الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

العمل طريقنا إلى بناء الحضارة

من السهل على الإنسان أن يحمل هدفاً ورسالة ، أما أن يحقق ذلك الهدف وتلك الرسالة فإنه أمر شاق للغاية ، كما يؤكد على ذلك الحديث الشريف المروي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام : ( إن أمرنا لصعب مستصعب لا يحتمله إلا ملك مقرب ، أو نبيٌّ مرسل ، أو مؤمن أمتحن اللَّه قلبه للإيمان‏ ) 1 .

وفي هذا الصدد تثار أسئلة عديدة تفرض نفسها ، وتطالب بالجواب عليها بإلحاح وهي :
1 ـ ما هي المسافة بين العمل ونجاحه ؟
2 ـ ما هي المسافة بين الهدف والرسالة وتحقيقها ؟
3 ـ كيف يمكن لنا أن نقطع هذه المسافة ؟

الاعتقاد وحده لا يكفي‏

وفي إطار الإجابة على التساؤلات السابقة نقول : إن الكثير منا يزعم أن مجرد اعتقاده بالحق وإيمانه بقيم الرسالة يكفيانه‏في تقديم إجابات مقنعة على تلك الأسئلة ، غافلاً عن خطأ هذا التصوّر ، فقد جاء عن رسول اللَّه ‏صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( إن على كل حق حقيقة ، وعلى كل صواب نوراً ) 2 ؛ أي إن الإيمان الذي لا يتحول إلى عمل ، والعقيدة التي لا تفرز واقعاً حضارياً حياً ، لا قيمة لهما .
ونحن الذين نؤمن بالإسلام ؛ رغم أن إيماننا هذا هو إيمان لفظي ، ولكننا عندما نراجع أوضاع المسلمين نجد أنهم يمثلون ‏أكثر شعوب العالم تبعية وتمزقاً ، وقد تفشى فيهم الفقر ، والمرض ، وسائر الظواهر الدالة على التخلف والانحطاط .فالإنسان ، والقيم ، والعدالة ، والحرية ، والكرامة . . كل ذلك بات من أرخص القضايا في البلدان الإسلامية .
أما في الأنحاء الأخرى من العالم ؛ فإننا عندما نراهم يتحدثون عن الطفولة ـ مثلاً ـ وعن ضرورة الاهتمام بالطفل ، نجد أن أطفالهم مكرّمون ومحترمون بالفعل ، ففي بلدان العالم نجد منظمات عديدة تهتم بالطفولة ، ومن أبرز هذه المنظمات ‏منظمة ( اليونيسيف‏ ) التي تولت مؤتمراتها وبحوثها في العقود الأخيرة ضرورة الاهتمام بالطفل ، حتى خصصوا له عاماً هو عام الطفل .

انعدام الكرامة

إن كل ما حدث ويحدث في بلداننا من انتهاك لحقوق الإنسان ، وهدر لكرامته ، وعدم إعطائه مكانته الإنسانية اللائقة به ؛ كل ذلك سببه الكرامة التي نزعت عن الأمة ، لأن الأمة المفرغة من القوة والوحدة والحرية . . التي لا وجود حضاري‏لها في هذا العالم ، هذه الأمة لا كرامة لها . فالطفل ، والرجل ، والمرأة ـ والإنسان بصورة عامة ـ ليسوا مكرمين فيها ،وبالتالي فإن الإنسان والقيم أصبحا رخيصين فيها ، بل إن كل شي‏ء فيها أضحى تافهاً لا أهمية له .
ترى هل هدانا اللَّه عز وجل للدين الإسلامي لكي نكون على هذه الشاكلة ، وهل يعني الإسلام التمرق والتخلّف‏ والتبعية والكبت والدكتاتورية ؟
كلاّ ؛ ليس هذا هو الإسلام الذي أراده الخالق سبحانه وتعالى لعبادة ؛ فهو لا يطلب لنا سوى الرحمة والكرامة ، وقد جاء بالإسلام ليسعدنا ويرحمنا ويكرمنا به ، وليرزقنا الفلاح في الدارين بواسطته ، وبناءً على ذلك فإن المسلمين هم ‏المسؤولون ـ دون غيرهم ـ عما يعيشونه من تردد وتخلّف وتراجع .

أساس البناء الحضاري‏

إن الكسل لا يفرز إلا الفشل ، والأنانية لا تفرز غير التبعية ، والجهل لا يولد سوى التخلف . . وهذه الصفات السلبية وغيرها لا يمكن أن تعطينا سوى التمزق ، والتباغض ، فلا يسعها أن تفرز وحدة أو حضارة ، أو تهب للمجتمع التقدم‏والرقي .
فالإنسان لا يستطيع تغيير و حلحلة الوضع المتخلّف الذي يعيشه إلا بسعيه ومثابرته ، لا بالكسل والأنانية والجهل‏والجبن ، كما يؤكد ربنا عز وجل ذلك في قوله : ﴿ ... إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ... 3، وقوله سبحانه : ﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ﴾ 4.
فالدين الإسلامي يؤكد على أساس البناء الحضاري للأمة ، والقرآن الكريم صريح في ذلك ، فهو ـ على سبيل المثال ـ يقول بصراحة فيما يتعلق بالإيثار : ﴿ ... وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ... 5، وفي قضية العلم يوجد في القرآن ما يقرب من ثلاثمائة آية تتحدث حول العلم كقوله تعالى : ﴿ ... وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا 6. وهكذا الحال بالنسبة إلى العمل الصالح ، حيث يأمرنا القرآن الكريم في مائة وعشرين ‏آية بضرورة القيام بالعمل الصالح وربطه بالإيمان : ﴿ ... الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ... 7. وكذلك يدفعنا هذا الكتاب العظيم إلى التوكل على اللَّه ، كما يدفعنا إلى التسلح بسائر الصفات الحميدة والرفيعة كقوله : ﴿ ... وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ 8.
وعلى هذا ؛ فإننا لا نجد في القرآن ما يحثنا على الكسل ، والجبن ، والتبعية ، والعجز . . . بل إن الأمر على العكس من ذلك ‏تماماً ، حيث تأمرنا آياته المباركة بالاستقلال ، والطموح ، والعمل الجاد ، والتطلّع نحو الأفضل .
ولما كان القرآن داعياً إلى انتهاج النهج السليم ، والاتصاف بالصفات المثلى بهذا الوضوح والصدق ، بات حتماً على‏المسلمين ـ بعد اتضاح هذه الحقائق ـ أن يلقوا باللائمة على أنفسهم ، وعلى الطريقة الخاطئة التي فهموا القرآن من‏خلالها ؛ فهم لم يدركوا من القرآن ولم يفهموا منه إلا حروفاً ورسماً ، فتركوا معانيه وحقائقه وبصائره ؛ فهم لا يؤمنون إلا بالقرآن الذي يتلى بصوت حسن جميل في المناسبات ، ولعلّهم يفخرون عندما يقرؤون عشر آيات منه في كل صباح!
وهنا أتساءل : هل إننا نقرأ القرآن بصفته برنامج عمل يوميّ ، وهل نقرأه من أجل تغيير أنفسنا ، أم إننا نتلوه لكي نفسره‏حسب أهوائنا وآرائنا ، فنعمد إلى الآية التي تحثنا على العطاء ، وتدفعنا إلى العمل ، فنحرّفها إلى آية للكسل والتقاعس ؟
فالآية القرآنية التي تقول : ﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ... 9، تأمرنا بالعطاء والإنفاق ، ولكننا نجد البعض يفسرها بالجبن والتخاذل ، ليبرر هزيمته ، غافلاً عن أن القرآن لا يبرر الهزيمة ، ولا يدعو إليها ، بل يأمرنا بالصمود والاستقامة والتحدي .

القرآن تعاليم حياتية

إن القرآن عبارة عن مجموعة تعاليم حياتية وقيم رفيعة ؛ تعلّمنا كيفية العيش بكرامة وسعادة في هذه الدنيا ، وكيف ينبغي‏لنا أن نحيى لنسعد في الدنيا والآخرة معاً . وهذه هي خلاصة محتوى القرآن ورسالته .
وهكذا ، وبعد أن علمنا أن الفهم الخاطئ للقرآن هو السبب الرئيس الكامن وراء تخلف المسلمين وانحطاطهم وتبعيتهم‏أصبح لزاماً علينا أن نحذر من تكرّر هذه الحالة التي ستؤدي بنا ـ إن استمرّت ـ إلى ما لا يحمد عقباه .
إننا لو أخذنا الجانب الاقتصادي لوجدنا أن القرآن يأمرنا بأن نسلك مسلكاً سليماً لا تبذير فيه ولا إسراف ، بل يدعو فيه إلى الاقتصاد والإنفاق المعتدل ، كما تشير إلى ذلك الآية : ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا ﴾ 10. فلا إفراط ولا تفريط ولكننا إذا نظرنا إلى طريقة تعاملنا الاقتصادي في حياتنا لوجدنا أن حياتنا بعيدة كل البعد عمّا اختطّه الإسلام ، وأراده القرآن لنا ، فهي حياة تبذير وإسراف ، إذ أن حياة الاقتصاد والإنفاق المعتدل تعني ـ على سبيل المثال ـ أن لو كان مرتبك الشهري خمسين دولاراً فإن عليك أن تنفق‏ خمسة وعشرين دولاراً منه لاحتياجاتك ، وتهب عشر دولارات منه للفقراء والمساكين ، وتدّخر الباقي ليوم الحاجة ، أما إذا أخذت مرتبك وأنفقته بأكمله ، واستقرضت بالإضافة إلى ذلك مبلغاً آخر ولم يكن ذلك من أجل الإنفاق في ‏سبيل اللَّه ، وإنما في سبيل الاستهلاك ، فحينئذ ستكون حياتك حياة إسراف وتبذير .
وللأسف فإننا ـ بصورة عامة ـ مستهلكون أكثر منا منتجون ، في حين أن القرآن يأمرنا أن نعطي أكثر مما نأخذ ، وأن‏ننتج أكثر مما نستهلك ، كما تشعر بذلك الآية التي تقول : ﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ 11. فحياتنا العملية قائمة على أساس الإسراف‏والتبذير ، ولعل طريقة تعاملنا مع الماء الذي نتوضأ به ، والطعام الذي نأكله ، والملابس التي نرتديها ، وسائر الأدوات‏ والأمتعة التي نقتنيها ونستعملها ، ليست طريقة إصلاح ؛ بل هي طريقة إفساد . وبمعنى آخر ؛ فإن حياتنا استهلاكية رغم‏إننا ندّعي بأننا دعاة إلى اللَّه سبحانه ، وأدلاء إلى سبيله ، ومبلّغون لرسالاته ، فما بالك بالأشخاص العاديين!

أهمية معرفة لغة القرآن‏

إننا نحمل اليوم رسالات أنبياء اللَّه على عواتقنا ، وما علينا سوى أن نصوغ شخصياتنا بهذه الرسالات المقدسة قبل أن‏نصوغ شخصيات الآخرين بها ، وأهم أمر في صياغة أنفسنا أن نبدأ من تعرّفنا على لغة القرآن العميقة ، وكيفية تطبيقها على أنفسنا ؛ فعندما تخاطبنا آيات الذكر تذكّرنا بأن أي عمل يقوم به الإنسان يُجزَ به ، وإن كان مثقال ذرة : ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ 12.
فما الذي يريد أن يقوله لنا القرآن ، ويوصله إلى أذهاننا عبر هذه الآية ؟
إن القرآن الكريم يريد أن يوجد فينا عبر لغته الراقية والدقيقة حبّ العمل الصالح ، والوله به . فآيات القرآن واضحة في ‏هذا المضمار ، وهي تبعث دوماً على النشاط ، والعمل ، والجهاد ، ولكنّ هناك من لا يفهم لغة القرآن ، فيعمد في البدء إلى‏تنفيذ العمل الملقى عليه برغبة منه أو دون رغبة ، إجباراً أو اندفاعاً ، وفي المرة الثانية تراه يتردد قائلاً : ألا يوجد أحد غيري يقوم بهذا العمل ؟ ، أما في المرّة الثالثة ؛ فإنه يهرب نهائياً من العمل!!
وفي هذه الحالة يهاجم الشيطان الإنسان بالتبريرات الجاهزة ، ليقعده عن القيام بالعمل الصالح ، ويلقي بالأعذار في ذهنه‏من قبيل التذرّع بالتعب ، أو عدم جدوى القيام بهذا العمل . . . في حين أن الإنسان الذي يعمل وهو مرغم ، أو لا يعمل‏أساساً لأنه يقدم جملة من التبريرات سلفاً ، فإنه لا يمكن أن ينجح في الحياة ، ولا يكن أن تنجح رسالته التي يحملها ، لأنه‏ليس مخلصاً ومتفانياً في سبيل تحقيق أهدافه .
أما المؤمنون الحقيقيون ؛ فإنهم يعشقون العمل الصالح ، ويعلمون أن لكل شي‏ء حسابه الخاص به في يوم القيامة ، ولذلك‏فهم يجتهدون ويتنافسون في أعمال الخير ، لأنهم عرفوا ووعوا منذ البداية لغة القرآن ، ومعانيه العميقة الواسعة .
ونحن جميعاً ينبغي أن نعمل ، لأننا نؤمن بيوم الحساب ، ونعلم بأن الدار الآخرة هي دار حساب ولا عمل ، والدنيا دار عمل ولا حساب ، وأن العمل الصالح هو الشي‏ء الوحيد الذي يجب أن نتسابق إليه ، ونتنافس فيه قبل حلول الأجل‏وفوات الفرصة .

الأهداف لا تتحقق بالشعارات‏

وعليه ؛ فإن الأهداف العظيمة التي نحملها لا يمكن تحقيقها بالشعارات والهتافات ، لأنها ـ أي الأهداف ـ بحاجة إلى‏تربية ذاتية ، تغيّر من خلالها الشخصية تغييراً كاملاً . فالتراخي والتوالي والأنانية هي أمور لا يمكن أن تصنع حضارة أو تحقق تقدماً وازدهاراً ؛ وأن الشي‏ء الوحيد الذي تحتاج إليه شخصية الإنسان هو الاجتهاد ؛ أي بذل المزيد من الجهد والعطاء .
ونحن عندما ننظر إلى ما أنجزه الغربيون من التقدم ، علينا أن نتأكد بأنهم لم يسبقونا ويتفوّقوا علينا بالكلام والشعارات ،بل كان سر تفوقهم هو العمل والمساعي العلمية والاقتصادية .
وكما أسلفنا ؛ فإن السعي والعمل يتّمان عبر تربية النفس على حب العمل الصالح ، وأن نقرأ القرآن لنقاوم به ضعف أنفسنا ،وجبننا ، وكسلنا ، وأنانيتنا ، وفشلنا ، وجميع المظاهر السلبية في حياتنا لنصنع ـ بالتالي ـ جيلاً قرآنياً يزرع النجاح ‏والأمل والتفاؤل في كل مكان 13 .