الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

بعث الانبياء

الدين ضرورة يقتضيها تنظيم الكون ، وتنظيم الحياة ، وتنظيم سلوك الإنسان الفرد وسلوك الإنسان الأمة ، وتنظيم علائقه بعضه ببعض وفرده بالمجتمع ، وتوثيق روابطه بالكون ، وتوثيق صلته العظمى برب الكون .

والدين نظام اختياري لا سبيل فيه للجبر ولا مساغ للاضطرار ، لأنه توجيه للعقل وتقويم للارادة وتهذيب للضمير ، وأخذ بيد الإنسان في سلوكه الاختياري إلى كماله الأعلى الاختياري . وقد قدمنا تفصيل هذا وأقمنا على ثبوت وجوهاً من البرهان .
ومتى استبان ذلك للعقل وعلم به حق العلم فقد اتضح له دون مرية إن بعث الأنبياء ضرورة لابد منها كذلك .
ضرورة تقتضيها جميع النواحي المذكورة ، من حيث انه ضرورة يقتضيها وجود الدين وتبليغ أحكامه .
الدين عقيدة للإيمان تستتبع شريعة للعمل ، وجليّ أن كل واحدة من هاتين اختيارية تعتمد على الموازنة والترجيح وإمعان الفكر في التصويب أو التخطئة وليست سنة طبيعية لها في مجال التكوين مجرى معين لا تعدوه وغاية محدودة لا تنحرف عنها . والدين وضع الهي لا مدخل للبشر في تشريعه ، وليس في طاقة أي منهم إن يكون له مدخل فيه وجميع هذا قد تقدم الحديث فيه مبسوطاً مشروحاً .
وإذا فلا محيد عن النبوة إذا لم يكن محيد عن الدين .
لان مصدر التشريع في الدين هو الله . وليس بمقدور الناس إن يتفهموا دينهم عن الله سبحانه مباشرة دون وسيط .
والرسالة في صفتها الأولى سفارة عن الله تعالى تقوم بشرح العقيدة وإبلاغ الشريعة ، وإيضاح الحجة ، والرسول في مهمته الثانية داعية إلى الله يبين للناس رسوم الحق ومعالم الباطل . وينير أبصارهم محاسن الهدى ومقابح الضلال ، وقول الرسول سند لثبوت كل رسم من رسوم الدين وكل بند من بنود الشريعة وكل وكل علم من أعلام الحق ، والرسول هو النموذج الأعلى الذي اعده الله للناس ليصوغوا أنفسهم على مثاله ، بأقواله يهتدون وبأعماله يقتدون : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا 1.
كل هذه تدلنا على إن بعث الرسل ضرورة لا غناء للبشر عنها : لان الدين ضرورة لا غناء للبشر عنها .
وكل هذه تدلنا على إن عصمة الرسول واجبة . لان أهداف الرسالة لا تتم بدونها .

عصمة الرسول في التبليغ لأنه سند للشريعة

وعصمته في السلوك والصفات لأنه المثال الأعلى للأمة .
وعصمته في كل قول وفي كل عمل . لان دليل الصدق لا يكون كاذباً وقيم العدل لا يكون ظالماً ، وبرهان الصواب لا يكون ضالاً .
هذه حقائق لن يرتاب العقل المستنير في واحدة منها إذا هو استوضح معنى الرسالة في الدين ، واستبان مقام الرسول من الشريعة واستجلى موضوع قيادته للأمة .
ولن يرتاب العقل المستنير في واحدة منها إذا علم أن الرسالة سفارة يقيم الله بها حجة ، وينيط بسلوكها نظاماً ويمهد بها إلى غاية . هي غاية الله سبحانه من تكوين هذا الوجود وايجاد هذا الكائن .
ولن يرتاب العقل المستنير في واحدة منها إذا أيقن إن الرسول لازم التصديق في كل قول ، واجب الإطاعة في كل حكم ، مفروض الإجلال والتوقير على كل حالة . وما كان الله ليحتم تصديقه على الناس إذا كان لا يمتنع على قول الكذب ، وما كان ليوجب طاعته عليهم إذا كان لا يستحيل على عمله الخطأ ، وما كان ليفرض إجلاله وتوقيره في كل حالة إذا كان غير مأمون الخيانة غير مأمون العثار .
لن يرتاب العقل المستنير في وجوب عصمة الأنبياء إذا هو استوضح هذه المعاني . أما ما يوهم خلاف هذه العقيدة من النقول فلا مناص من تأويله .
لا مناص من تأويله إذا اتسع لفظة للتأويل ، ولا مناص من طرحه إذا لم يتسع لذلك . وأقول :
لا مناص من طرحه إذا لم يتسع لفظه للتأويل ، لان النقل حين ذاك يكون مقطوع الكذب وأية قيمة للدليل إذا كانت هذه صفته ؟ .

النبوة

هبة فوق الهبات تُمدّ بها عبقرية فوق العبقريات .
هذه النبوة في افقها الرحب وفي نعتها الشامل الذي تشترك به عامة الأنبياء ، و تذعن لطاعته أصناف البشر .
ليست خُلُقاً يتوصل إلى تهذيبه بالمجاهدة ، وليست مكاشفة يتذرع إلى اكتسابها بالتبتل ، ولا مرتبة نفسية أخرى يتدرج إلى الحصول عليها بالرياضة .
ليست النبوة شيئاً من هذه الفضائل لتخضع للاختيار وتنال بالاجتهاد ، ولكنها هبة من هبات الله سبحانه ، وهبات الله لا تكل جزافاً دون وزن ، ولا تفاض على احد دون استحقاق . بل لا بد من عبقرية فريدة تتسع لهذه الهبة الفريدة .
عبقرية تحسن قيادة الأمم المختلفة في العوائد ، والأفراد المتباينة في الطبائع ، والعقول المتباعدة في الإدراك . عبقرية هي الفرد الاتم الأسمى في كل مجالات العبقرية ، بحيث يتفيأ ظلالها كل عبقري ، ويقبس من صلاحها كل مصلح ، ويستضيء بهديها كل هاد ، ويستكمل من عرفانها كل عارف .
هذه العبقرية الفريدة في الناس هي وحدها التي تقدر إن تنهض لله بالشرط حين يحملها عبء هذا الميثاق ، ويستودعها سر هذه الهبة ، ويمنحها شارة هذه الزعامة . وهي وحدها التي تطيق إن تستقبل وحي الله كاملاً غير منقوص ، ثم تؤديه إلى كل فرد من عباد الله كاملاً غير منقوص . وهي وحدها التي تحسن إن توجه هداية الله إلى خلقه توجيهاً مشعاً بالنور وافياً بالحاجة .
مشعاً فلا يطغى على البصائر لتعقيد ، ولا تزاور عنه العقول لوهن ، ولا تتجافى عنه لتهافت . وافياً فلا تزيد يلحقه بالفضول ، ولا قصر يقعد به دون المقصود ، ولا غموض يسف به عن الحكمة وينقطع به دون النتيجة .
توجيهاً يوائم عظمة الحق في تشريعه ، وعظمة الدين في مناهجه ، وعظمة الإنسان في غايته ، بحيث تصطلح العقول المتباينة على اكباره ، وتجتمع على الافادة منه ، فيأخذ كل عقل منه ما يحتمل ، كالغيث يأخذ كل موضع منه بمقدار ما يتسع وتمتص كل نبتة منه بمقدار ما ترتوي ، وكالكهرباء يقبس كل مصباح منه قدر ما يطيق ، ويفيد كل جهاز منه قدر ما يبتغي .
هذا العقل الفريد الذي يمد العقول كلها فلا تنكر ، ويأخذ بأعضادها فلا تقصر ، وهذه الروح الذي يوجه الأرواح كما يشاء ويتصرف في ملكاتها كيفما يريد ، وهذه النفس التي تزكو بزكاتها النفوس ، والقلب الذي تصفو بصفائه القلوب . وأخيرا هذه الإنسانية المشعة في جميع مناحيها ، الرشيدة من كل جهاتها ، هي التي تستحق إن يضع الله بيديها زمام البشر ، وان ينيط بها سبب هدايتهم ، ويجعلها منار رشدهم .
وظن العابثون من قريش الطامعون بما يستحيل أن يكون ، ظن هؤلاء إن النبوة حظ يجب إن يسقط على مقدار سعة الأشداق واندحاق البطون ، فمدوا أعناقهم بالرجاء . وقبضوا اكفهم على الأمل . وما دام محمد الفقير اليتيم أصبح نبياً يسدده الوحي وتلوى بطاعته الرقاب ، فان كل كبير من كبراء قريش يجب إن يكون نبياً كذلك ، يهبط عليه الوحي وتعنوا له الرقاب . ولم لا ينالون هذا الحظ وهم أوفر من محمد مالاً واجهر منه صوتاً واكبر منه سناً وأربى منه عدداً ؟ . وحتى قال مسرف من هؤلاء العابثين : زاحمنا بني عبد مناف في الشرق ، حتى إذا صرنا كفرسي رهان ، قالوا منا نبي يوحى إليه ، والله لا نرضى به ولا نتبعه أبدا إلا إن يأتينا وحي كما يأتيه .
وفي رد هذه الأنفاس ولقمع هذا التطاول أنزل الله سبحانه هذه الآية الكريمة من الوحي الكريم : ﴿ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ﴾ 2.
الله هو فاطر الناس ومغرّز غرائزهم ، وعالم سرهم . و علانياتهم ، واصطفاؤه بعضهم على بعض لا يجزي على هذه المقاييس التي لا تسن ولا تتبع إلا في المجتمع الوضيع الرقيع ، بل يستند لما للفرد في ذاته من موجبات الأهلية ، ولما له في سماته من مقتضيات التقديم .
أما هؤلاء المستكبرون على الحق المتطاولون لما لا يستحقون فسينالون جزاء استكبارهم وعقبى تطاولهم وجحودهم .
وطبيعي أن تكوين المجتمع العادل وغرس الفضيلة الجامعة .
المجتمع الذي يجمع صنوف العدل . والفضيلة التي تنتظم أشتات الفضائل .
طبيعي أن بلوغ هاتين الغايتين يتوقف في درجة الأولى على التربية الصالحة والتوجيه العملي الرشيد . فاجتثاث الخلق السيء من أعماق الفرد واستئصال العادات الرديئة من اطواء المجتمع , ثم استبدال الفاسد منهما بالصحيح والقبيح بالحسن , والارتفاع بالفرد وبالأمة في مدارج العدل ومناهج الاستقامة إلى حيث العدل الأعلى الأقصى الذي ابتغاه الدين , والاستقامة التامة التي استهدفتها مناهجه . هذه عملية شاقة تفتقر إلى تربية جد طويلة وعناية جد حكيمة, وإلى كثير من الجهد وطويل من المصابرة يبذلهما المربي لإنجاح هذه المهمة .
إنها خلق نفوس وترميم جيل , والخلق والإنشاء لا يكفي لها قول مجرد وان يكن القائل أفصح خلق وأبلغ مفوّه .

لا بد للتربية الصالحة من القدوة

وطبيعي كذلك أن الأسوة الحسنة بالمربي والقدوة الصالحة بأفعاله وصفاته هي السبب الأقوى في التربية المجدية والعامل الأعظم في نجاحها فالتأسي بالعظماء في الصفات والإقتداء بهم في المظاهر والأعمال إحدى النزعات الأصيلة في نفس الإنسان ، المنطبعة فيها منذ نعومة أظفاره .
من أجل هذا كانت بعثة الرسول وكانت عصمته من متسمات رسالة الدين ومن الضمانات اللازمة لتحقيق غايته . ومن أجل هذا كانت بعثة الرسول وكانت عصمته من ضرورات الإنسان الفرد . ومن ضرورات الإنسان الأمة للإرتفاع بهما إلى هدف الإنسانية الأقصى . ومن أجل هذا كانت مهمة الرسالة مزدوجة فهي بلاغ مبين لتعاليم الدين وشرح واف لأهدافه من جهة ، وهي تربية لنفوس الأمة وتزكية وتطهير لقلوبهم وأرواحهم من جهة أخرى : ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ 3.
ومن أجل هذا بذاته كانت الإمامة التي تعهد بها النبوة , وكانت عصمة الإمام الذي يوصي إليه النبي ( صلى الله عليه و آله ) من متممات رسالة الدين كذلك , ومن الضمانات اللازمة لتحقيق غايته .
هذا التمثيل الصادق لأدوار الرسول ( صلى الله عليه و آله ) بعد لحوقه بالرفيق الأعلى , وهذا الامتداد الوضعي في عمر النبوة بعد انتهاء أمدها الطبيعي بموته , هذان أمران لا مندوحة عنهما للدين إذا لم يكن بد من إتمام رسالته ومن ضمان غايته . فإن تكوين المجتمع العادل وغرس الفضيلة الجامعة لا يكفي لهما تربية جماعة من الناس , بل ولا جيل كامل من أجيالهم , مهما تكن التربية رشيدة , ومهما يكن المربي حكيماً . فمن شأن المجتمع أن يتجدد ويتسع , ومن دأب نفوس الأفراد أن تتردى وتنزلق , وغرائز الناس هي الغرائز في نزقها وجماحها . وعوائق الفطرة عن الاستقامة هي العوائق في شدتها ووفرتها . وأهواء القلوب هي الأهواء في مداخلها ومخارجها . وكل هذه معاثر ومزالق تدفع بالنفوس إلى التردي وتحمل المجتمع على الانتكاس , وهما لذلك ولسواه ما يزالان مفتقرين إلى التربية الطويلة والمصابرة الحكيمة , وما يزالان مفتقرين إلى القدوة الصالحة والمثال الأعلى . ما يزالان مفتقرين إلى عقل يمد العقول بالهداية ونفس تمد النفوس بالزكاة وقلب يمد القلوب بالطهر . ما يزالان مفتقرين إلى الإنسانية المشعة بالهدى , المنيرة بالحق , المشرقة بالعدل .
فلا معدل عن إمامة تحمل أعباء النبوة وتمثلها في مهمتها حق التمثيل .
ولا معدل عن إمام تتم به على المؤمنين المنة , وتكمل لهم النعمة .

من لوازم الرسالة

وللرسول صلى الله عليه وآله وسلم مقام الزعامة الكبرى في الأمة وموضع القيادة العامة من صفوفها , وسلطته هذه مستمدة من صميم الرسالة التي يجهد لأدائها ويكدح لإعلائها . ومن صريح المبدأ الذي يعمل لنشره ويقوم على تنفيده .
من جوهر كلمة الله التي انيطت به ومن طبيعة دين الله الذي يُعنى بتبليغه يستمد الرسول زعامته المطلقة للبشر , وقيادته العامة لصفوفهم , وولايته الكبرى على أمورهم , فبيعته هي بذاتها بيعة الله الذي أهله لهذه الزعامة , واختصه بهذه الكرامة , والموفون ببيعته من الناس إنما يوفون ببيعة الله المبرمة , والناكثون منهم إنما يخيسون بعهد الله الوثيق, والله وحده ولي الجزاء الحق للناكثين والموفين :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ 4 .
والرسول واجب الإطاعة على الناس جميعاً , وفرض طاعته هذا بإذن الله رب الناس , ملك الناس , إله الناس :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ... 5 وما كان الله لينتدبه لهداية الخلق ثم لا يضمن لكلمته النفوذ , ولا يعبّد طريقها إلى القلوب , وما كان الله لينيط به تقويم المجتمع , وحسم أدوائه وعلاج مشكلاته ثم لا يوليه الأمر في تدبيره , ولا يؤتيه القياد في تسييره . وما كان الرسول أن تكون طاعته بغير إذن الله وهو يحمل رسالته ويدعو إلى توحيده وينفي الأنداد والأضداد معه , وما كان لذي عقل أن يصدّق قائلاً عن الله وهو يبتغي الطاعة من المخلوقين باسم سواه .
وحتى مغفرة الذنوب وهي في دين الإسلام من شؤون الله وحده , ولا إرادة لأحد من المخلوقين فيها بنقص ولا إبرام . أجل فالله وحده هو واضع الحدود والتبعات , ومالك الجزاء والعفو وعالم السر والعلانية , وقابل التوبة عن عباده , ومحصي أعمالهم والمطلع على نياتهم . وليس في دين الإسلام كراسي اعتراف ولا صكوك غفران .
أقول حتى مغفرة الذنوب , فإن لجوء المذنب إلى شفاعة الرسول , والتوسل به إلى الله في نيل الغفران ودعاء الرسول ( صلى الله عليه و آله ) له بالتوبة , هذه الوسائل أجدى له في استيجاب المغفرة من الله وشمول الرحمة , وأدنى لقبول إنابته والعفو عن تقصيره :﴿ ... وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا 5.
وأمر الرسول عزيمة من عزائم الله سبحانه . لا يجوز أن تخالف ، ولا موقع معها لمشاورة , ولا مساغ بعدها لتردد . ومن تطمعه نفسه بمخالفة هذه العزيمة الالهية فإنما يتعرض بصنعه هذا للمقت الكبير وللضلال المبين : ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ 6.
والتسليم لحكم الرسول فيما شجر بين الناس لازمة من لوازم الأيمان , بل و ركيزة من ركائزه , فلا يقر الأيمان في قلب أحد ولا ترسخ قواعده ولا تقوم دعائمه بدونها . التسليم الاختياري الكامل, بحيث تتآزر النفس والفكر والضمير والإرادة والظاهر والباطن على الخضوع لحكمه والاقتناع بفضله و وبحيث لا يجد المحكوم في قرارة نفسه من إصدار الحكم عليه ضيقاً , ولا في تنفيده حرجاً ولا في الانقياد لموجبه ضعة : ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ 7. هذا الوازع النفسي المكين المنطبع في دخيلة الإنسان وفي أعماق قلبه وروحه , الذي يحمل على التسليم لحكم الرسول في نفسه وأهله وماله وولده دون حرج ولا ضيق , هو المتم للإيمان ، وهذه الطمأنينة التامة إلى قوله حتى في مواقع الشجار ـ والشجار مظنة للتعصب خلاف الهدى ـ هي المظهر الصادق له .
والرسول إلى ذلك جميعه هو المثال الكامل للإنسانية الكاملة, بأفعاله تقتدي الأمة, ومن أنواره تقتبس , وعلى هديه تسير : ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ 8. كل هذه لوازم لا تنفك عن طبيعة النبوة, ولا تنفصل عن حقيقة الدين, وعن نظام الدعوة إليه, مهما اتسعت أو ضاقت آفاق الدعوة ، ومهما صعبت أو سهلت مهمة النبي أو الرسول, فأنبياء الله ورسله كافة يشتركون في هذه الحقوق ويتبوؤن هذه المنزلة, كل في نطاق دعوته, أما الاعتراف بنبواتهم أجمع فقد أوجبه الإسلام على البشر أجمع : ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ 910 .