حقول مرتبطة:
الكلمات الرئيسية:
الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
القرآن الكريم عند أهل السنّة والجماعة وعند الشيعة الإمامية الاثني عشريّة
هو كلام اللّه المنزل على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو المرجع الأعلى للمسلمين في أحكامهم وعباداتهم وعقائدهم، من شكّ فيه أو أهانه فقد برئ من ذمة الإسلام، فهم ـ المسلمون كافة ـ متفقون على تقديسه واحترامه، والتعبّد بما ورد فيه، ولكنهم اختلفوا في تفسيره وتأويله.
ومرجع الشيعة في التفسير والتأويل يعود إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وشروحات الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام)، ومرجع أهل السنّة والجماعة يعود إلى أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً، ولكنهم يعتمدون على الصحابة ـ دون تمييز ـ أو أحد الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المعروفة في نقل الأحاديث وشرحها وتفسيرها.
وبطبيعة الحال نشأ من ذلك اختلاف في العديد من المسائل الإسلامية وخصوصاً الفقهية منها.
وإذا كان الاختلاف بين المذاهب الأربعة من مدرسة أهل السنّة والجماعة ظاهراً، فلا غرابة في أن يكون بينهم وبين مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) أظهر.
وكما ذكرت في مستهلّ الكتاب فإنّني سوف لن أتطرّق إلاّ إلى بعض الأمثلة بغية الاختصار، وعلى من يريد البحث والاستزادة أن يغوص في أعماق البحر لاستخراج ما يمكنه من الحقائق الكامنة والجواهر المخفيّة.
يتفق أهل السنّة مع الشيعة في القول بأنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بيّن للمسلمين كلّ أحكام القرآن وفسّر كلّ آياته، ولكنهم اختلفوا في من ينبغي الرجوع إليه بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بغية التعرّف إلى ذلك البيان والتفسير: فذهب أهل السنّة إلى الاعتماد على الصحابة ـ دون تمييز ـ ومن بعدهم الأئمة الأربعة وعلماء الأُمة الإسلامية.
أما الشيعة فقالوا: إنّ الأئمة من أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هم المؤهلون لذلك وصفوة من الصحابة المنتجبين; فأهل البيت (عليهم السلام) هم أهل الذكر الذين أمرنا اللّه تعالى بالرجوع إليهم في قوله عزَّ وجلَّ: ﴿ ... فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ 1 2، وهم الذين اصطفاهم اللّه تعالى وأورثهم علم الكتاب في قوله عزَّ وجَّل: ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ... ﴾ 3، ولكلّ ذلك جعلهم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) عِدْلَ القرآن، والثقل الثاني الذي أمر المسلمين بالتمسك به فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): "تركتُ فيكم الثقلين: كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً"4.
وفي لفظ مسلم: "كتاب اللّه... أهل بيتي، أُذكّركم اللّه في أهل بيتي"، قالها ثلاث مرّات 5.
ومن المعلوم أنّ أهل البيت (عليهم السلام) كانوا أعلم الناس وأورعهم وأتقاهم وأفضلهم، وقد قال فيهم الفرزدق:
إن عُدَّ أهلُ التُقَى كَانُوا أئِمَّتُهُم أو قِيلَ مَنْ خَيرُ أهْلُ الأَرضِ قِيلَ هُمُ
وأسوق هنا مثالاً واحداً للتذكير بطبيعة الرابطة بين أهل البيت (عليهم السلام) والقرآن الكريم، فقد قال تعالى: ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ﴾ 6.
فهذه الآيات تشير بدون لبس إلى أنّ أهل البيت (عليهم السلام) وعلى رأسهم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) هم الذين يدركون معاني القرآن الغامضة، لأنّا لو أمعنّا النظر في القَسَم الذي أقسَم به ربّ العزّة والجلالة لوجدنا مايلي:
إذا كان اللّه تعالى يُقسم بالعصر وبالقلم وبالتين وبالزيتون، فعظمة القَسَم بمواقع النجوم بيّنة، لما تنطوي عليه من أسرار وتأثير على الكون بأمره سبحانه، ونلاحظ تعزيز القسم في صيغة النفي والإثبات، فبعد القَسم يؤكد سبحانه: ﴿ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ﴾ 7، والمكنون ما كان باطناً ومستتراً، ثم يقول عزّ وجلّ: ﴿ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ﴾ 8، و (لا) هنا للنفي، ويمسّه تعني يدركه ويفهمه، وليس المقصود بها لمس اليد 9، فهناك فرقٌ بين اللّمس والمسّ، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ 10، وقال أيضاً عزّ منْ قائل: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ... ﴾ 11.
فالمسّ هنا يتعلّق بالعقل والإدراك لا بلمْسِ اليد.
وكيف يُقسم اللّه سبحانه وتعالى بأن لا يلمس القرآن باليد إلاّ من تطهّر، والتاريخ يحدّثنا بأنّ بعض الجبّارين قد عبثوا به ومزّقوه، وقد شاهدنا الاسرائيليين يدوسونه بأقدامهم ـ نستجير باللّه ـ ويحرقونه عندما احتلّوا بيروت في اجتياحهم السيئ الصيت، وقد نقلت أجهزة التلفزة عن ذلك صوراً بشعة ومذهلة؟!
فالمدلول لقوله تعالى هو أنّه لا يدرك معاني القرآن المكنون إلاّ نخبة من عباده الذين اصطفاهم وطهّرهم تطهيراً.
والمطهَّرون في هذه الآية اسم مفعول، أي: وقع تطهيرهم، وقد قال عزَّ وجلّ: ﴿ ... إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ 12.
فقوله تعالى: ﴿ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ﴾ 8، معناه: لا يدرك حقيقة القرآن إلاّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام)، ولذلك قال فيهم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): "النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأُمتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس"13.
وما يذهب إليه الشيعة في ذلك يستند إلى القرآن الكريم وأحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) المرويّة حتى في صحاح أهل السنّة كما وجدنا 14.
- 1. القران الكريم: سورة النحل (16)، الآية: 43، الصفحة: 272.
- 2. وقد ذكرت مصادر التفسير عند أهل السنّة عدّة أقوال في تفسير هذه الآية، منها: أنّها تعني أهل البيت (عليهم السلام)، راجع: جامع البيان للطبري 14: 145 و 17: 8، تفسير القرطبي 11: 272، تفسير ابن كثير 2: 591، وزعم باطلا أنّ قول الإمام الباقر (عليه السلام): "نحن أهل الذكر" الوارد في تفسير الآية بمعنى الأُمة لا أهل البيت (عليهم السلام).
- 3. القران الكريم: سورة فاطر (35)، الآية: 32، الصفحة: 438.
- 4. ورد بألفاظ وأسانيد مختلفة، راجع: الطبقات لابن سعد 2: 194، مسند ابن الجعد: 397، مسند أحمد 3: 14 وفي غير موضع منه، المستدرك للحاكم 3:109 وصححه، كتاب السنّة لابن أبي عاصم: 639 ح1553 ـ 1555، السنن الكبرى للنسائي 5: 45 ح8148، سير أعلام النبلاء 9: 365، مجمع الزوائد للهيثمي 9: 163، كتاب السنّة لابن أبي عاصم: 630.
- 5. صحيح مسلم 7: 123، (كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب علي بن أبي طالب).
- 6. القران الكريم: سورة الواقعة (56)، الآيات: 75 - 79، الصفحة: 536.
- 7. القران الكريم: سورة الواقعة (56)، الآية: 77 و 78، الصفحة: 537.
- 8. a. b. القران الكريم: سورة الواقعة (56)، الآية: 79، الصفحة: 537.
- 9. ذكر القرطبي في تفسيره عند ذكره عدّة تفاسير لها، منها: ما نقله عن الحسين بن الفضل حيث قال: "لا يعرف تفسيره وتأويله إلاّ من طهّره اللّه من الشرك والنفاق".
وقال الآلوسي أيضاً في تفسيره روح المعاني في ذيل الآية ـ بعد ما ذكر أنّ المطهّرين هم الملائكة ـ: "ونفي مسّه كناية عن لازمه وهو نفي الاطلاع عليه وعلى ما فيه".
وكذلك الفخر الرازي في تفسيره رجّح كون (لا) بمعنى النفي لا النهي وأنّها إخبار عن عدم مسّ غير المطهّرين له، ثم قال: "إلاّ المطهّرون" هم الملائكة طهرهم اللّه في أوّل أمرهم وأبقاهم.. ولو كان المراد نفي الحدث لقال: لا يمسّه إلاّ المطهرون أو المطّهّرون بتشديد الطاء والهاء، والقراءة المشهورة الصحيحة ﴿ ... الْمُطَهَّرُونَ ﴾ من التطهير لا من الاطهار، وعلى هذا يتأيد ما ذكرناه من وجه آخر من حيث إنّ بعضهم كان يقول: هو من السماء، ينزل به الجن ويلقيه عليه.. فقال: لا يمسّه الجن وإنّما يمسّه المطهّرون الذي طُهّروا عن الخبث" التفسير الكبير 30: 431 ـ 433.
وقد خلط صاحب كتاب "منهج أهل البيت في مفهوم المذاهب الإسلامية": 25 بردّه على المؤلّف بين استعمال المسّ في اللمس وبين مساواة المسّ للمس في المعنى، فالمسّ يستخدم بمعنى اللمس الحسي، وبمعنى المسّ المعنوي كمسّ العقل ونحوه، ولهذا تقول: هذا ممسوس، بمعنى فيه جنون، وإن شيئاً مسّ عقله فجنه.
ويستخدم المس بمعنى اللمس أيضاً، ولكن هذا لا يعني أنّ المسّ عين اللمس ونفس معناه كما توهمه صاحب كتاب "منهج أهل البيت" ليفسّر الآية المباركة باللمس المادي الذي يعني حمل الكلام على النهي، وقد لاحظت كلمات بعض المفسرين في إبطال كون النفي بمعنى النهي، وإنّما هو إخبار عن عدم مسّ القرآن لغير المطهّر من الخبائث والآثام.
- 10. القران الكريم: سورة الأعراف (7)، الآية: 201، الصفحة: 176.
- 11. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 275، الصفحة: 47.
- 12. القران الكريم: سورة الأحزاب (33)، الآية: 33، الصفحة: 422.
- 13. المستدرك للحاكم 3: 149 وقال: "حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه"، ورواه السيوطي في الجامع الصغير 2: 680 ح 9313 مختصراً بلفظ: "النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان لأُمتي"، وقال المناوي في فيض القدير شرح الجامع الصغير 6: 386: "شبّههم بنجوم السماء وهي التي يقع بها الاهتداء، وهي الطوالع والغوارب والسيّارات والثابتات، فكذلك بهم الاقتداء وبهم الأمان من الهلاك"، ثمّ ذكر أنّ تعدّد طرقه ربما يصيّره حسناً.
ورواه أحمد في الفضائل 2: 671، وأورده القندوزي الحنفي في ينابيع المودّة 1: 72، وابن حجر الهيتمي في الصواعق 2: 445.
- 14. المصدر: كتاب لأكــون مع الصادقـيـن، تأليف العلامة الدكتور الشيخ محمد التيجاني السماوي حفظه الله.