مجموع الأصوات: 41
نشر قبل سنة واحدة
القراءات: 1529

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

حقيقة الدعاء و الأدعية المأثورة

إن الدعاء ـ في حقيقته ـ يمثل المعاني القيمة ، التي تتبلور في نفس الداعي ، و يستتبع التوجه العميق إلى الذات الإلهية ، فالفناء في وجوده الواجب ، ثم الرجوع إلى عالم المادة ، لأداء مهمة الروح العليا ، روح العدالة و الحق و الصدق و بالتالي : الخلاص من كل العبوديات .
و في هذا السفر السريع البطيء ، و الطويل القصير ، لا حاجة إلى أي شيء ، سوى التركيز على نقطة المبدأ ، و مركز الانتهاء .
فلا يمكن أن نقيد الدعاء ـ بعد أن كان عملا روحيا ـ بأي قيد ، من زمان أو مكان أو لفظ ، و لا بأية لغة أو صيغة أو نص .
و قد رسم الإمام الصادق ، أبو عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام ، لهذه الفكرة خطة واضحة ، في الحديث التالي :
عن زرارة ، قال ، قلت لأبي عبد الله عليه السلام : علمني دعاء ؟ فقال : إن أفضل الدعاء ما جرى على لسانك 1 .
فإذا كان الداعي لم يطق أن يستوعب أكثر مما يجري على لسانه ، فإن ذلك يكفيه ، و المهم أن يكون ملتفتا إلى أساس الدعاء و لبه و هو التركيز على نقطة المبدأ و مركز الانتهاء ، في سيره الروحي .
و قد أفصح الرسول الكريم صلى الله عليه و آله و سلم عن هذه الحقيقة لما سأل رجلا : كيف تقول في الصلاة ؟
فأجاب الرجل : أتشهد ثم أقول : « اللهم إني أسألك الجنة ، و أعوذ بك من النار » .
و أضاف الرجل : أما أني ـ والله ـ لا أحسن دندنتك ، و لا دندنة معاذ .
فقال صلى الله عليه و آله و سلم : حولها ندندن 2 .
لكن الإسلام قد حدد للدعاء المختار حدودا ، و قرر له شروطا ، راعى في ذلك بلوغه إلى الكمال المطلوب ، و من ذلك ما يرتبط بألفاظه و لغته .
ففي الوقت الذي أكد على جوانب معناه و أهدافه ،لم يهمل جانب أدائه و صيغته .
و الحق ، إنا إذا أردنا أن نركز التفاتنا كاملا ، فإن كل الحواس ـ و هي ترتبط بواسطة الأعصاب بعضها بالأخرى ـ لابد أن تتجه و تلتفت سواء الحواس الخارجية و جوارحها ، أم الحواس الباطنية و قابلياتها ، و حاسة النطق ـ و هي المعبرة عن الجميع ـ و آلتها اللسان ، لابد أن تتحرك أعصابه ، فتكون كلمة الداعي حاسمة ، و تكون ألفاظ الدعاء مركزة موجهة .
أليست الألفاظ تعبيرا عن مكامن الضمير ، و سرائر الوجدان ؟
أليست الكلمات النابعة عن طلبات الروح ، اصدق دليل على التركيز في التوجه و الالتفات ؟ و من يدري ? !
فلعل العبد الداعي يكون اقرب إلى مولاه الجليل ، عند بعض الحالات ، و أداء بعض النغمات ، و تلاوة بعض الكلمات ، و في بعض المقامات و الأوقات ؟ دون غيرها ؟!
إن النية الواحدة ، قد تصاغ بأشكال مختلفة ، و تؤدى بأساليب متنوعة ، و قد تصحبها أنغام متفاوتة .
فأيا منها نختار ؟ لنتوسل به إلى هذا السر الروحي ، و نتزود منه على هذا الطريق الصعبة ، و نتوصل بسببه إلى النتيجة المنشودة .
ما أروع للداعي ، لو عرف ، أو تنبه إلى أجمل لفظة في أبدع أسلوب ، و الى أليق تعبير في ارق نغمة ، و كان دعاؤه نابعا من أعماق الضمير ، ليكون ارغب إلى مقام الإنس ، و اقرب إلى حظيرة القدس ، و آكد في تحقيق رغبات النفس .

أليس هذا هو الأحسن ، و الأضمن لحصول الإجابة ؟

لكن ليس الإفراط في المحافظة على اللفظ ، و التوغل في مراعاة أداء الحروف و ضبط الحركات ، هدفا للمتكلم الواعي ، و لا غاية للإنسان الهادف ، فضلا عن المسلم الذي يقوم بمهمة عظيمة مثل الدعاء .
فان الدعاء ـ قبل أن يبلور في الجمل و الكلمات ـ إنما هو نور مضي ينقدح فيفيض عفى اللسان ، و لو كان القلب كدرا لم ينقدح فيه ذلك النور ، فأين له أن يظهر على لسان صاحبه ، الدعاء ؟!
قال الإمام الصادق عليه السلام : تجد الرجل لا يخطئ بلام و لا واو ، خطيبا مصقعا و لقلبه اشد ظلمة من الليل المظلم 3 .
و هكذا الانهماك في تطبيق القواعد اللفظية ، بما يصرف توجهه عن المعاني و يقطع التفاته عن الهدف .
و هو ما ذكره الرسول صلى الله عليه و آله و سلم فيما روي عنه ، من قوله :
من انهمك في طلب النحو سلب الخشوع 4 .
نعم ، أن إغفال جانب اللفظ و حسن التعبير ، و صحح النص و سلامة العبارة عيب ، بلا ريب ، في الدعاء يحطه عن مرتبة الكمال اللازم في كل جوانب الدعاء من لفظه و معناه ، و لابد للداعي العارف ، المتمكن من ذلك أن يتصف به ، فيكون دعاؤه بمستوى ما يطلب من المقام الرفيع المنشود .
و من هنا ورد التأكيد البليغ على اتصاف الدعاء بالأدب ، و يراد به « الأدب العربي » في مراعاة القواعد اللغوية و النحوية و البلاغية ، إذا بلغ الداعي مرتبة عالية من العلم و المعرفة ، و بلغ من الدين و العقيدة مبلغا يحسن مثل هذا الطلب منه .
قال الإمام أبو جعفر محمد بن علي ، الجواد عليه السلام : ما استوى رجلان في حسب و دين ـ قط ـ إلا كان أفضلهما عند الله آدبهما .
قال الراوي : جعلت فداك ، قد علمت فضله عند الناس ، في المنادي و المجالس ، فما فضله عند الله عز و جل ؟ ! قال عليه السلام : بقراءة القرآن كما انزل ، و دعائه الله عز و جل من حيث لا يلحن ، و ذلك ان الدعاء الملحون لا يصعد إلى الله عز و جل 5 .
إن الكمال اللازم يجب أن يعم أدب الداعي و معارفه ، فيكون كاملا في لغته التي يتقدم بالدعاء بها ، بعيدا عن اللحن المزري ، فان الله يحب ان يرى عباده يناجونه بأحسن ما يناجي به احد أحدا .
أليس القرآن ـ و هو كلام الله ـ نزل بأبلغ ما يكون الكلام و أعذبه ، فليكن ما يخاطب به العبد مولاه ـ كذلك ـ في أوج ما يقدر عليه من الكلام الطيب و الذكر البديع ، المنزه عن عيب اللحن ، و الوهن .
إن الإسلام ـ في الوقت الذي ينص على الاكتفاء بما يجري على اللسان من الدعاء ، إذا لم يعرف الداعي نصا مأثورا ، لان ذلك أدنى ما يأتي منه ـ فإنه لا يكتفي ممن يمكنه الوصول إلى المأثور ، أن يقتنع بالدعاء الذي يخترعه من عند نفسه .
عن عبد الرحيم القصير ، قال : دخلت على أبي عبد الله عليه السلام ، فقلت : جعلت فداك ، إني اخترعت دعاء !
قال عليه السلام : دعني من اختراعك .
إذا نزل بك أمر فافزع إلى رسول الله عليه و آله و صل ركعتين تهديهما إلى رسول الله صلى الله عليه و آله . . . 6 .
و علمه دعاء يتلوه .
إن الدعاء المأثور ، هو ـ بلا ريب ـ أقوى ، و أصدق ، و أضبط ، فهو أوصل إلى المطلوب ، مما يخترعه ذهن الإنسان العادي ، و يلوكه لسانه 7

  • 1. وسائل الشيعة : 4 / 1171 .
  • 2. الأسماء المبهمة ـ للخطيب البغدادي ـ : 116 رقم 63 و انظر كنز العمال : 2 / 88 .
  • 3. الكافي ـ الأصول ـ : 2 / 422 .
  • 4. بحار الأنوار : 1 / 7 ـ 218 .
  • 5. عدة الداعي : 18 ، وسائل الشيعة : 4 / 1107 ، و انظر : كنز العمال : 2 / 293 .
  • 6. الكافي ، كتاب الصلاة ، باب صلاة الحوائج : 3 / 476 ح 1 .
  • 7. المصدر: كتاب « الدعاء في الاسلام : ما هو ؟ و كيف ؟ و لماذا ؟ » للعلامة السيد محمد رضا الحسيني.