الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

سنّة الانتظار من سنن التطور الإجتماعي في القرآن الكريم

وتعني سنّة الانتظار أنّ إرادة الله الّتي شاءت أن يقام «العدل العالميّ العامّ» على وجه الأرض بإرادة بشريّة، ضمن سنن «الابتلاء والاختبار»، و «الاستدراج»، و «التبديل والتغيير»، و «الإملاء والأخذ»، وبالتالي: سنّة «الاختيار والاستبدال»، إنّما تنفِّذ سنّة الاختيار والاستبدال الّتي بها ترشَّح الأمّة الصالحة الأخيرة «الاستخلاف الكبير»، من خلال تنفيذ «سنّة الانتظار» الّتي يتمّ فيها استعداد الأمّة الصالحة لقبول مسؤوليّة الاستخلاف الكبير، ويكمل تأهّبها لقيادة الأمم الأخرى، وإقامة مجتمع العدل العالميّ على وجه الأرض. قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى:

﴿ وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ 1.

﴿ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ * فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ 2.

﴿ ... فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ * هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ 3.

﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ 4.

وفي الآية الأخيرة- كما في الآية الّتي قبلها- تأكيد على ما تؤول‌ إليه سنّة الانتظار من القضاء المبرم على عناصر الشرّ، من غير إمهال، ولا انتظار آخر، وذلك عندما يصل قطار الانتظار إلى محطّته الأخيرة:

﴿ ... يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ... 5.

فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ.

فعندما يصل قطار الانتظار إلى محطّته الأخيرة، لا يُنتظَر بالكافرين، ولا بالمنافقين أجلًا آخر، ولا يُمهَلون مهلة أخرى.

ومن هنا يُعرف أنّ الانتظار انتظاران:

قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ.

الأوّل: انتظار المجموعة المؤمنة لوعد الله الصادق وآياته وبشاراته:

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ... 6.

والثاني: انتظار المجموعة الكافرة والمنافقة الّتي تكذّب بآيات الله ووعده، وتستهزي‌ء بالمجموعة المؤمنة، وتتحدّاها في ما تؤمن به من وعد الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وسننه الّتي لا تبديل لها، ولا تحويل، فتقول متحدَّية للجماعة المؤمنة:

﴿ ... مَتَىٰ هَٰذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ 7.

﴿ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ 8.

وعندما يتحقّق الوعد الإلهيّ، فيرونه ماثلًا أمامهم، يحيق بهم ما كانوا به يستهزؤون، وتُضرب عليهم الذّلة الأبديّة، ويسقط ما في أيديهم، وتساء وجوههم. قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى:

﴿ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَٰذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ ﴾ 9.

﴿ ... فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا 10.

ولسنّة الانتظار هذه، صلة بسنن القيادة الإلهيّة الّتي هي- بدورها- مجموعة من السنن الاجتماعيّة الإلهيّة الخاصّة بالقيادات‌ الإلهيّة، ومسؤوليّاتها المشتركة مع الجماهير، وعلاقاتها المتبادلة بالمجموعة المؤمنة من جهة، وبالمجموعة الكافرة والمنافقة من جهة أخرى. قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى:

﴿ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ﴾ 11.

﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴾ 12.

وهناك مسؤوليّة خاصّة تحمّلها الأنبياء السابقون على خاتم النبيّين، بإزاء هذا الرسول الخاتم للنبيّين، والمصدّق لما معهم أجمعين صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَعَلَيْهِم. قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى:

﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴾ 13.

هكذا أخذ الله الميثاق على جميع النبيّين السابقين على خاتم الأنبياء محمّد (ص) أن يؤمنوا به وأن ينصروه، وبما أنّ الإيمان بمحمّد (ص) يعني طاعته، كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى:﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ 14 فميثاق الله الّذي أخذه على النبيّين، وأكّده هو أن يطيعوا محمّداً (ص) ويتّبعوه، وينصروه، وهذا هو السّرّ في ما نجد التأكيد عليه في السنّة النبويّة من نزول عيسى عَلَى نَبِيِّنَا وَآلِهِ وَعَلَيْهِ السَّلَام في آخر الزمان، وبيعته مع وصيّ محمّد (ص)، الإمام القائم من آل محمّد عّجَّلَ اللَّهُ تَعَالى فَرَجَهُ الشَّرِيف، وطاعته له، ونصرته إيّاه، فإنّ طاعة عيسى ونصرته لوصيّ النبيّ محمّد (ص)، تجسيد عمليّ تاريخيّ للوفاء بهذا الميثاق الإلهيّ الّذي أخذه الله على الأنبياء بطاعة محمّد ونصرته (ص).

ومهما يكن من أمر، فإنّ هناك ميثاقاً مأخوذاً من النبيّين على طاعة محمّد (ص) ونصرته، وقد أخذ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى من المؤمنين جميعاً نفس الميثاق؛ ميثاق الطاعة لمحمّد (ص)، وميثاق النصرة له:

أمّا ميثاق الطاعة، فقد أشار إليه قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى:

﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ... 15.

وأمّا ميثاق النصرة، فقد أشار إليه قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى:

﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ 16.

ووفقاً لهذين الميثاقين (ميثاق الطاعة والنصرة مع الله، ورسله، وخلفاء الرّسل)، تجري مجموعة من سنن القيادة الإلهيّة 17، ومن أهمّها: سنّتا «الظهور» و «الغيبة»، فسنّة الظهور تجري عندما تفي المجموعة المؤمنة بميثاقها مع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فتعلن طاعتها ونصرتها للقيادة الإلهيّة، وتُنفِّذ ذلك ميدانيّاً، فإذا نصرت الأمّة القيادة الإلهيّة، وخضعت لطاعتها، وأثبتت عمليّاً وفاءها بهذا الميثاق الإلهيّ، ظهرت القيادة الإلهيّة، وقامت هي بدورها بنصرة المجموعة المؤمنة، وهدايتها، وترشيدها، والأخذ بها نحو قمم التطوّر والرّقي الدنيويّ والسعادة الآخرويّة، كما أشار إلى ذلك أمير المؤمنين صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه في خطبته المعروفة بالشقشقيّة؛ حيث قال فيها:

«أما و الذي فلق الحبة و برأ النسمة لو لا حضور الحاضر و قيام الحجة بوجود الناصر و ما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم و لا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها و لسقيت آخرها بكأس أولها»18)

. فحضور الحاضر من الأمّة في ساحة نصرة القيادة الإلهيّة، وطاعتها لها، استدعى ظهور الإمام من غيبته السياسيّة، وحضوره في ساحة التصدّي لزمام القيادة السياسيّة، وهكذا الأمر بالنسبة للإمام الحسين (ع)؛ فإنّ إعلان الأمّة نصرتها وطاعتها له، استدعى خروجه من غيبته السياسيّة وحضوره في ساحة التصدّي الرسميّ لقيادة الأمّة.

ومن جهة أخرى فإنّ سنّة الغيبة هي الّتي تنفَّذ بحقّ القيادة الإلهيّة عندما تعرض الأمّة عن طاعة القيادة الإلهيّة ونصرتها، فإنّ تقاعس الأمّة عن نصرتها للقيادة الإلهيّة، وعصيانها، وخذلانها لها، هو الّذي استدعى انكماش حضور القيادة الإلهيّة، ولجوئها إلى زاوية الغيبة السياسيّة، وذلك عندما لجأ الإمام الحسن المجتبى، ومن قبله أبوه أمير المؤمنين صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا- بعد رحيل رسول الله (ص)- إلى زاوية البيت، واضطرّا إلى عدم التصدّي الرسميّ لقيادة الجماهير.

فسنّتا الغيبة والحضور سنّتان من سنن القيادة الإلهيّة، يتّبعان في التنفيذ الظروف الميدانيّة الّتي تحكم المجتمع البشريّ، وفي إطار هاتين السنّتين، وعلى ضوء التعامل الّذي تلقّته القيادة الإلهيّة من قبل الجماهير من جهة، ومن قبل الطغاة من جهة أخرى، تتحدّد مواقف القيادة الإلهيّة، واستراتيجيّتها على مستوى الغيبة أو الظهور؛ فكلّما ضعفت الجماهير أمام الطغاة، واستسلمت لهم، حتّى أدّى الأمر بالطغاة إلى أن يضيّقوا الخناق على القيادة الإلهيّة، ويسلبوها فرصة التصدّي المعلن لقيادة الجماهير، انكمشت دائرة الحضور القياديّ‌ للإمامة الإلهيّة، وانحسر حضورها، ولجأت إلى ركن الغيبة، وكلّما عادت الجماهير إلى صوابها، وقويت عزيمتها، واكتملت أهبّتها لطاعة القيادة ونصرتها في مواجهة الجماهير، عادت القيادة الإلهيّة إلى الظهور، واتّسعت دائرة حضورها القياديّ بين الجماهير.

وغيبة القيادة الإلهيّة ليست بنمط واحد، بل تتكيّف وفقاً لظروف المواجهة مع الطغاة:

فقد تكون غيبة القيادة الإلهيّة غيبة مكانيّة، وذلك عندما تسلب عن القيادة الإلهيّة فرصة التصدّي لقيادة الأمّة في مكان مّا، وتتوفّر في مكان آخر؛ كما حصل لرسول الله (ص) عندما هاجر من مكّة إلى المدينة، فغيبته عن مكّة كانت غيبة مكانيّة؛ إذ انتفت إمكانيّة ممارسته لدوره القياديّ في مكّة، بعد أن اجتمعت قريش على قتله فيها؛ ولكن توفّرت فرصة العمل في المدينة، فانتقل إليها، وهكذا الأمر بالنسبة لإبراهيم عَلَى نَبِيِّنَا وَآلِهِ وَعَلَيْهِ السَّلَام، عندما قال قومه:﴿ ... اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ ... 19، فلم تعد بابل- بعدئذٍ- المكان المناسب لممارسة دوره القياديّ، بعد أن اجتمع قومه وطغاتهم على قتله فيها، فانتقل منها إلى فلسطين. وهكذا، تحقّقت سنّة الغيبة المكانيّة للقيادة الإبراهيميّة عن مدينته الأولى بابل، بعد أن ضاقت به ذرعاً، وذبلت فيها كلّ الفرص الممكنة لممارسة القيادة الإلهيّة دورها مع الجماهير.

وقد تكون غيبة القيادة الإلهيّة غيبة عن بعض أدوارها، عندما تمتنع عليها ممارسة ذلك الدور الخاصّ في ظروف اجتماعيّة وسياسيّة معيّنة، فتؤجّل ممارستها لذلك الدور إلى حين توفّر الإمكانيّة اللازمة لذلك. ويمكن التعبير عن هذه الغيبة «غيبة التعليق»، أو «غيبة التجميد»؛ وذلك لأنّ القيادة الإلهيّة تؤجّل القيام ببعض أدوارها القياديّة في مقطع زمنيّ معيّن، فتعلّق القيام به إلى حين تجدّد الإمكانيّة والفرصة المناسبة، وهذا ما حصل بالفعل بالنسبة لبعض القيادات الإلهيّة على مدى التاريخ.

ومن أوضح الأمثلة لذلك: ما قام به أمير المؤمنين صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه بعد رحيل رسول الله (ص) من تأجيل ممارسة القيادة السياسيّة، والاكتفاء بممارسة القيادة الفكريّة والعلميّة، حتّى استعادة الأمّة صحوتها، واستعدادها لطاعته ونصرته على الصعيد السياسيّ؛ كما حصل بعد مقتل عثمان.

وقد ورد في الحديث عن الإمام عليّ بن موسى الرضا (ع) بشأن ممارسة النبيّ (ص)، وكذا أمير المؤمنين (ع) لغيبته التعليق:

«عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرُّمَّانِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ عَلِيَّ بْنَ مُوسَى الرِّضَا (ع)، فَقُلْتُ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ! أَخْبِرْنِي عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (ع)؛ لِمَ لَمْ يُجَاهِدْ أَعْدَاءَهُ خَمْساً وَعِشْرِينَ سَنَةً بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ (ص)، ثُمَّ جَاهَدَ فِي أَيَّامِ وِلَايَتِهِ؟! فَقَالَ (ع): لِأَنَّهُ‌ اقْتَدَى بِرَسُولِ اللَّهِ (ص) فِي تَرْكِ جِهَادِ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَبِالْمَدِينَةِ تِسْعَةَ عَشَرَ شَهْراً، وَذَلِكَ لِقِلَّةِ أَعْوَانِهِ عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ عَلِيٌّ (ع) تَرَكَ مُجَاهَدَةَ أَعْدَائِهِ لِقِلَّةِ أَعْوَانِهِ عَلَيْهِمْ ...» إلى آخر الرواية 20.

وقد تكون الغيبة غيبة زمانيّة مطلقة، وذلك عندما يصادر الطغاة كلّ فرص العمل من القيادة الإلهيّة، فيمتنع عليها مطلق الظهور العلنيّ في الساحة بكلّ ألوانه وأنواعه، فيمتنع على القيادة الإلهيّة كل ممارساتها القياديّة، حتّى على المستوى الفكريّ والعلميّ، فهنا تنفّذ سنّة الغيبة المطلقة إلى حين يتاح للقيادة الإلهيّة القيام بدورها القياديّ، فتعود إلى الساحة من جديد، وتنفّذ- حينئذٍ- في حقّها سنّة الظهور.

وهذا ما حصل بالفعل لموسى عَلَى نَبِيِّنَا وَآلِهِ وَعَلَيْهِ السَّلَام عندما ركز ذلك الفرعونيّ انتصاراً لأحد المؤمنين من شيعته، فجاءه رجل من أقصى المدينة يسعى، قال:﴿ ... يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ 21، فخرج من المدينة خائفاً يترقب، فغاب عن جماهيره غيبة مطلقة، في مرحلة زمنيّة محدّدة إلى أن تتاح له الفرصة لممارسة دوره القياديّ.

وهذا ما قد حصل بالفعل عندما رأى ناراً، فقال لأهله:

﴿ ... امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا ... 22، فرجع منها، وهو رسول من الله يحمل أعباء القيادة الإلهيّة، مبعوثاً إلى قومه؛ لكي ينجيهم من بأس فرعون وبطشه، ولكي يطيح بعرش الطاغية فرعون، ويقيم بدلًا عنه مجتمعاً إلهيّاً عادلًا، تحكمه شريعة الله.

فغيبة موسى عَلَى نَبِيِّنَا وَآلِهِ وَعَلَيْهِ السَّلَام عن بني إسرائيل- فترة لجوئه إلى مدين- كانت غيبة زمنيّة مطلقة للقيادة الإلهيّة، انتظرت فيها القيادة الإلهيّة من جهة، وبنو إسرائيل من جهة أخرى، عصر الظهور الّذي يتاح فيه للقيادة الإلهيّة أن تعود إلى جماهيرها، فتمارس دورها القياديّ المطلوب لإقامة حكم الله في الأرض.

وعلى هذا الأساس، فسنّة الغيبة الّتي تحكم القيادة الإلهيّة في ظروف معيّنة تقترن دائماً بسنّة الانتظار، السنّة الّتي ينتظر فيها الإمام وأتباعه من جهة توفر الظروف المناسبة لقيام القيادة الإلهيّة بدورها القياديّ المطلوب، وتحقّق الوعد الإلهيّ بانتصار المجموعة المؤمنة على طغاة الأرض، ومن جهة أخرى: ينتظر فيها أعداء الله حلول الوعد الّذي وعد الله عباده المؤمنين بالنصر، مستهزئين بالمجموعة المؤمنة إيمانها بالغيب وبالوعد الإلهيّ، قائلين أحياناً:﴿ ... مَتَىٰ هَٰذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ 23؟! وأحياناً أخرى:﴿ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ 8؟!

وهذا الوعد الّذي يسألون عنه باستهزاء، هو ذلك الوعد الّذي أخبر عنه ربّنا؛ حينما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى:﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ... 6. وهو نفسه وعد الآخرة الّذي أشار إليه في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى:﴿ ... فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ ... 10.

ويأتي الردّ على هؤلاء المستهزئين- على لسان القرآن الكريم- حاسماً وصريحاً:﴿ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ * فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ 24 25.

 

للمزيد راجع كتاب سنن التطور الإجتماعي في القرآن الكريم