حقول مرتبطة:
الكلمات الرئيسية:
الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
نظرات سريعة في فن التحقيق 3
تحدّثنا في العدد السابق عن بعض صفات المحقق، ونتحدث هنا عن أربع صفات اُخرى هي:
٥ ـ الصبر والأناة
المخطوطات بما رافقها من ظروف سيئة في الغالب، وبطول الزمن الذي يغير الأحوال ويفعل فعله في الحجر الصلد، وببعد العهد الذي تغمض معه الواضحات، وتنبهم السبل.. والمحقق بها هو مجدّد لشباب الكتاب وراجع به إلى ما كان عليه كما أخرجه مؤلفه أو قريب منه ـ.
هذه الامور ـ وغيرها ـ تقتضي من المحقق الصبر والجلد في معالجة مخطوطة أحال خطّها القدم، وتنقص من حبرها وورقها بُعد العهد، واعتورها من عوامل الطبيعة وفعل الانسان ـ مالكاً ووارثاً وقارئاً ـ ما غيّر صورتها وأبهم واضحها.
فعلى المحقق أن يكون على ذكر من أن الحبر كثيراً ما ينصل، وأنّ الأيدي التي ملكت المخطوطة كثيراً ما تتدخل فيما يظنه فاعله إصلاحاً وهو عين الإفساد، وأنّ الجلد ربما تهرّأ فجدّده مجلّد غير عارف بالكتاب فغيّر من ترتيب أوراقه ـ خصوصاً والكثير من المخطوطات خال من أرقام الصفحات معتمد نظام التعليقة الذي كثيراً ما يوهم، وبعضها خال حتى من هذا النظام ـ وأنّ.. وأنّ.. مضافاً إلى ولع العثة بالكتب، وفعل الرطوبة والجوّ فيها.
فما يسع المحقق ـ والحالة هذه ـ إلّا أن يعتدّ بالصبر في مواجهة هذه المشكلات، ليخرج منها سالماً من تطرّق الأوهام.. إلّا أوهاماً هي من طبيعة الإنسان.
أمّا إنْ ضجر المحقق فَقَدْ فَقَدَ أقوى جننه.. ولا يأمل أن يخرج كتاباً أحسن من نسخة مخطوطة كغيرها من المخطوطات.
ولا يخفى أن من ملازمات الصبر الأناة لأن العجلة مظنّة السهو والوهم، وليجرب المحقق نسخ المخطوط الذي يبغي تحقيقه ـ والنسخ مرحلة يسرع فيها المحقق بطبعه لأن التدقيق والتنقير سيأتي بعدها ـ ولينظر في مرحلة المقابلة ـ التي تأتي بعد النَسخ ـ ليرى كم سقط من قلمه من كلمات وكم زاد من عنده!
ولئن تسومح بالسرعة في مرحلة النَسخ، فلا يمكن أن يتسامح بها في مرحلة الضبط.. وما يضير المحقق أن يصرف من وقته ساعات ـ بل أياماً ـ منقّباً في بطون الكتب مراجعاً للعارفين بالفن.. لضبط مشكل أو تصحيح تصحيف أو إيضاح غامض.
وما أشبه عمل المحقق المتأني باللؤلؤة الطبيعية في جوف المحارة تستوي كما أراد لها الله تعالى، ثم تكون زينة تزري بالاُلوف من لؤلؤ الصناعة السريع إنتاجه.
٦ ـ الأمانة
يعتز الكاتب بكتابه اعتزازاً بالغاً قد يوازي اعتزازه بولده أو يزيد، لأنّ ولده امتداد له إلى عدة عقود من الزمان بينما كتابه امتداد خالد له ونعني بالخلود هنا مفهومه الأرضي أي البقاء الطويل ـ والانسان بطبعه مفطور على حبّ البقاء، وما أهرام مصر.. وما تحنيط جثة لنين الملحد الّا شاهد صدق على هذا.
فالمؤلف عندما ينهي كتابه ويضع فيه أعزّ ما عند الانسان ـ فكره ـ إنّما يتركه أمانة في أعناق الأجيال، وهو لا يرضى بتغييره أو تحويره، وقد نبّه بعضهم في أواخر كتبهم على هذا ولعنوا من بدّل أو غيّر في مؤلفاتهم.
وما أسوأ ما صنع ناسخ التفسير العظيم ـ تفسير العيّاشي ـ حيث حذف أسانيده، وفي هذا التفسير من درر أحاديث أهل البيت عليهم السلام مالا يوجد في غيره، ولو وصلنا مسنداً لكان شأنه في العلم والفكر أيّ شأن.
فقد جنىٰ ناسخه ـ كما ترى ـ جناية علمية كبرى في إغفاله الأمانة عند نسخه إيّاه، وأفقد الاُمة الإسلاميّة بهذا الإغفال درّة يتيمة من درر تراثها.
والمحقّق مكلّف بهذه الأمانة، واجب عليه رعايتها، محرّم عليه خيانتها، فإن قام بواجبه فبها ونعمت.. وإن خان فإن حساب الله وحساب التاريخ شديد.
ليس للمحقّق أن يبدّل أو ينقص أو يزيد في الكتاب الذي يحققه، فإن أوجب البحث أن يفعل شيئاً من هذا فعليه أن يشير إلى ما أصلح أو زاد أو نقص، بحيث يتميّز عمله وعمل صاحب الأصل.
لكنا ـ مع شديد الأسف ـ نجد في كثير من المطبوعات التي كتب عليها أنها من تحقيق فلان.. زيادة ونقصاً وتبديلاً وتغييراً عمّا رسمه المؤلف لغايات أقل ما يقال فيها إنّها خيانة علمية.
فهذا المحقق المعروف عبدالسلام محمد هارون في تحقيقه لـ « وقعة صفّين » لنصر بن مزاحم المنقري ـ الطبعة الثانية ١٣٨٢ هـ ـ ص ٢٣١ بعد السطر الثامن رأساً، قد وقع في وهم لا يسامح عليه، فقد أسقط نصّاً من الكتاب هو:
[ وعن عمر بن سعد، عن سلام بن سويد، عن علي عليه السّلام في قوله: ﴿ ... وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ ... ﴾ 1 قال: هي لا إلٰه إلّا الله والله أكبر. قال: هي كلمة النصر ].
مع العلم أنّ هذا النص المحذوف جاء في طبعة إيران على الحجر سنة ١٣٠١ هـ، ص ١١٩ السطر الثامن، وقد اعتمد هارون هذه الطبعة أصلاً في تحقيقه، قال في صفحة ح ـ ط من مقدمته لـ « وقعة صفين »:
« طبع هذا الكتاب لأول مرة على الحجر في إيران سنة ١٣٠١ وهذه الطبعة نادرة الوجود.. وهذه النسخة هي التي قد اتخذتها أصلاً في نشر هذا الكتاب وتحقيقه، وهي التي اعبّر عنها بلفظ ( الأصل ) ».
ثم.. هذا الذي أسقط هارون موجود بنصه وفصه في بحار الأنوار للعلّامة الكبير الشيخ محمد باقر المجلسي ـ المتوفّىٰ سنة ١١١١ هـ ـ رحمه الله تعالى، في الطبعة الحديثة ج ١٠٠ صفحة ٣٧ حديث ٣٥، وإيراد المجلسي ـ رحمه الله ـ له يدلّ دلالة قاطعة على أخذه له من نسخة مخطوطة أقدم من المطبوعة على الحجر بأكثر من مائتي عام.
وعلّق ناشر البحار على الحديث بقوله: « لم نجده في مطبوعة مصر، ويوجد في طبعة إيران القديمة ص ١١٩ ».
وواضح أنّ النصّ خال مما ينثير مذهبياً.. فما أدري ما السبب في حذفه !
ثم ليعلم أنّ باب العصبية المذهبية والتحزّب الأعمىٰ أوسع الأبواب التي يؤتىٰ منها المحقق، ومثله باب الجهل وعدم الدليل.. وإلّا فما على المحقق إن كان نصّ المؤلف لا يوافق هواه أن يثبته في مكانه ثمّ يعلّق عليه في الهامش.
وقد رأينا من المطبوعات المحرّفة كثيراً من هذا النوع مما يفقد القارء الثقة بها وبالقائمين عليها، ويجعله يفضل الطبعات الحجرية بل النسخ المخطوطة على كثير من المطبوعات المحققة الأنيقة !
ولا يظنّن متصدّ لتراثنا أنّ القراء بتلك المنزلة من الجهل، فقد رأيت أشخاصاً لا يحملون شهادة قديمة ولا حديثه، ويعدّون في عداد العامة زيّاً ومعيشة، لكنّهم ـ يشهد الله ـ على درجة من الفهم والتتبع والإحاطة دونها كثيرون من حملة أرقى الشهادات الجامعية.
وامة بُني دينها على العلم لا يتوهمن أحد أن تخلو من العلماء.
أما عصر تحريم قراءة كتب الفئة الفلانية فقد ولّىٰ مع طواغيته.
نعم.. يستثنى من ذلك الخطأ الواضح المقطوع به، أو الزيادة الموضحة لمراد المؤلف.. فليس على المحقق حرج أن يصلح هذا الخطأ أو يزيد هذه الكلمة، بشرط تمييزها عن عمل المؤلف، وبشرط إحراز رضا المؤلف.
وهذا الإحراز له دلائل تدل عليه، ولأذكر مثالاً على ذلك:
لو أنّ محققاً اشتغل في كتاب مؤلفه نحوي معروف ورأى فيه خطأ من الأخطاء النحوية المقطوع بخطئها، والتي من مذهب المؤلف تخطئتها، ولم يأت به المؤلف هنا للاستشهاد على مذهب يخالفه.. فإننا هنا نقطع بأنّ هذا الخطأ طارء على النسخة و أن المؤلف يرضى بإصلاحه.
٧ ـ الذوق الجميل
الحياة الجافة مملة مصروفة عنها الأنظار، والحياة العلمية مع ما فيها من لذات عقلية ومتع روحية، قد يعرض لها ما يسمها بسمة الجفاف.. لذلك نرى اسلوب التدريس يختلف من اُستاذ إلى آخر، فهذا اُستاذ يتشوق الطلبة لحضور درسه و يأسون لفوات محاضرة من محاضراته.. وما هذا إلّا لذوق منه جميل يصبّ به الدرس في قالب من الإلقاء والتفهيم مشوق.
والكتاب الفلاني غرة في كتب التفسير ـ مثلاً ـ لكن إخراجه الطباعي و توزيع فقراته صارف للقارء عن اجتناء يانع ثمراته، واجتلاء عرائس أفكاره. والكتاب الإسلامي التراثي لم يخرج إلى الناس ـ في الأعم الأغلب ـ بالصورة التي تجذب القارء وتستهوي المطالع، إلّا أفراداً قد لا تتجاوز عدد الأصابع.
وإلّا فأين الطبعة الأنيقة ـ التي تدعو القارء للنظر فيها واقتناص فوائدها ـ من كتاب رياض السالكين، شرح الصحيفة السجّادية، على منشئها السلام، وهو أحسن وأبدع ما اُلّف على الصحيفة، ومؤلّفه لغوي أديب شاعر صحيح الولاء لآل بيت الرحمة عليهم السلام.. !؟
وقل مثل ذلك في التفسيرين الجليلين: « التبيان » و « مجمع البيان » لشيخ الطائفة الطوسي ومفسّرها الطبرسي نوّر الله ضريحيهما.
وعرّج على الكتب الأربعة: الكافي والفقيه والتهذيبين.. ومرّ بنظرك على الشروح الجليلة: « مرآة العقول » و « روضة المتّقين ».. فلن تجد إلّا شاكياً يتلو شاكياً من الإهمال وقلّة العناية.. بل عدمها.
المحقّق الذوّاقة يستطيع أن يخرج لنا من هذه الدرر الغوالي غرراً في جبين الدهر، وينبوعاً رقراقاً من علوم أهل البيت عليهم السلام فيه الريّ والرواء.
والذوق الجميل هو الذي يفعل بهذه الكتب فعل الجوهري الصنّاع الذي يجعل من حجر كريم ـ هو كبقية الأحجار في شكله ـ زينة لا تقدر بثمن.
فتوزيع فقرات الكتاب، وتفصيل أبوابه، وترقيم أحاديثه، وشرح غامضه، و تنظيم إحالاته، والإبداع في تنويع فهارسه، التي تجعل مطالب الكتاب من القارء على طرف الثمام..
ثم اختيار الحرف الطباعي الجميل والورق المناسب.
هذه الاُمور ـ مجتمعة ـ تجعل الكتاب يضيء بعضه بعضاً.
٨ ـ الإلتزام
الدين الإسلامي دين النظام، فالشارع المقدّس نظّم حياة المسلم تنظيماً دقيقاً في جميع مناحيها.. ولا يكاد يمرّ بالمسلم أمر من الأمور إلّا وقد حسب له الشرع الشريف حسابه ووضعه في نصابه.
ومسألة العلم التي أولاها الإسلام مكانة سامية، وكثر الحثّ على طلب العلم وحفطه ونشره في القرآن الكريم والسنّة الشريفة ممّا تغنينا شهرته عن ذكره.
لكنّ مسألة قد تكون خافية أو قريبة من الخفاء هي مسألة كتب الهدى وكتب الضلال التي ذكرتها الرسائل العملية ورتّبت لها أحكاماً تمسّ موضوعنا ولها به تعلّق قويّ.
فصيانة عقل الإنسان وفكره وحفظهما مما يدنسهما فرض في الدين لازم.. من أجله حرّمت الخمرة وأشباهها.
وقد رسخ هذا المفهوم ـ مفهوم الإلتزام العلمي والثقافي ـ في وجدان المسلم، فلا تكاد تجد مخطوطة إلّا وقد ختمها مؤلفها بطلب الدعاء من القراء، واعتدادها ممّا يدّخره ليوم القيامة.. وكثيراً ما ختم النّساخ كتاباتهم بطلب الدعاء من القارء أو بطلب إصلاح الخلل أو عدّ النَّسْخ من الأعمال التي يحاسب عليها الإنسان.
هذا ابن البوّاب الكاتب ( ـ ٤٢٣ هـ ) الخطّاط المعروف، يقول في رائيّته في علم الخط 2:
وارغب بنفسك أن يخطّ بنانها
خـبراً تخلفه بدار غرورِ
فجميع فعل المرء يلقاه غداً
عند التقاء كتابه المنشورِ
وهذا البيت السائر الدائر في خواتيم المخطوطات:
ولا تكتب بخطك غير شيء
يسرك في القيامة أن تراهُ
إلى الكثر الكثير مما حفلت به أوائل المخطوطات وخواتيمها.
وقد شاع هذا المفهوم حتى أصبحت نسبة هذه الأشعار مجهولة.. لأنها صارت شعار اُمّة.
فالمسلم الملتزم الذي يرى نفسه محاسباً على أعماله، لا يتحف اُمّته إلّا بما يثقل ميزان حسناته غداً، مما ينفع الناس من الكتب القيّمة.
وكان المستشرقون من أضرّ الأعداء بما نشروه من تراثنا المحسوب علينا وما قَعَّدوه من قواعد لدراسته، فتراهم يغرقون الدنيا بطبعات رباعيّات الخيّام المشكّكة، وهي طبعات مصوّرة أنيقة لكنّها السمّ في الدسم.. وبطبعات ألف ليلة وليلة ذات الصور الماجنة التي خطّتها يراعات مصوّريهم فأبرزت تحلّلهم وأطّرته بإطار شرقي!
وفي جانب الفكر شغلوا الناس بابن الريوندي الملحد وأمثاله، وربّوا خادماً وناشراً لهذا الملحد رجلاً ينتسب إلى اُسرة علمية دينية، نشأ في مدرسة إسلامية أوصلته إلى مقاعد جامعة كمبردج في إنكلترة.. وعاد إلينا جاحداً لاُسرته منكراً لجميل المدرسة العلمية الإسلاميّة التي هيّأت له أسباب الدراسة وأوصلته بما لها ـ الذي هو من أخماس وتبرّعات مؤمني المسلمين ـ إلى نيل شهادة الدكتوراه!
فعلى المحقّق المسلم أن لا يكون ملقط جمر.. يلقط من نار أعداء الاُمّة ويرميه في عقول أبنائها، وفي تراثنا الكثير الطيّب الذي أجره مضمون لناشره، وهو مفيد في رفعة الاُمّة وعلوّ شأنها.
ويمكن أن نأخذ من غيرنا خير ما عندهم ممّا يتّفق مع قواعدنا وظروفنا.. فنحن اُمّة لها أصالتها ولم تعش يوماً على فتات موائد غيرها.. إلّا حين تسلّم القوس غير باريها وصَيَّر الاُمَّة حقل تجارب لأفكار الغربيّين والشرقيّين التي هي كشجرة خبيثة اجتثّت من فوق الأرض مالها من قرار.
ولكن.. أمّا الزبد فيذهب جفاء وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض..
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
للموضوع صلة... 3