الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الغدير وحديث الثقلين

(إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض) الرسول الأكرم “صلى الله عليه وآله”. هذا الحديث المعروف عند المسلمين عامّة باسم “حديث الثقلين” والذي يتضمن دلالتين مهمتين جداً:
الدلالة الأولى: ضرورة تمسك الأمة بالقرآن الكريم لأنه الوحي الإلهي المحتوي على الأسس العامة لبناء المجتمع الإسلامي ذات الطابع الإنساني الشمولي الرفيع المستوى.
الدلالة الثانية: ضرورة التمسك بأهل البيت “عليهم السلام” لأنهم النماذج المؤهلة لحمل الأمانة والقيام بأعباء المسؤولية في تطبيق النهج القرآني في حياة الأمة لإعطاء النظرية الإسلامية أبعادها التطبيقية بأعلى درجات التكامل.
والمناسبة التي سقنا الحديث عن الثقلين من أجلها هي ذكرى “يوم الغدير” الذي تضمن حدثاً جليلاً وهو تأسيس خط الولاية لأئمة أهل البيت “عليهم السلام” الذين ناب عنهم في حمل راية الولاية على الأمة في ذلك اليوم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب “عليه السلام” وذلك القول المشهور في خطبة الرسول الأعظم “صلى الله عليه وآله” في حفل التنصيب: (من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله).
فالنبي “صلى الله عليه وآله” قاد مسيرة الرسالة الإسلامية منذ بدء الدعوة كونه الشخصية التي اختارها الله لهداية البشرية وإنقاذها من الضلال والانحراف ونجح بعد صعوبات وعقبات كبيرة في هذه المهمة وأقام الدولة الإسلامية التي تطبق النموذج الإلهي للحياة، وبقيادته الحكيمة، كانت المسيرة مضمونة ومحفوظة ولم يكن هناك خطر على التجربة من التأويل أو الانحراف، وكان هناك قابلية لتعميم التجربة لإنقاذ الشعوب كافة بمقتضى عالمية الرسالة وشموليتها.
و شك بأن غياب النبي “صلى الله عليه وآله” عن مسرح الأحداث عبر عروجه إلى جوار الساحة الربوبية لحضرة الذات الإلهية المقدسة، كان سيحدث فراغاً على مستوى القيادة التي تتمكن من الاستمرار في حفظ التجربة من جهة، والسعي لتوسيع نطاق امتدادها في العالم.
والكل يعلم أن القيادة لا يمكن أن تكون مطمعاً لأي طامح إليها من منظور الثوابت الإسلامية في هذا المجال، لأن الأبعاد الغيبية والأخروية للرسالة تجعل من موقع القيادة موقعاً متميزاً يحتاج إلى النماذج الكفيلة بحفظ التوازن بين متطلبات التطور في الحياة الاجتماعية والسياسية العامة، وبين الثبات في خط السير في طريق العبودية للمعبود الحقيقي، بحيث لا يطغى جانب منها على الآخر في طريقة أداء القيادة وإدارتها تطبيقاً لمقولة: (الدنيا مزرعة الآخرة).
ولا ريب أن مهمة من هذا النوع لا يمكن أن يتحمل مسؤوليتها الأشخاص الذين لا يمتلكون المؤهلات الإيمانية والروحية من جهة، والإدارية والسياسية من جهة أخرى، التي تحفظ الشريعة من التأويل، وتتضمن مسيرة الأمة من الانحراف والسقوط.
لهذا كان النبي “صلى الله عليه وآله” يؤكد في المناسبات المختلفة على الشخصيات القيادية الرسالية لأئمة أهل البيت “عليهم السلام” وهي النماذج القريبة من النموذج المحمدي الأصيل، ويكفي مثلاً على ذلك: (مثل أهل بيتي كسفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق).
والتركيز الأهم كان على شخصية أمير المؤمنين “عليه السلام” كونه المصداق الواضح والبارز للعيان أمام الأمة كلها وقد انعقدت البيعة له وللأئمة “عليه السلام” من بعده عبر شخصه الكريم لتكون تلك البيعة تأكيداً على الاستمرار في قيادة الأمة على طريقة الرسول الأعظم “صلى الله عليه وآله”.
والذي مهد لتلك البيعة هو الحضور الفاعل لشخصية أمير المؤمنين “عليه السلام” في كل جوانب الحياة والجهاد في المجتمع الإسلامي الأول، إن من جهة الإحاطة بالإسلام وأحكامه، والقرآن وعلومه، أو من جهة التضحيات التي بذلها في الحروب الكثيرة التي كان وجوده فيها عنصراً أساسياً من عناصر الانتصار وتثبيت قواعد الدولة الإسلامية الناشئة، بحيث إن المسلمين لم يملكوا أمام عظمة شخصيته سوى الخضوع والتسليم للأمر الإلهي بتولي الإمام “عليه السلام”قيادة الأمة بعد النبي “صلى الله عليه وآله”.
والآية القرآنية التي نزلت على رسول الله “صلى الله عليه وآله”بعد إبرام أمر البيعة ﴿ ... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ... 1، توضح بما لا يقبل الجدل أن الولاية هي الكفيلة باستمرار النهج المحمدي الأصيل، بل هي القضية التي لا يمكن لمسيرة الإسلام أن تكتمل، أو للأمة الإسلامية أن تعيش الرسالة بصفاء إلا من خلال سريان مفاعيلها في مختلف جوانب الحياة عند المسلمين.
وبذلك تتكامل دلالة “حديث الثقلين” مع دلالة “يوم الغدير” لتوضيح حقيقة الولاية التي انعقد لواؤها للأئمة “عليهم السلام” التي تقوم على مبدأ اعتماد الشخصيات القيادية في الأمة وترعاها بالنحو الذي يوصلها إلى الأهداف الدنيوية والأخروية.
من هنا نسجل للإمام الخميني الراحل “قده” الإنجاز التاريخي الرائد الذي حققه عبر إحياء مقولة” ولاية الفقيه” في زمن الغيبة وإعادتها إلى دورها الطليعي والقيادي في حياة الأمة، كونها الاستمرار التشريعي لولاية النبي “صلى الله عليه وآله” والأئمة الأطهار “عليهم السلام” وقد عبرت صيغة ولاية الفقيه بالقيادة الحكيمة للإمام “قده” عن عظمة دورها إذا تولاها القائد ذو المواصفات والشروط المطلوب توافرها إسلامياً.
هذه الولاية هي التي يقوم اليوم بأعبائها ويتحمل مسؤولياتها الكبيرة ولي أمر المسلمين آية الله السيد علي الخامنئي حفظه الله وسدد خطاه للحفاظ على هذا النهج القيادي المتميز الذي يمتلك القدرة على تفعيل طاقات الأمة وتحريكها إلى ما تصبو إليه من أهداف على مستوى الدنيا والآخرة معاً. والحمد لله رب العالمين2.