مجموع الأصوات: 82
نشر قبل 7 سنوات
القراءات: 7861

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

اصالة الطهارة في الحيوان

مفهوم الحيوان

المراد بالحيوان هنا الأعم من الناطق وغيره، أي لا يراد به فقط غير الإنسان وإنما يشمل الإنسان أيضًا، ولذلك استدل بعض الفقهاء في طيات هذه القاعدة ببعض الأدلة المتعلقة بالإنسان فقط كما سنرى.

وكذلك الحيوان غير الناطق يشمل الأهلي والوحشي من الحيوانات البرية، السباع وغيرها، المأكولة اللحم وغيرها، كما يشمل الحيوانات البحرية المأكولة وغيرها، ولذلك جرى الحديث عند الفقهاء حول كلب البحر وأنه يأخذ حكم الكلب البري أو لا، كما أنه يشمل الحيوانات الطائرة كالطيور والحشرات وشبهها المأكول منها وغير المأكول.

وأيضًا يشمل هذا العنوان الحيوانات الأصلية كالخيل والحمار والخنزير والضأن، كما يشمل المتولدة من مختلفين كالبغل المتولد من خيل وحمار، والمتولد من خنزير وضأن، وهكذا الحيوانات المستنسخة.

كما أن هذا العنوان يشمل المخلوقات الأخرى لو اتضح لها وجود في الأفلاك والعوالم الواسعة في هذا الكون.

مفاد القاعدة

كل حيوان هو في الأصل طاهر وإن لم يكن  مأكول اللحم،  إلا ما دل الدليل على نجاسته، بمعنى أننا لسنا في حاجة لدليل خاص حتى  نثبت طهارة أي حيوان  كان، إنما الدليل لما يراد إثبات نجاسته، وبالتالي فان كل مشكوك يمكن القول بطهارته و يحري هذا على ما يخرج من الحيوان  كاللعاب والعرق والدموع والدم والفضلات وغير ذلك، فكلها طاهرة حتى يثبت الدليل الخاص نجاسة بعضها.

مدرك القاعدة  

يمكن أن يستدل على هذه القاعدة بأدلة متعددة، كل دليل منها كاف في إحراز المطلوب، أهمها:

1/ قاعدة الطهارة الكبرى:
إن أول ما يستند إليه في هذا المطلب قاعدة الطهارة الكبرى، وهي القاعدة التي تؤسس لأصل الطهارة في كل شيء، سواء بالمعنى الذاتي، أو العرضي، أي ما كان ذاتًا طاهرًا، أو ما شك في عروض النجاسة الخارجية عليه من خلالها الملاقاة وشبهها، وهي قاعدة تتكفل بالتأسيس لها موثقة عمار عن أبي عبدالله عليه السلام (في حديث) قال:"كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر، فإذا علمت فقد قذر، وما لم تعلم فليس كذلك"1.

2/ النص في القرآن الكريم على بعض المصاديق النجسة بصفتها مستثنيات من أصل يضادها، ويمكن أن يفهم من ذلك قلة بل ندرة تلك المصاديق.

وقد ورد التأكيد في هذا الاستثناء على الحيوان الناطق وغير الناطق.

فأما الأول فهو قوله تعالى:﴿ ... إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ... 2.

وأما الثاني فقوله عز وجل:﴿ ... أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ... 3.

ويشفع ذلك بما ورد في مثل صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال:"ما حرّم الله في القرآن من دابة إلا الخنزير ولكنه النكرة"4.

فالتأكيد على نجاسة المشركين إنما هو لإخراجهم عن الأصل المقتضي للطهارة، كما أن التأكيد على نجاسة الخنزير –فالرجس هو النجس5- إنما هو لإخراجه عن الأصل، وهذا ليس استنادًا إلى القول بمفهوم الوصف واللقب، وإنما من خلال ضم الآيات إلى الروايات كصحيحة زرارة المتقدمة، فإن ذلك كاشف عن أن المشرك والخنزير استثناء من قاعدة عامة.

3/ معتبرة بل صحيحة الفضل أبي العباس الناصة على طهارة آسار جميع الحيوانات إلا ما شذّ عن القاعدة، قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن فضل الهرة والشاة والبقرة والإبل والحمار والخيل والبغال والوحش والسباع فلم أترك شيئًا إلا سألته عنه، فقال: لا بأس به حتى انتهيت إلى الكلب فقال: رجس نجس لا تتوضأ بفضله واصبب ذلك الماء واغسله بالتراب أول مرة ثم بالماء6

فهذه الرواية دلت على طهارة جميع الحيوانات إلا ما خرج بدليل خاص، وذلك بالتقريب التالي:

أ- أنها دلّت بشكل صريح على طهارة آسارها، وطهارة الآسار تعني طهارة الذوات، وإلا لو كانت الحيوانات نجسة لكانت آسارها نجسة.

ب- الإطلاق في الروايات الشامل للماء الكثير والقليل، وما يمكن أن يقال من احتمال تعلق الحكم بخصوص الماء الكثير، لا وجه له؛ لأن الإطلاق تام والإمام عليه السلام في مقام البيان، ولو كان ثمة فرق بين القليل والكثير لما صح تخلّف البيان.

بل احتمال أن يكون مورد الرواية الماء القليل أقرب، من جهة أن ما ورد في عبارة السائل إنما هو كلمة (فضل) وهي تشير إلى القليل المتبقي من الماء في الغالب، ومن جهة أخرى النهي في كلام الإمام عليه السلام عن التوضؤ بفضل الكلب، إذ لو كان فضل الكلب ماء كثيرًا لما تنجس، فلا بد أن يكون قليلاً.

ج- إن الأمثلة التي جاء بها السائل تشمل جميع الحيوانات المأكولة اللحم وغيرها والسباع وغيرها، وهذا ما يدلل على طهارة جميع الحيوانات، ولم يخرج منها هنا إلا الكلب.

بناء على ذلك فهذه الرواية لوحدها كافية في التدليل على الكبرى الكلية القائلة بطهارة جميع الحيوانات إلا ما خرج بالدليل.

وانطلاقًا من هذه الأدلة أجمع علماؤنا على طهارة كل حيوان ما عدا الكلب والخنزير، وبهذا أيضًا جرت السيرة عند عامة المسلمين مع القطع باتصالها بعصر المعصومة عليه السلام.

وقد نص ابن إدريس في (السرائر) على الإجماع حيث قال:"إن الحيوان ضربان: طاهر ونجس، فالنجس، الكلب، والخنزير، وما عداهما كله طاهر في حال حياته، بدلالة إجماع أصحابنا المنعقد على أنهم أجازوا شراب سؤرها، والوضوء منه، ولم يجيزوا ذلك في الكلب والخنزير، وأجازوا استعمال جلودها بعد التذكية والدباغ، ولم يجيزوا ذلك في الكلب والخنزير بحال"7.

كما صرح صاحب (الجواهر) بالسيرة، قال:"مضافًا إلى الشهرة بين الأصحاب والسيرة القاطعة بين المسلمين مع عموم البلوى، بل من غسل شيئًا من الحيوانات يحكمون أنه من المجانين"8.

وظاهر عبارة ابن إدريس والجواهر عدّ الإجماع والسيرة أدلة مستقلة، وهو ما سار عليه بعض من نقل عبارتيهما9، لكنه غير تام؛ لأن الإجماع مستند إلى تلك الأدلة لا أكثر ولولاها لما كان هناك إجماع من رأس، وعبارة ابن إدريس أيضًا كاشفة عن ذلك لأنه أرجع الإجماع إلى ما ذهبوا إليه من طهارة الآسار، وطهارتها إنما تثبت بالأدلة المذكورة لا الإجماع المستقل.

وأما السيرة فهي من جهة مستندة إلى تلك الأدلة أيضًا، إضافة إلى أنها لا تساوي الأدلة من ناحية الإطلاق، إذ لو لم يكن لدينا إلا السيرة لما وفت في التمسك بأصالة الطهارة بهذا الإطلاق، وإنما في حدود المتيقن، وسيبقى الكثير من الموارد مشكوك، كما أن السيرة قد تكون مبنية على عدم المبالاة، وآنئذ لن تكون كاشفة عن حكم شرعي بهذا المستوى.

بهذا فالعمدة هي الأدلة الثلاثة المذكورة، وأما الإجماع على مستوى الفتوى، وسيرة المسلمين فهي مؤيد.

تنبيهات

التنبيه الأول

ورد في روايتين ما قد يفهم منه نجاسة أسآر ما لا يؤكل لحمه، ففي صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال:"لا بأس أن تتوضأ مما شرب منه ما يؤكل لحمه"10.

وفي موثقة عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال:"سئل عما تشرب منه الحمامة، فقال: كل ما أكل لحمه فتوضأ من سؤره واشرب"11.

حيث يمكن أن يدعى دلالتها على ذلك بناء على القول بمفهوم الوصف، أو كونها في مقام التحديد كما استقربه السيد الخوئي12، بمعنى أن الإمام عليه السلام كان يحدد ما يجوز الاستفادة من سؤره، فيلزم من ذلك خروج غير المذكور في الرواية.

وقد ذهب فعلاً الشيخ الطوسي في (المبسوط) إلى القول بوجوب الاجتناب عن سؤر بعض مما لا يؤكل لحمه فيما عدا الإنسان والطيور استنادًا لمثل هذه الروايات، مع أنه لم يقل بنجاستها ولا نجاسة أسآرها، قال:"فأما غير الطيور فكل ما كان منه في البر فلا بأس بسؤره إلا الكلب والخنزير وما عداهما فمرخص فيه، وما كان منه في الحضر فلا يجوز استعمال سؤره إلا ما لا يمكن التحرز منه مثل الهر والفأرة والحية"13.

بل ذهب ابن إدريس الحلي إلى القول بنجاسة أسآرها حيث قال:"فأما غير الطيور على ضربين: حيوان الخضر، وحيوان البر.  وحيوان الحضر على ضربين: مأكول اللحم وغير مأكول اللحم. فمأكول اللحم سؤره طاهر مطهر، وغير مأكول اللحم فما أمكن التحرز منه سؤره نجس، وما لا يمكن التحرز منه فسؤره طاهر... فأما سؤر حيوان البر فجميعه طاهر سواء كان مأكول اللحم أو غير مأكول اللحم"14.

ويلاحظ أنهما لم يعمما الحكم لجميع ما لا يؤكل لحمه مع ظهور الروايتين في التعميم بناء على فهمهما  لهما، وذلك للتوفيق بينهما وبين الكثير من الروايات الدالة على طهارة سؤر الإنسان والطيور. أي أنهما عملا بالروايتين واستظهرا منهما عدم الجواز لكن هذا الفهم يناقش من جهتين:

  1. عدم صحة القول بالنجاسة أو حتى وجوب الاجتناب، لصراحة صحيحة الفضل أبي العباس المتقدمة في الدلالة على طهارة وجواز الانتفاع، أي عدم وجو الاجتناب.
  2. الوصف لا مفهوم له، وحتى لو كان لذلك استثناء كما هو الواقع، لكن ما نحن فيه ليس منه.

فالروايتان ليستا إلا في حدود التأكيد على طهارة سؤر ما يؤكل لحمه، من غير أن يكون هناك لحاظ لما عداه.

وبناء على ذلك فالروايتان ليستا مخصصتين للعمومات الدالة على أصالة الطهارة في كل حيوان، بل هما تدلان على القاعدة نفسها وإن لم يكن على نحو الإطلاق.

التنبيه الثاني

ورد في بعض الروايات ما قد يستظهر منه نجاسة الثعلب كما عليه بعض المتقدمين كالشيخ في (النهاية) والحلبي وابن زهرة وابن البراج، والأرنب -كما في مصباح السيد- والوزغ –كما عن المفيد في (المقنعة) والصدوق والشيخ في (النهاية)- والعقرب كما عن ابن حمزة وسلار، والفأر كما عن الشيخ في (النهاية) والمفيد في (المقنعة) وسلار، بل ذهب البعض إلى القول بنجاسة مطلق المسوخ كالشيخ في (الخلاف) والاسكافي وآخرين. ولو تم ذلك لكان استثناء من القاعدة.

فقد ورد في مرسلة يونس عن بعض أصحابه عن الصادق عليه السلام قال: سألته هل يحل أن يمس الثعلب والأرنب أو شيئًا من السباع حيًا أو ميتًا؟ قال:"لا يضره ولكن يغسل يده"15.

وفي صحيحة علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام قال: سألته عن الفأرة الرطبة قد وقعت في الماء فتمشي على الثياب أيصلي فيهما؟ قال:"اغسل ما رأيت من أثرها وما لم تره انضحه بالماء"16.

وفي صحيحة معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الفأرة والوزغة تقع في البئر، قال:"ينزح منها ثلاث دلاء"17.

وفي موثقة أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن الخنفساء تقع في الماء أيتوضأ به؟ قال: نعم لا بأس به، قلت: فالعقرب؟ قال: أرقه18.

ولكون بعض المصاديق من المسوخات كالوزغ والفأرة قيل بنجاسة مطلق المسوخات، وربما استند في ذلك إلى حرمة بيعه كما توقعه السيد الشيرازي19، ولهذا قال النجفي في (الجواهر):"لم نعرف له دليلا يعتد به على النجاسة بالمعنى المعروف"20.

وعلى كل حال فكل هذه الروايات غير كافية في الدلالة على نجاسة المذكورات، للدليل العام والخاص الدال صراحة على طهارتها.

فأما الدليل العام فصحيح الفضل أبي العباس المتقدم الدال على طهارة جميع الحيوانات، ولو قيل بعدم كفايته لعدم ذكر هذه العناوين بخصوصها فيه، أمكن القول بشمول الصحيح لا أقل للثعلب؛ لأنه من السباع وقد ذكر عنوان السباع فيه. وبهذا يمكن الجمع بين صحيحة الفضل ومرسلة يونس بالقول باستحباب الغسل في الثعلب بل وسائر السباع، ويضم إلى ذلك الأرنب؛ لأنه سيأخذ حكم الثعلب والسباع لا لأنه من السباع وإنما لذكره في مرسلة يونس مقارناً للثعلب والسباع، وأما العناوين الأخرى فتتكفل بها الأدلة الخاصة.

ففي الوزغ والفأرة جاء في صحيح علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام قال: سألته عن العظاية والحية والوزغ تقع في الماء فلا تموت أيتوضأ منه للصلاة؟ قال:" لا بأس به"، وسألته عن فأرة وقعت في حب دهن وأخرجت قبل أن تموت أيبيعه من مسلم؟ قال:"نعم ويدهن به"16.

وفي العقرب جاء في رواية هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن الفأرة والعقرب وأشباه ذلك يقع في الماء فيخرج حيًا هل يشرب من ذلك الماء ويتوضأ به؟ قال: يسكب من ثلاث مرات، وقليله وكثيره بمنزلة واحدة، ثم يشرب منه ويتوضأ منه"21.

بتقريب أن الماء لو كان أصبح نجسًا لما أمكن تطهيره بسكب الماء ثلاث مرات، هذا إذا كان قليلا، وأما إذا كان كثيرًا فإنه لا يتنجس كما أنه لا يطهَّر بالسكب ثلاث مرات، وقد جاء في الرواية >وقليله وكثيره بمنزلة واحدة<، فتكون هذه الرواية دالة على طهارة العقرب.

ولن يضر بذلك ضعف سندها، لما استقربه السيد الخوئي من أن موثقة أبي بصير غير صريحة في الدلالة على النجاسة؛ لأن الأمر بإراقة الماء لا دلالة فيه على النجاسة وقد يكون لوجود السم، كما أن ميتة العقرب لا توجب النجاسة؛ لأنه مما لا نفس له فكيف به في حال الحياة22.

هذا وقد استدل السيد الشيرازي في (الفقه)23 على طهارة الثعلب بما ورد حول قابليته للتذكية كصحيحة جميل عن أبي عبد الله عليه السلام قال:سألته عن جلود الثعالب إذا كانت ذكية أيصلي فيها؟ قال: نعم24.

وإن كان قد ورد نهي عن الصلاة فيها كرواية جعفر بن محمد أبي زيد، قال سأل الرضا عليه السلام عن جلود الثعالب الذكية؟ قال: لا تصل فيها25.

لأن الاختلاف في جواز الصلاة بها لا يضر بالمطلب هنا بعد أن كانت قابلة للتذكية، باعتبار أن صحيحة جميل صريحة في ذلك، وأما رواية جعفر فالإمام عليه السلام وإن لم يجز الصلاة فيها إلا إنه لم يردع عن الذكاة وهو قرينة القبول.

وأضاف السيد إلى ذلك ما دل على جواز لبسها خارج الصلاة؛ لأنه أمارة على الطهارة، فقد ورد في صحيحة علي بن يقطين قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن لباس الفراء والسمور والفنك والثعالب وجميع الجلود، قال:"لا بأس بذلك"26.

وصحيحة علي بن راشد قلت لأبي جعفر عليه السلام: الثعالب يصلى فيها؟ قال: لا ولكن تلبس بعد الصلاة27.

والقابلية للذكاة أمارة على الطهارة بلا كلام، وربما يكون جواز اللبس خارج الصلاة كذلك، وإن أمكن التأمل فيه.

بهذا تكون سائر الروايات التي استظهر منها البعض نجاسة المذكورات محمولة على استحباب التنزّه من آثارها، ولذلك فإن عبارة السيد اليزدي إن كانت ظاهرة في مثل هذا الاستحباب فهي تامة، وأما إن أراد منها وجود شبهة من ناحية التوفيق بين الروايات فهي محل نظر، حيث أنه قال بالاحتياط الاستحبابي، وهذه نص عبارته:"الأحوط الاجتناب عن الثعلب والأرنب والوزغ والعقرب والفأر، بل مطلق المسوخات، وإن كان الأقوى طهارة الجميع"28.   

وأما الاستدلال بإعراض الأصحاب عن الروايات الدالة على النجاسة كما هو مدعى السيد الشيرازي29فغير متين؛ لأن عمل بعض المتقدمين بها كما بيّنا دليل على عدم دقة هذا الادعاء، نعم هناك إعراض عند المتأخرين ومن جاء بعدهم، والإعراض الذي يعوّل عليه في الغالب إنما هو إعراض المتقدمين.

هذا وما زال هناك بعض التفاصيل، لكن فيما ذكر كفاية لإثبات المدعى وسلامة الأصالة من أي  معارض.

التنبيه الثالث

ورد في بعض الروايات المعتبرة عدم جواز الصلاة في شيء من أجزاء ما لا يؤكل لحمه، حتى وإن كان مذكى من بينها موثقة ابن بكير قال: سأل زرارة أبا عبد الله عليه السلام عن الصلاة في الثعالب والفنك والسنجاب وغيره من الوبر، فأخرج كتاباً زعم أنه إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله أن الصلاة في وبر كل شيء حرام أكله فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وكل شيء منه فاسد، لا تقبل تلك الصلاة حتى يصلي في غيره مما أحل الله أكله، ثم قال يا زرارة هذا عن رسول الله صلى الله عليه وآله فاحفظ ذلك يا زرارة، فان كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكل شيء منه جائز إذا علمت أنه ذكي قد ذكاه الذبح، وإن كان غير ذلك مما قد نهي عن أكله وحرّم عليك أكله فالصلاة في كل شيء منه فاسد، ذكاه الذبح أو لم يذكه30.

وصحيحة إسماعيل بن سعد بن الأحوص قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن الصلاة في جلود السباع، فقال: لا تصل فيه31.

والرواية الثانية وإن كانت خاصة بالسباع، إلا أن الأولى عامة تشمل جميع ما لا يؤكل لحمه وإن لم يكن من السباع، وكلتاهما كافيتان في الدلالة على المدّعى، ولذلك كاد الحكم بذلك يصبح إجماعياً لولا مخالفة صاحب(المدارك)، بل ادعي فيه الإجماع، فقد قال النراقي في (المستند):"بالإجماع المحقق والمحكي مستفيضًا بل متواترًا، بل الظاهر أنه من شعارات الشيعة يعرفهم به العامة، وهو الحجة في المقام"32.

أما صاحب (المدارك) فقد قال:"وبالجملة فهذا الاعتبار قاصر، والروايات لا تخلو من ضعف في سند أو قصور في دلالة، والمسألة محل إشكال"33.

إلا أن إشكاله في غير محله فالروايات من ناحية السند تامة، نعم بناء على مبناه من اشتراط العدالة والوثاقة في الراوي –كما أشار إلى ذلك السيد الخوئي34- يأتي الإشكال على الموثقة، وهو اشتراط غير تام كما نبه له في محله.

وأما من ناحية الدلالة فهي تامة وصريحة أيضًا، والوجه في الإشكال ربما يعود إلى عدم صراحة روايات أخرى كصحيحة محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن جلود الثعالب أيصلي فيها؟ فقال:"ما أحب أن أصلي فيها"35.

فقوله عليه السلام "ما أحب" قد يستشم منها الدلالة على الكراهة فقط، بل ورد في مضمرة محمد بن إبراهيم قال: كتبت إليه أسأله عن الصلاة في جلود الأرانب، فكتب: مكروه11.

ولعله لهذا قال السيد السيستاني بأن الحكم في غير السباع مبني على الاحتياط اللزومي36.

ومع ذلك لا داعي للإشكال والاحتياط بعد صراحة الروايات الأخرى، وهي حاكمة على مثل هذه الروايات، ويؤيد ذلك بالإجماع، ولذلك علق صاحب (الوسائل) على رواية محمد بن إبراهيم قائلا:"الكراهة محمولة على التحريم، أو على الضرورة، أو التقية"35.

لهذا فالقول بعدم الجواز تام لا خدشة فيه، إلا إنه ينبغي التأكيد هنا أن هذا الحكم تعبدي خاص لا علاقة له بالنجاسة، فعدم جواز الصلاة في شيء من أجزاء ما لا يؤكل لحمه لا يعني نجاستها حتى يكون ذلك معارضًا لأصالة الطهارة في الحيوان، وإنما هو حكم تعبدي دلت عليه نصوص خاصة إذ أن طهارة غير المأكول اللحم ثابت بأدلة خاصة سبق بيانها.

التنبيه الرابع

استدل جمع من العلماء ببعض الروايات على نجاسة عرق الإبل الجلالة، بل منهم من قال بشمول النجاسة إلى كل حيوان جلال ولو على نحو الاحتياط كما هي عبارة السيد اليزدي والساكتين عنها من أغلب المعلقين على العروة الوثقى28.

ففي صحيح هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال:"لا تأكل لحوم الجلالات، وإن أصابك من عرقها فاغسله"37.

وفي صحيح حفص بن البختري عن أبي عبد الله عليه السلام قال:"لا تشرب من ألبان الإبل الجلالة وإن أصابك  شيء من عرقها فاغسله"11.

باعتبار أن الأمر بالغسل أمارة على النجاسة، وأما الإطلاق الشامل لكل حيوان جلال فللعموم الوارد في صحيح هشام.

لكن جمعًا من العلماء أشكل على الأمرين، فأما النجاسة فلأن الأمر بالغسل إنما هو تفريع على النهي عن أكل لحومها، ما يعني أن الأمر بالغسل لأنها غير مأكولة اللحم شأنها شأن بقية غير المأكولات اللحم من الحيوانات، أي أن الأمر بالغسل لعدم جواز الصلاة فيها لا لنجاستها.

وأما عدم الشمول لكل حيوان فلحمل اللام في صحيحة هشام في قوله (الجلالات) على العهد، فيكون المراد الجلالات من الإبل38.

لكن كلا الإشكالين لا يمكن الاطمئنان لهما، فأما الأول فلأن تخصيص الأمر بالغسل لخصوص الصلاة غير ظاهر وإن كان تفريعًا على عدم جواز أكل اللحم، فقد يكون أمرًا تعبديًا خاصًا بالجلال، ولو كان الأمر متعلقاً بالصلاة لبيّن الإمام عليه السلام، وحيث لم يبيّن ذلك فالأصح حمله على النجاسة، والتمثيل بين غير مأكول اللحم والحيوان الجلال من هذه الجهة قياس غير صحيح.

وأما الثاني فلا قرينة تجيز لنا التصرف في اللام بحملها على العهد، لهذا الصحيح القول بالإطلاق.

وبهذا فالأصح القول بنجاسة عرق الإبل الجلالة وكل حيوان جلال، كما أن الأمر لا يتعلق بالعرق فقط وإنما بكل شيء فيه، إنما ذكر العرق بالخصوص؛ لأنه محل للابتلاء غالبًا كما أشار إلى ذلك السيد الخوئي39 40.

  • 1. وسائل الشيعة: ج2، ص1054.
  • 2. القران الكريم: سورة التوبة (9)، الآية: 28، الصفحة: 191.
  • 3. القران الكريم: سورة الأنعام (6)، الآية: 145، الصفحة: 147.
  • 4. تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي: ج9، ص93 .
  • 5. لسان العرب لاين منظور: ج6، ص94.
  • 6. تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي: ص123 دار الأعلمي للمطبوعات. بيروت.
  • 7. السرائر لابن إدريس الحلي: ج 3، ص 118.
  • 8. جواهر الكلام: ج3، ص375.
  • 9. انظر: القواعد الأصولية والفقهية، إعداد اللجنة العلمية في الحوزة العلمية بقم، ج3، ص320.
  • 10. وسائل الشيعة: ج1، ص167.
  • 11. a. b. c. المصدر نفسه.
  • 12. موسوعة السيد الخوئي: ج2، ص368.
  • 13. المبسوط: ج1، ص10.
  • 14. السرائر لابن إدريس الحلي: ج1، ص84.
  • 15. وسائل الشيعة: ج2، ص935.
  • 16. a. b. وسائل الشيعة: ج2، ص1049.
  • 17. المصدر نفسه: ج1، ص137.
  • 18. المصدر نفسه: ج2، ص935.
  • 19. الفقه للسيد محمد الشيرازي: ج4، ص370.
  • 20. جواهر الكلام: ج6، ص82.
  • 21. المصدر نفسه: ج1، ص138.
  • 22. موسوعة الإمام الخوئي: ج3، ص147.
  • 23. الفقه للسيد الشيرازي: ج4، ص368.
  • 24. وسائل الشيعة: ج3، ص260.
  • 25. المصدر نفسه: ج3، ص259.
  • 26. المصدر نفسه: ج3، ص255.
  • 27. المصدر نفسه: ج3، ص258.
  • 28. a. b. العروة الوثقى: ج1، ص149.
  • 29. الفقه: ج4، ص368.
  • 30. المصدر نفسه: ج3، ص250.
  • 31. المصدر نفسه: ج3، ص257.
  • 32. مستند الشيعة للنراقي: ج4، ص307.
  • 33. مدارك الأحكام للسيد العاملي: ج3، ص163.
  • 34. موسوعة الإمام الخوئي: ج12، ص169.
  • 35. a. b. وسائل الشيعة: ج3، ص258.
  • 36. العروة الوثقى: ج2، ص49، مكتب آية الله العظمى السيد السيستاني.
  • 37. وسائل الشيعة: ج16، ص354.
  • 38. انظر تفصيل ذلك في موسوعة الإمام الخوئي: ج3، ص143.
  • 39. المصدر نفسه: ص145.
  • 40. الموقع الرسمي لسماحة الشيخ فيصل العوامي حفظه الله و الدراسة منشورة في العدد (15/16) من مجلة الفقاهة - 1 / 1 / 2011م - 7:50 ص.