الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
نظرات سريعة في فن التحقيق 1
الحمدلله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.
يسرني أن اُقدم ـ بين يدي القارىء العزيز ـ بحثاً موجزاً عن فن التحقيق، هذا الفن العريق تاريخاً، العظيم أهمية، الكثير شعباً و فنوناً.
وأعتذر عن الاختصار، فلكل مقام مقال.
ما هو فن التحقيق ؟
التحقيق لغة: التصديق، واثبات الحق، والرصانة، والتزيين، واحكام الشيء و صحته... 1
وهو ـ كما ترى ـ فيه ماينطبق على الفن المعروف حالياً بهذا الاسم، فالتحقيق: إحكام النصوص، والتثبت من صحتها، وتزيينها بما يفك مغلقها، ويوضح غامضها، ويضيء معالمها... وهو ـ بعد ـ فن يستلزم الرصانة، واثبات الحق من النصوص ونفي غيره.
لكنّ سلفنا لم يستعملوا هذه الكلمة للدلالة عليه، بل استعملوا بدلها كلمة (التحرير)، جاء في القاموس المحيط وغيره: تحرير الكتاب: خلوصه وتقويمه 2، وقال أبوبكر الصولي في (أدب الكتاب): تحرير الكتاب خلوصه كأنه خلص من النسخ التي حرر عليها وصفا عن كدرها. 3
وعلى أي حال فقد شاعت ـ في هذه الأواخر ـ لفظة التحقيق و ذاعت، وأصبحت مصطلحاً ينصرف الذهن عند ذكرها الى مانحن بصدده.. ومعلوم أن لامشاحة في الاصطلاح.
هذا بعض ما يتعلق باللفظ لغة...
وقد اختلف المعنيون بالمراد من التحقيق:
فمنهم من اقتصر على أنه ضبط النص فحسب.
ومنهم من زاد عليه توضيح الغوامض، وتخريج النصوص من مصادرها، وصنع الفهارس... ومتابعة الكتاب تصحيحاً و تنقيحاً حتى يخرج من المطبعة ويصل الى يد القارىء.
ومنهم من زاد ـ على هذا كله ـ متابعة المحقق لكتابه بعد الطبعة الاولى صقلًا وتجميلًا و تهذيباً...
والجميع مصيبون، وكل منهم عبّر عن رؤية خاصة.
والحق أن للتحقيق درجات: أولها ضبط النص... ثم يرتقي المحقق صعداً في سلم هذا الفن.
أما التخريج، وتوضيح الغوامض، وصنع الفهارس، ومتابعة الكتاب... فهي من لوازم التحقيق و مكملاته.
ولايظن القارىء العزيز أن ضبط النص أمر هين، فهو من أعضل المعضلات، ودون الوصول إليه خرط القتاد... فهو يتطلب من المحقق موسوعية تراثية، وسليقة لغوية، ودقة ملاحظة، وفضل ذكاء، وحافظة سليمة، وذوقاً جميلاً... وصبراً وجَلَداً...
وقديماً قيل: تأليف كتاب أهون من إصلاحه.
وبكلمة مختصرة: التحقيق هو فن إحياء الكتاب المخطوط.
والحياة ـ كما هو معلوم ـ درجات بعضها أعلىٰ من بعض، فحياة مريضة عاجزة، وحياة سليمة تتمتع بالصحة والعافية، وحياة فيها ـ مع هذا ـ رواء وجمال.
قدم هذا الفن عندنا
الاُمة المسلمة هي الاُمة الوسط، و هي اُمة الخير وخير الاُمم... ذلك من فضل الله علينا... وبفضل الهداة المعصومين، محمد وآله الميامين، صلوات الله عليهم أجمعين.
فالاُمة العربية اُمة اُمّيّة، تعتمد الرواية والحافظة في نقل علومها من جيل الى جيل... وجاءت الرحمة المهداة للعالمين متمثلة في الرسول الأعظم صلّى الله عليه و آله فأخرج هذه الاُمة من الظلمات الى النور، من ظلمات الجهل الى نور العلم.
ولايزال التاريخ يذكر حادثة أسرى بدر، وأن الأسير كان يحصل حريته بتعليمه عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة.
ولايزال التاريخ يذكر أمر النبيّ صلّى الله عليه وآله أحد الصحابة أن يتعلم لسان يهود، فتعلّمه في بضعة عشر يوماً...
وكان القرآن الكريم فاتحة الخير لتدوين العلوم، وجاء حثه على طلب العلم وأمره به، محفزاً للمسلمين كي يقتحموا لجج المعارف و يغوصوا في أعماقها طلباً للحقائق.
وكان صنو رسول الله و وصيه، أمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما باباً لمدينة العلم... دوّن القرآن الكريم، والصحيفة الجامعة، وغيرها.
وتبعه شيعته من أول العهد، فالكتب المعنية تذكر كتاباً لأبي ذرّ رحمه الله، وكتاباً لعبيد الله بن أبي رافع...
ولم يعيروا اهتماما للردة العلمية التي قادها أحد حكام المسلمين بنهيه عن الكتابة والتدوين وعقابه عليها، بل استمروا على الخط الصحيح... وذهب الزبد جفاء، ومكث ماينفع الناس في الارض.
فكانت للمسلمين ـ بفضل استقامة هذه الصفوة الطاهرة ـ هذه المكتبة العظيمة، التي لم تصل الى غناها وثرائها مكتبة اُخرى لأية اُمّة.
وجاءت أقوال أئمة الهدى عليهم السلام مؤكدة للأمر الإلهي العزيز:
﴿ ... وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ 4
﴿ ... اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ... ﴾ 5
فقد ورد عن أهل البيت عليهم السلام:
اكتب وبثّ علمك في إخوانك، فان متّ فأورث كتبك بنيك، فانه يأتي على الناس زمان هرج لايأنسون فيه إلّا بكتبهم. 6
من مات وميراثه المحابر والدويّ فله الجنّة.
أما حول فن التحقيق، فقد جاء عن الصادق عليه السلام:
«عن عبدالله بن سنان قال: قال الصادق عليه السلام: ستصيبكم شبهة فتبقون بلاعلم يرى ولا إمام هدى، لاينجو منها إلّا من دعا بدعاء الغريق، قلت: وكيف دعاء الغريق؟ قال: تقول: ياالله يارحمن يارحيم يامقلب القلوب ثبت قلبي على دينك.
فقلت: يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك.
فقال: إن الله عزوجلّ مقلّب القلوب و الابصار، ولكن قل كما أقول: يامقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. 7
وهذا ـ كما ترى ـ منتهى الأمانة في النقل، وغاية الحيطة في ضبط النص فالإمام عليه السلام لم يرض باضافة كلمة واحدة يقبلها السياق، وليس فيها محذور.
والحال أن ضبط النص من مهمات الاُمور، ومن مقتضيات الأمانة العلمية، فربّ لفظة حذفت أو زيدت أو حرّفت، فكانت النتيجة إباحة دماء، واستحلال محارم... .8
فالنص أمانة بين يدي محققه، وليعلم ان الكتاب عند مؤلفه كولده وفلذة كبده... فهل تراه يرضى بتحريفه و تصحيفه، أو تبديله وتغييره؟!
وكان علم الحديث الشريف أهم حافز لعلمائنا رحمهم الله على ممارسة هذا الفن ـ وان لم يسمّوه باسمه المعروف الآن ـ وعلى البلوغ به مستوى عالياً دونه كل الاعمال التي ظهرت عند الآخرين بعد فترة طويلة من الزمان.
فكان التحقيق في ضبط نصوص الأحاديث، والحيطة فيها وعليها، بحيث شاعت مصطلحات خاصة... سماع، إجازة، مقابلة، بلاغ... وشاع إثبات ما في النسخ الاُخرى أو الروايات الاخرى في هامش الحديث الشريف إن اختلفت في لفظه ولو كانت تلك اللفظة (واو) العطف أو (أو) التخيير، أو كانت زيادة نقطة على الحرف أو إهمالها.
وانتقل هذا الفن الى العلوم الاُخرى، فكان لضبط النص ـ أدبياً كان أم علمياً ـ أهمية ـ عند علمائنا ـ بالغة.
واُودعك أخي القارىء على أمل اللقاء في حلقة اُخرى من هذا البحث تطرق جوانب اُخرى من هذا الفن الواسع الممتع...
للبحث صلة... . 9
- 1. انظر لسان العرب (حقق)، معجم مقاييس اللغة (حق).
- 2. القاموس المحيط (حرر).
- 3. أدب الكتاب: ٢٦.
- 4. القران الكريم: سورة طه (20)، الآية: 114، الصفحة: 320.
- 5. القران الكريم: سورة العلق (96)، من بداية السورة إلى الآية 1، الصفحة: 597.
- 6. الكافي ١: ٤٢/١١، منية المريد: ١٧٣، البحار ٢: ١٥٠/٢٧ عن كشف المحجة: ٣٥.
- 7. إكمال الدين للشيخ الصدوق ٢: ٣٥١ باب ٣٣ ح ٤٩ وعنه في البحار ٥٢: ١٤٨/٧٣.
- 8. انظر حوادث الردة: واقعة خالد بن الوليد بمالك بن نويرة (ره).
- 9. نشرت هذه المقالة في مجلة تراثنا العدد1 ـ التابعة لمؤسسة آل البيت لإحياء التراث..