مجموع الأصوات: 58
نشر قبل 4 سنوات
القراءات: 4128

حقول مرتبطة: 

الكلمات الرئيسية: 

الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

نظرات سريعة في فن التحقيق ٢

من صفات المحقّق

من الواضحات أنّ من يتصدّى لأمرما، يجب عليه أن يتّصف بصفات تؤهّله لإتقان ما تقتضيه طبيعة هذا الأمر...، فالطبيب مثلًا لايحتاج في فنّه إلى إتقان الشعر الجاهلي ومعرفة وحشيّه من مأنوسه، ولا إلى ضبط أوزانه ليعلم أنّ الموشّح متأخّر عن العصر الجاهلي بقرون، ولا ولا... وإن كان من ناحية الثقافة العامّة يحتاج إلى بعض هذه الاُمور...، لكنّها لاتساعده في عمليّة جراحيّة في العين أو كتابة وصفة دواء.

وهكذا قل في كلّ فنّ فنّ من ألوان العلوم الإنسانيّة.

ومن هنا قال الشاعر:

............................

ما كلّ أصلع عالم ومحقّق

ونحن في هذا البحث الموجز، سنطرق ـ بعون الله تعالى ـ أبواب بعض هذه الصفات، ذاكرين منها ما يفتح الله به ممّا بقي في الذاكرة من جهد عاشق لهذا الفنّ أمضى معه سنوات طوالًا، ضيّع عليه طاغوت من طواغيت هذا العصر أينع ثمراتها.

ولنبدأ بالسمة الاُولى المشتركة بين أعمال الإنسان كلّها وهي:

١ ـ الرغبة أو الهواية أو العشق 1

هذه الهواية اُولى الشروط الواجب توفّرها في المحقّق، فإنّ حبّه للتحقيق يسهّل له

الصعاب التي تعترضه، ويذلّل له سبلها، ويعينه على تخطّي مايعترض طريقه من عقبات.

لأنّ هذا الفنّ كثير المزالق، جمّ المعوّقات، وغير المحبّ لايهون عليه أن يبذل من ذات نفسه أو ماله أو... لغير من يحبّ.

هذا الحبّ يهون على المحقّق السهر والتعب في حلّ جملة مبهمة، ويسهّل عليه صرف الساعات بل الأيّام محقّقاً مدقّقاً في قراءة كلمة صحّفها الناسخ، أو عدت عليها عوادي الزمان بمسح أو مسخ.

ويهون عليه ـ مثلًا ـ فوت سفرة يتمتّع فيها بما أباح الله تعالى من مجالي الطبيعة الجميلة، ويتلذّذ بشمّ الهواء وتذوّق طعم حرّية الإنطلاق من بين أربعة جدران.

ويدفعه إلى تجشّم السفر ـ إن كان قادراً عليه ـ إلى مكتبة بعيدة، ولولا هذا الحبّ لما كانت المكتبة عنده أبهج من آلات المستشفى لمن يكره المستشفيات.

ويستلّ منه النقود التي هي عماد حياته ﴿ ... أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا ... 2 فيبذلها رخيصة في شراء كتاب أصفر الورق قد اتخذته العثّة لها ملعباً ومطعماً و...

ويفعل به هذا الحبّ ويفعل...

ومن ذاق عرف..

هذه الهواية ـ عندي ـ أوّل شرط يجب على طالب هذا الفنّ أن يخبره من نفسه، لأنّه إن لم يكن راغباً في التحقيق هاوياً له فسيأتيه من منغّصاته مايصرفه عنه، وقد يفضي الأمر به إلى طلاق لارجعة فيه.

٢ ـ الغيرة

وهي صفة لازمة للمحقّق، فإنّنا ـ بحمدالله اُمّة لها من علمها وأدبها ورجالها و تراثها ما تفخر به على كلّ الاُمم ـ كثرةً وأصالةً و عمقاً و نفعاً للإنسانيّة ـ.

اُمّة إذا طلعت الشمس تطلع على حلقات المعقّبين بعد صلاة الصبح، وإذا غربت تغرب على المتهيّئين لختم نهارهم بصلاة المغرب، من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب.

هذه الاُمّة صهرتها بوتقة الإسلام، واصطبغت بصبغة الله ـ ومن أحسن من الله صبغة ـ أفكارها واحدة، وتراثها واحد.

هذه الاُمّة العريضة الطويلة في المكان والزمان، لها من التراث العلمي والأدبي والحضاري، ماضاقت عنه أرضها الواسعة ففاض على الآخرين مشاعل نور، انساح نورها فعمّ الأرض كلّها.

تراث هذه الاُمّة أضخم تراث عرفته الدنيا، وحسبك إنّ مابقي من مخطوطات اللغة العربيّة فقط ثلاثة ملايين مخطوط، عدا ما اجتاحته النكبات وأودت به الملمّات، فضلًا عن أخوات للعربيّة أثمرن فأطيبن وأكثرن كالفارسيّة والتركيّة والاُردويّة...

وحسبك أنّ رجال هذه الاُمّة وأعلامها نيفوا على نصف مليون علم، كما يقول أحد علماء التراجم.

أمّا تراثها الغنيّ ـ بناءً وزخرفةً وخطّاً ونقشاً وابتكاراً ـ ممّا يقرّ العين ويبهج القلب، فحدّث عن البحر ولاحرج.

هذا التراث الذي صرفت فيه جواهر الأعمار، وبذلت في سبيله أنوار العيون، وحماه السلف ذوو الفضل بمهج النفوس، حريّ بمن يعرفه أن يغار عليه، وأن يحوطه كما حاطه السابقون.

أذكر ـ فيما أذكر ـ أنّ أمين مكتبة من هؤلاء الذين ليس لهم بالكتاب علاقة إلّا قبض المرتّب رأس كلّ شهر، طلبت منه تصوير مخطوطة من نفائس كتبنا، تمتاز بجودة الخطّ وغرابته، ونفاسة الموضوع وأهمّيّته، وكانت النسخة ناصلة الأوراق من جلدها، قد تكسّر من حوافّها الثلاثة مايقرب من السنتيمتر من كلّ ورقة.

جاءني بالمخطوطة وسألني: هل يصوّرها كلّها، حتى الكلمة التي دوّنها مالكها المتأخّر؟!

فأخذت النسخة، وكحلت عيني برؤيتها، وطلبت تصويرها كلّها ـ من الجلد إلى الجلد ـ وأعطيته المخطوطة، فأخذ يعدّل أوراقها بضرب حوافّها على منضذة أمامه وكسار الأوراق يتناثر وقلبي ينزو بين أضلاعه، فما ملكت نفسي أن قلت له: ماكفاكم، أن ألقت بين أيديكم عوادي الزمان بهذه الدرّة المصونة، ممزّقة الاهاب، مفككّة الأوصال.

فلا برسول الله صلّى الله عليه وآله ـ وهو أبو هذه النسخة التي تفتخرون بملكيّتكم لها ـ ... اقتديتم، حيث أمر بإعزاز كريم ذلّ،

ولا الرحمة استشعرتم، فأسوتم لحالها وأشفقتم عليها.

حتى صرتم ترضّون ضلوعها، وتسيلون دموعها.

فضحك مني.. وذهب يصوّرها.

وكان في وادٍ.. وكنت في وادٍ آخر.

فعلى كلّ طالب لفنّ التحقيق أن يستشعر الغيرة على هذا التراث القيّم، والغيرة من سمات رشد الاُمّة، وما ضاعت نفائس كتبنا إلّا حين قصرنا عن الرشد وقلّت الغيرة فينا، فكان رجال ينسبون لهذه الاُمّة ـ وهي منهم براء ـ سماسرة للأجانب ـ في أقدس مدننا ـ يجمعون المخطوطات بثمن بخس ـ لتستقرّ في المتحف البريطاني وغيره من مكتبات الأجانب.

وأسماء هؤلاء معروفة مذكورة بالسوء، منهم من مضى ومنهم من غبر.

٣ ـ الذكاء ودقّة الملاحظة

وهذه سمة يقتضيها الإبداع في كلّ علم، والتقدّم والتجديد في كلّ فنّ، وكلّ مبدع في تاريخ البشرية لم يكن ليبدع في فنّه لولا صفات منها: الذكاء ودقّة الملاحظة... ولولاها لما زاد العارف بعلم من العلوم أن يكون نسخة مكرورة من اُستاذه بل نسخة من الكتاب الذي قرأه.

وقد قيل لأحد العلماء: إنّ فلاناً قد حفظ الكتاب الفلاني، فقال: زادت في البلد نسخة.

هذه الملاحظة الدقيقة شرط ضروري في فنّنا الذي نحن بصدده، لأنّ رسم الخط العربي متشابه الصور متقارب الأشكال، ومعاني الألفاظ في العربيّة متقاربة، لأنّ هذه اللغة الكريمة لغة اشتقاقيّة تجمع كل اُسرة من الألفاظ آصرة واحدة ومعنى عام تشتقّ منه المعاني الفرعيّة، التي هي قريب من قريب.

فإن لم يكن المحقّق دقيق الملاحظة إشتبه عليه ـ مثلًا ـ (كتب) من الكتابة المعروفة و (كتب القربة) أي خاطها بسير من جلد، وربّما صحّح الثانية بما يحلو له من لفظ بناء على أنّها خطأ، وهي ـ في الحقيقة ـ ليست خطأ إلّا في ذهنه وحده.

وتصحيح التصحيف ـ في الغالب ـ يعتمد على هذه الصفة في المحقّق، ولا يظنّ أنّ المحقّق يحتاج هذه الصفة في تصحيح التصحيف فحسب، بل هو محتاجها في أغلب أعماله، فأسماء الرجال، و واقع الحياة في كلّ عصر، وظروف النصّ الذي يحقّقه ماظهر منها وماخفي، تحتاج إلى هذه الدقّة في الملاحظة لكي لايتسرّب الخطأ من باب من أبواب الغفلة، أو ثغر من ثغور الذهول.

٤ ـ التواضع والإستعانة بذوي الخبرة

الإسلام السمح السهل، دين الفطرة و منهج الإنسانيّة المتساوية التي تجمعها العبوديّة لله تعالى، والإعتراف بأعلميّة وأفضليّة وقيادة المعصومين عليهم السلام، أمّا ما عداهم من الناس فـ:

أبوهم آدم والاُمّ حوّاء

هذا الدين العظيم من كريم أخلاقه التواضع، والتواضع هو السمة الحقيقيّة لهذا الإنسان ـ لو عقل ـ فإنّه مهما بلغ من العلم جاهل بأقرب شيء إليه ـ نفسه ـ ومهما حصل من المال محتاج إلى شربة ماء، إن فقدها أو منع منها هلك...

هذا التواضع حاجة من حاجات المحقّق كي تنمو خبرته، ويتّسع اطّلاعه وتزيد معلوماته، فإنّ العلم كلّه في العالم كلّه، كما يقولون.

فما على طالب المعرفة الحقّة أن يستفيدها من أيّ إنسان صدرت، وما عليه أن يقول لما يجهله: لا أدري!

المحقق بتواضعه المراد منه، يفتح لنفسه الطريق في تصحيح الخطأ وتقويم الوهم الذي لايخلو منه أحد إلّا من عصم الله.

وهو بتواضعه هذا يضيف خبرات إلى خبرته، وجهود أعمار إلى جهده.

فما عليه أن يستفيد من عارف بتاريخ الخطّ وكيفيّاته، أو مطّلع على أماكن المخطوطات ومظانها، أو ناطق فصيح بلغة القرآن ولو كان بدويّاً اُمّيّاً.

ولأذكر مثالًا على ذلك:

جاء في ديوان الشريف المرتضى الذي حقّقه رشيد الصفّار وقدّم له محمدرضا الشبيبي وراجعه و ترجم لأعلام الديوان وصحّح بعض ألفاظه الدكتور مصطفى جواد، وقد رمز لحواشيه بـ (م.ج).

جاء في الصفحة الثانية والثلاثين من الجزء الأوّل قول الشريف:

وإلى فخار الملك اُصدرها

كلماً تسير بذكرها الكتب

وبها على أكوار ناجية

نصَّ المنازل عني الركب

وعلّق عليها بما بلي:

في الأصل نطس الجنادل، والذي أثبتناه أقرب من الأصل، فإنّه يقال: نصصت فلاناً: إذا استقصيت مسألته عن الشيء حتى تستخرج ماعنده، فالركب قد نص أهل المنازل عن الكلمة (م.ج).

والصحيح أنّ معنى هذه الكلمة المناسب لموقعها هنا قد اغفلته معاجم اللغة ـ في حدود اطلاعي ـ ولكنّه لايزال حيّاً شائعاً في لهجة الجزيرة العربيّة وما والاها من بادية العراق والشام، بتغيير بسيط في اللفظ حيث يلفظونها (نصا) فتسأل الرجل الغريب: أناص أنت أحداً أم لا؟ فيجيبك: أنا ناص فلاناً، أي قاصد.

هذا المعنى من النصّ أي القصد، قد أغفله ما اطّلعت عليه من المعاجم وهو المراد في بيت الشريف، فأنّ الشريف قد كتب القصيدة بعد نظمها وأرسلها الى ممدوحه، ولم يحملها إليه بيده.

فالركب (أي حامل القصيدة) قد نصّ منازل الممدوح (أي قصدها) نيابة عن الشريف.

وليس هنا استقصاء في المسألة..! كما جاء ف التعليق.

هذا التصحيح للفظة في ديوان شاعر هو أحد عظماء المسلمين.

وتفسيرها بالمعنى المناسب الملائم.

واستدراك هذا المعنى على معاجم اللغة.

هذه الاُمور الثلاثة استفدتها من بدويّ اُمّيّ لايقرأ ولايكتب.

فالتواضع والإستعانة بالعارفين شرط من اُمّهات الشروط المطلوبة في المشتغل بتحقيق التراث.

وليس المراد من التواضع والإستعانة هنا ميوعة الشخصيّة، أو الاتّكاليّة أو التطفّل أو...، بل هو التواضع الكريم والإستعانة التي هي من أهمّ مقوّمات هذا الإنسان الضعيف.

للبحث صلة... .3

  • 1. ذكرناها على الترتيب تدريجاً فإنّ إحداها أرفع من الاُخرى، ولكلّ واحدة منها درجة ترتفع بصاحبها في سلّم هذا الفنّ.
  • 2. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 5، الصفحة: 77.
  • 3. نشرت هذه المقالة في مجلة تراثنا العدد 2 ـ التابعة لمؤسسة آل البيت لإحياء التراث.