الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الدكتاتورية... صور وأشكال

أحياناً ترتكز بعض المفردات بمفاهيمها في الذهن وتقترن بمصاديق ومسميات في الخارج، وكأنها مفردات ومفاهيم خلقت لأجل هذا المعنى أو ذاك فقط، ولأن العادة أخّاذة، واقتران المفردات مرة بعد أخرى بشيء ما قد يولد ارتباطاً يصعب فكه، لذلك يتحرك الذهن وينتقل مسرعاً إلى ما اعتاد عليه من دون أن يفكّر في أي أمر آخر يمكن أن تشمله هذه الكلمة أو تلك المفردة.

منذ زمن بعيد ارتكزت للدكتاتورية والإرهاب في أذهاننا مصاديق وصور خارجية، فبمجرد ذكرها تحضر تلك المصاديق والصور تباعاً، ويقف العقل منقبضاً عندها من دون أن يستدعي أي مصداق جديد.
الدكتاتورية والإرهاب تعني في أعماقنا أميركا و «إسرائيل» والأنظمة المستبدة وكفى، إذ يقف خيالنا عند هذا الحد، فلا شيء بعد هذه يمكن أن يكون دكتاتورياً.
ننسى أن الدكتاتورية سلوك سيّال ومتدحرج، لا يقف عند حد، ولا يقيد بإطار، ولا ينحصر في طبقة أو فئة أو شخص.
من الظلم لمفردة الدكتاتورية، ومن الدكتاتورية ضدها ألا نعطيها حقها من التوسع والانبساط، فالدكتاتور قد يكون رباً للمنزل - زوجاً وأباً - لكنه متسلطٌ لا يتنفس أحدٌ بحضوره، ولا يقبل أن يناقش من قبل أحد، ولو حصل شيء من النقاش والحديث معه فإن يده هي الحسم والفيصل لوضع النهاية لأي رأي أو نقاش.
هل يصدّق القارئ أن الدين وهو قلعة المقاومة للدكتاتورية، يمكن للمتدينين أن يمارسوا بلباسه وتحت لافتته ضد بعضهم، العديد من أصناف وأشكال الإرهاب الفكري والديني، فيقمع هذا ويحاصر ذاك ويرعب البقية بسلاح الدين الذي يستخدم في غير محله.
علينا ألا نستبعد أن الممارسين للنضال والمناهضين للدكتاتورية قد يمارسونها بدرجةٍ عالية، فلا يقبلون مخالفتهم في الرأي، ولا مباينتهم في التحليل، ولا مفارقتهم في التشخيص، فيتحوّلون إلى فراعنة صغار مفاد تصرفهم مع الآخرين هو ﴿ ... قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ 1.
قد يمارس المناهض للدكتاتورية قمعاً منقطع النظير ضد الآخرين فيتهمهم ويخوّنهم ويؤثمهم ويجرّمهم ويخرجهم من الملة، ويحاول عزلهم عن المحيط لتخلو الأجواء له وحده يتحرك فيها من دون أي صوت رافض أو ناقد، ليمارس دوراً استعلائياً أحياناً، وليقترب من النظرية الفرعونية ﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ ﴾ 2.
قلت في بداية المقال إن الدكتاتورية سلوك سيّال ومتدحرج، وخطره يكمن في خبثه، فهو كالمرض الخبيث (السرطان) يتمدّد رويداً رويداً، من دون أن يشعر الإنسان به، حتى يطبق على جميع تصرفاته ورؤاه ومواقفه.
الحذر واليقظة من الوقوع في الدكتاتورية لا يحصل بكرهها واتخاذ موقف ما وفي زاوية ما منها، بل يأتي بإخضاع الإنسان لسلوكه وتصرفاته بل وتصوراته، ووضعها تحت المراقبة، وخصوصاً مع من يختلفون معه في التحليل والموقف والرأي، أو حتى يخالفونه في التوجه كله.
وما قول الشاعر: لا تنه عن خلقٍ وتأتي مثله.... عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ

إلا تنبيهاً لوقوع الإنسان أحياناً فيما يُظهر كرهه، لكنه عملياً يمارسه ويتوغل فيه3.