إماماً فقال له:

﴿ ... إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ... 3.

فدعا ربّه قائلًا:

﴿ ... قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ 3.

ونظير هذا الدّعاء، دعا به أمير المؤمنين صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه في ما حكاه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى عن لسانه- حسب ما جاء في الروايات‌ 7- قائلًا:

﴿ ... رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا 8.

فاستجاب الله دعاءه وجعله وذريتة أئمّة للمتقين في ما أخبر به رسول الله (ص)؛ إذ قال- في ما تواتر عنه-:

«إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا و إنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض»9.

والمهمّة الّتي عهد الله بها للإمام المستخلف هي هداية الأمّة المستخلفة، وقيادتها، وإعدادها للقيام بدور الإمامة الجماعيّة لأمم الأرض؛ لإقامة العدل على الأرض كلّها، وبناء المجتمع العالميّ للمتّقين. وهنا، يأتي دور الاستخلاف الجماعيّ، وهي المرحلة الثانية من مرحلتي الاستخلاف:

المرحلة الثانية: مرحلة الاستخلاف الجماعيّ‌

ويُقصد به استخلاف الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى لأمّةٍ ما بالتمكين في الأرض، وترشيحها لإمامة الأمم الأخرى، بشرط صبرها على الأذى في الله، وطاعتها للإمام المستخلف من الله في الأرض، وثباتها على نصرته في سبيل إقامة العدل في جميع ربوع الأرض.

قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى في إشارة إلى هذا الاستخلاف الجماعيّ:

﴿ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ 10.

وحسب التصريح الوارد في هاتين الآيتين: فقد استخلف الله‌ بني اسرائيل، واختارهم لإمامة الأمم، بعد أن أبلاهم بأنواع البلاء فصبروا- شأنهم في ذلك شأن الإمامة والخلافة الفرديّة الّتي اختار الله لها إبراهيم، بعد أنواع من البلاء الّتي صبر عليها في سبيل الله- فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى في إشارة إلى تمكينهم، واستخلافهم في الأرض:

﴿ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ﴾ 11.

وسوف نوضّح في أبحاثنا القادمة أنّ الأمّة المستخلفة المرشّحة لإمامة الأمم تجري بشأنها سنّة الابتلاء والاختبار؛ لترتفع إلى مستوى القيادة والإمامة- كما هو الحال بشأن الاستخلاف الفرديّ للإمام المختار من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى-.

وسنبيّن أنّ سنّة الابتلاء هذه على مرحلتين:

أوّلًا: مرحلة ما قبل التمكين.

وثانياً: مرحلة ما بعد التمكين.

وأنّ بني اسرائيل استطاعت أن تجتاز مرحلة الابتلاء ما قبل التمكين بنجاح؛ لكنّها فشلت فشلًا ذريعاً في مرحلة الابتلاء ما بعد التمكين، فسقطت في هوّة الشهوات، واتّباع الأهواء، حتّى سلبها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى عزّ الإمامة والاستخلاف، وأبدلها عوضاً عن ذلك بذُلّ اللعنة والغضب؛ كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى:

﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ... 12.

﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ ... 13.

﴿ ... وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ 14.

والمؤسف جدّاً أنّ المصير نفسه ابتلي به المجتمع الإسلاميّ الأوّل في نهاية الأمر؛ فإنّه وإن نجح نجاحاً باهراً في ما أبلي به قبل التمكين الإلهيّ، حتّى عاد ﴿ ... خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ... 15، مطيعة لرسول الله (ص) ناصرة له:﴿ ... هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ 16؛ ولكنّه- أي: المجتمع الإسلاميّ- بعد أن تمّ له التمكين الإلهيّ، وبعد رحيل‌ رسول الله (ص)، مرّ بأنواع من الابتلاء الخاصّ بمرحلة ما بعد التمكين، فلم يعد موفّقاً في اجتياز مراحل الابتلاء في ما بعد التمكين، فعاد مطيعاً لأعداء الله ورسوله (الأمويّين)، بعد أن كان مطيعاً لله ولرسوله، وأدّت طاعة الأمويّين إلى أن ينتهي الأمر بالأمّة الّتي كانت في زمن الرسول أمّةً عزيزة بطاعة الله ورسوله أن تسقط في فخّ الشهوات وحبّ الدنيا والأهواء، وأن تصاب بنفس ما أصاب بني إسرائيل من الذّل والهوان الّذي نشهده اليوم في واقع مجتمعنا الّذي ينتمي إلى الإسلام تاريخيّاً، ولا ينتمي إليه نظاماً، وإدارة وسياسة، واقتصاداً، وثقافةً، وقيماً، وخلُقاً، وسلوكاً.

وقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق (ع) في تفسير قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى:﴿ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ﴾ 17:

«لَتَسْلُكُنَّ سَبِيلَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ فِي الْغَدْرِ بِالْأَوْصِيَاءِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ»18.

وورد عنه (ع) أيضاً:

«لَتَرْكَبُنَّ سَبِيلَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ وَالْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ ..»19 الحديث.

وروى أحمد بن حنبل في مسنده، عن أبي سعيد الخدريّ؛ قال:

«قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ص): لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ بَنِي إسرَائِيلَ شِبراً بِشِبرٍ، وَذِرَاعاً بِذِرَاعٍ، حَتّى لَو دَخَلَ رَجُلٌ مِن بَنِي إسرَائِيلَ جُحْرَ ضَبّ لَتَبِعتُمُوهُم فِيهِ»20.

وقد روى المحدّثون عن رسول الله (ص) أحاديث أخرى بنفس المضمون المشتمل على التأكيد على أنّ أمّة محمّد (ص) سوف يجري عليها نفس ما جرى على أمّة موسى عَلَى نَبِيِّنَا وَآلِهِ وَعَلَيْهِ السَّلَام طابق النّعل بالنّعل، وحذو القُذّة بالقُذّة.

وقد بلغ أمر انقلاب الأمّة على الله وعلى رسوله، وخذلانهم لرسول الله (ص) ذروته عندما أجمعت على طاعة الطاغية يزيد، وأذعنت لأمره في قتل الحسين صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه، وأصحابه الطّيّبين، وقد جاءت الإشارة إلى ذلك في كتاب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى إذ قال:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُولَٰئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ 21.

وكان اجتماع الأمويّين ومن أطاعهم من أراذل الأمّة وعتاتها على قتل الصفوة الصالحة من أهل بيت النبيّ (ص) وأتباعهم المخلصين ذروة الطغيان والانقلاب على الأعقاب الّذي حذّر الله أمّة الرسول (ص) منه؛ إذ قال:

﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ 22.

وقد أخبر النبيّ (ص) بذلك في ما تواتر عنه من الخبر في أكثر من حديث؛ ففي كتاب التفسير من صحيح البخاريّ عن رسول الله (ص):

«يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ! أَصْحَابِي! فَيُقَالُ: إنَّكَ لا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ:

﴿ ... وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ... 23،

فَيُقَالُ: إِنَّ هَؤُلاءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ»24.

وفي كتاب الرِّقاق من صحيح البخاريّ أيضاً عن النبيّ (ص) قال:

«بَيْنَا أَنَا قَائِمٌ إِذَا زُمْرَةٌ، حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِي وَبَيْنِهِمْ، فَقَالَ: هَلُمَّ! فَقُلْتُ: أَيْنَ؟ قَالَ: إِلَى النَّارِ- وَاللَّهِ-، قُلْتُ: وَمَا شَأْنُهُمْ؟ قَالَ: إِنَّهُمْ ارْتَدُّوا بَعْدَكَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ الْقَهْقَرَى، ثمّ إِذَا زُمْرَةٌ، حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِي وَبَيْنِهِمْ، فَقَالَ: هَلُمَّ! فَقُلْتُ: أَيْنَ؟ قَالَ: إِلَى النَّارِ- وَاللَّهِ-، قُلْتُ: وَمَا شَأْنُهُمْ؟ قَالَ: إِنَّهُمْ ارْتَدُّوا بَعْدَكَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ الْقَهْقَرَى، قَالَ: فَلَا أُرَاهُ يَخْلُصُ مِنْهُمْ إِلَّا مِثْلُ هَمَلِ النَّعَمِ»25.

وفي صحيح البخاريّ أيضاً، عن سهل بن سعد؛ قال:

«قَالَ النَّبِيُّ (ص): إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ مَنْ مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا، لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِي، ثمّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، قَالَ أَبُو حَازِمٍ: فَسَمِعَنِي النُّعْمَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ، فَقَالَ: هَكَذَا سَمِعْتَ مِنْ سَهلٍ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ لَسَمِعتُهُ، وَهُوَ يَزِيدُ فِيهَا: فَأَقُولُ: إِنَّهُمْ أُمَّتِي فَأَقُولُ: إِنَّهُمْ مِنِّي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: سُحْقًا، سُحْقًا، لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِي»26.

وفي صحيح مسلم:

«لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ الْحَوْضَ رِجَالٌ مِمَّنْ صَاحَبَنِي، حَتَّى إِذَا رَأَيْتُهُمْ‌ وَرُفِعُوا إِلَيَّ، اخْتُلِجُوا دُونِي، فَلَأَقُولَنَّ: أَيْ رَبِّ! أُصَيْحَابِي، أُصَيْحَابِي! فَلَيُقَالنَّ لِي: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ»27.

وفي مسند أحمد بن حنبل، عن أمّ سلمة، عن رسول الله (ص):

«أَيُّهَا النَّاسُ! بَيْنَمَا أَنَا عَلَى الْحَوْضِ، جِي‌ءَ بِكُمْ زُمَرًا، فَتَفَرَّقَتْ بِكُمْ الطُّرُقُ، فَنَادَيْتُكُمْ: أَلَا هَلُمُّوا إِلَى الطَّرِيقِ! فَنَادَانِي مُنَادٍ مِنْ بَعْدِي؛ فَقَالَ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ، فَقُلْتُ أَلَا سُحْقاً، أَلَا سُحْقاً»28.

ولقد وصف أمير المؤمنين عليّ (ع) الحالة الّتي آل إليها أمر الأمّة الإسلاميّة، ولمّا لم يمض عن رحيل رسول الله (ص) ثلاثة عقود قائلًا:

«وَاعْلَمُوا- رَحِمَكُمُ اللَّهُ- أَنَّكُمْ فِي زَمَانٍ الْقَائِلُ فِيهِ بِالْحَقِّ قَلِيلٌ، وَاللِّسَانُ عَنِ الصِّدْقِ كَلِيلٌ، وَاللَّازِمُ لِلْحَقِّ ذَلِيلٌ، أَهْلُهُ مُعْتَكِفُونَ عَلَى الْعِصْيَانِ، مُصْطَلِحُونَ عَلَى الْإِدْهَانِ، فَتَاهُمْ عَارِمٌ، وَشَائِبُهُمْ آثِمٌ، وَعَالِمُهُمْ مُنَافِقٌ، وَقَارِؤُهُمْ مُمَاذِقٌ، لَا يُعَظِّمُ صَغِيرُهُمْ كَبِيرَهُمْ، وَلَا يَعُولُ غَنِيُّهُمْ فَقِيرَهُم»29.

ومهما يكن من أمر، فإنّ السنّة والتاريخ يحدّثاننا بما انتهى إليه أمر الأمّة المستخلفة في العصر الإسلاميّ الأوّل من معصية الرسول (ص)، وخذلانه، وانقلاب على الأعقاب، بلغ ذروته في ما شهدته أرض الطّف في يوم عاشوراء، من التنكيل بذريّة محمّد الطيبّين صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِم، وإبادتهم، وتشريدهم، وقتل رجالهم وأطفالهم، وسبي نسائهم، حتّى أنّ التاريخ الإسلاميّ لم يشهد حدثاً بين طائفتين من المسلمين أُبيد فيها الرجال، وسُحقت فيها أجسادهم بسنابك الخيول، وسُبيت فيها النساء، ونُكّل فيها بالأطفال، وأُريقت منهم الدماء، كما شهد ذلك في ما حدث لأبناء رسول الله، وأحفاده، وأهل بيته الطيّبين الطاهرين صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِم أَجمَعِيْن 30.

 

للمزيد راجع كتاب سنن التطور الإجتماعي في القرآن الكريم