الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

البلاء

البلاء هو من الأمور التي لا تنفكّ عن المسيرة الإنسانية، إذ طالما أنّ الإنسان موجود حي متحرك وفاعل، فهذا يعني أنّ البلاء هو جزء لا يتجزأ من هذه الحياة، لأنّه نتاج الحركة العامة التي يمارسها البشر بما هم أفراد، كلٌّ من موقعه الذي هو فيه، ولا يمكن أن نتصوّر يوماً حياة بشرية من دون وقوع الإبتلاءات، لأنّ عدم الإبتلاء هو الناتج عن السكون وعدم الحركة، وهذا بعيدٌ كلّ البعد عن مجرى الحياة الإنسانية التي لا تعرف الجمود، بل هي في حركةٍ دائمة مستمرّة إلى أن يقضي الله أمراً كان مقدّراً عنده سبحانه.

وسنحاول في هذا البحث الحديث عن البلاء من نواحيه كافة، حتى يكون المؤمن بالخصوص على بصيرةٍ من هذا الأمر الحيوي والمهم، ليعرف بالي كيف ينبغي له أن يتعامل مع كلّ أنواع البلاء التي قد تصيبه في حياته، ليحوّلها إلى عنصر قوّةٍ ودفعٍ له للإستمرار مع الله عزوجل من دون أن يسقط أو تزلّ قدمه إلى حيث لا يرغب ولا يريد.

أولاً- معنى البلاء: البلاء هو (الإختبار) و (الإمتحان) في الحسن والقبح كما يصرّح بذلك أهل اللغة حيث يقولون: ( بلوت الرجل بلواً وبلاءً وابتليته أي (إختبرته)، وابتلاه الله بمعنى ( امتحنه)، والبلاء يكون في الخير والشر ولا ينحصر بواحدٍ منهما، والإسم هو (البلاء)، ومن هنا فإنّ كلّ ما يمتحن به الله سبحانه عباده هو من البلاء، سواء في مجال الأمراض أو الفقر أو إدبار الدنيا أو الظلم أو الضرر وغير ذلك، أو في مجال كثرة المال والجاه والقدرة والزعامة والمنصب وغير ذلك أيضاً.

ثانياً- أقسام البلاء: والبلاء ينقسم إلى قسمين ـ بلاء خيرـ و ـ بلاء شرـ ، وقد دلّت الآيات والروايات على ذلك بما لا مزيد عليه، ولا ينبغي أن يتصوّر الإنسان المؤمن خاصّة أنّ البلاء يكون له منحى سلبي دائماً، بل قد يكون بأمور ظاهرها أنّها ذات منحى إيجابي، لكن تعامل الإنسان معها هو الذي يمكن أن يحولّها إلى نعمة، ويمكن أن يجعلها نقمة عليه وناراً تحرقه يوم القيامة بلهيبها وسعيرها. وقد قال الله في القرآن الكريم :﴿ ... وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ... 1، و ﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ 2. وكذلك قوله :﴿ ... وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ 3. وفي الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (أنّه مرض فزاره قوم فقالوا له: كيف أصبحت يا أمير المؤمنين؟ فقال أصبحت بشرٍ، فقالوا له: سبحان الله هذا كلام مثلك؟ فقال يقول الله تعالى: ﴿ ... وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ... 1، فالخير الصحة والغنى، والشر المرض والفقر ابتلاء واختباراً). وفي حديث ورد أيضاً: (ما من قبض ولا بسط إلاّ ولله فيه المن والإبتلاء)، والقبض يعني (الإمساك)، والبسط يعني (الرزق).

ثالثاً- سبب البلاء والغاية منه: وممّا لا شكّ فيه أنّ البلاء الذي ينزل بالإنسان له هدف وغاية، ولولا ذلك لكان عبثاً ولغواً، ويستحيل على الله أن يكون في تصرّفه مثل هذا الأمر المنافي لحكمته وعدالته ورحمته، وعليه فعندما نرجع إلى القرآن والسنة نجد أنّ للبلاء أهدافاً كبيرة وخطيرة جداً وأساسية في حياة البشر، فغاية البلاء كما أوضحها القرآن الكريم نجدها في الآيات التالية:

  1. تمييز الصالح من الطالح:﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ... 4.
  2. التمحيص والغربلة:﴿ ... وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ 5.
  3. إمتحان البشر:﴿ ... وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ... 6.
  4. كشف أحسن الأعمال:﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ 7.

وأمّا الأحاديث فهي كثيرة جداً وتكشف عن الهدف والغاية من البلاء، ومن جملة الأحاديث

  1. (ألا! إنّ الله قد كشف الخلق، لا أنّه جهل ما أخفوه من مصون أسرارهم، ومكنون ضمائرهم، ولكن ليبلوهم أيّهم أحسن عملاً، فيكون الثواب جزاءً والعقاب بواءً) ـ أمير المؤمنين (عليه السلام)
  2.  ورد في تفسير قوله تعالى:(﴿ ... أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ... 8 ومعنى ذلك أنّه سبحانه يختبر عباده بالأموال والأولاد ليتبيّن الساخط لرزقه، والراضي بقسمه، وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم، ولكن لتظهر الأفعال التي يستحقّ بها الثواب والعقاب). أمير المؤمنين (عليه السلام)
  3. (الناس عبيد الدنيا والدين لعقٌ على ألسنتهم يحوطونه ما درت معايشهم،فإذا مُحِّصوا بالبلاء قلَّ الديانون)ـ الإمام الحسين (عليه السلام)

ولا شكّ أنّ هذه الغايات للبلاء في الدنيا مفيدة ونافعة للمؤمن الملتفت الواعي، لأنّه يدرك أنّ كلّ الإبتلاءات الواقعة عليه سلباً كانت أو ايجاباً هي من أجل اختبار إيمانه وكشف حقيقة نفسه ومحتواه الروحي والإيماني، لأنّ البلاء يكشف عن جوهر الإنسان ومعدنه القوي بالإيمان أو الضعيف به، ولذا ورد في الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام): ( في تَقَلُّب الأحوال علم جواهر الرجال، والأيام توضح لك السرائر الكامنة).

والإنسان المؤمن عندما يعاين الإبتلاءات التي يبتلي بها هو أو غيره، فإنّها ينبغي أن تساعد على التخلّص من الآفات الذميمة والرذائل القبيحة، خاصة عندما يرى الإنسان نفسه ضعيفاً وعاجزاً عن مواجهة البلاء والمحن والمصائب فيلتجئ إلى الله ربّ الأرباب وربّ العزّة والقدرة والسلطان ليستمدّ منه العون والقوّة والقدرة على المواجهة، وهذا ما يطرد التكبّر والغرور والحسد والبغضاء والكراهية من نفس المؤمن الصابر المجاهد ضدّ نفسه الأمّارة بالسوء، وتزرع في نفسه التواضع والغبطة والحبّ والصفاء وسوى ذلك من الأخلاق الحميدة والخصال الفاضلة، ولذا ورد في حديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) :(... ولكن الله يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبّدهم بأنواع المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره، إخراجاً للتكبّر من قلوبهم، وإسكاناً للتذلّل في نفوسهم، و ليجعل ذلك أبواباً إلى فضله).

رابعاً- درجات البلاء: والبلاء ليس على وتيرةٍ واحدة، فتارة يكون البلاء شديداً وقوياً على شخصٍ ما، وتارةً يكون ضعيفاً، وثالثة يكون في مرحلة بينهما، وهذه القوة وذلك الضعف في الإبتلاء راجع في الحقيقة إلى أصناف البشر الذين يقع عليهم البلاء، وبما أنّ الله الخالق القدير عالم بما خلق من البشر على مستوى درجات إيمانهم وإخلاصهم وقدراتهم على التحمّل، فإنّ البلاء يكون مساوياً لكلّ مخلوقٍ بمستوى استعداداته ولياقاته، وقد ورد في الحديث عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال: ( إنّ في كتاب علي (عليه السلام) ( إنّ أشدّ الناس بلاء النبيون ثمّ الوصيّون، ثمّ الأمثل فالأمثل، وإنّما يبتلي المؤمن على قدر أعماله الحسنة، فمن صحّ دينه وحسن عمله، إشتدّ بلاؤه، وذلك أنّ الله تعالى لم يجعل الدنيا ثواباً لمؤمنٍ ولا عقوبةً لكافر، ومن سخُفَ دينه وضعُف عقله، قلَّ بلاؤه، وإنّ البلاء أسرع إلى المؤمن التقي من المطر إلى قرار الأرض) أصول الكافي ـ مجلد ـ كتاب الإيمان والكفر ـ باب شدة ابتلاء المؤمن ـ حديث 29 ـ.

والسبب أنّ الأنبياء (عليهم السلام) هم أشدّ الناس ابتلاءً هو من جهة أنّهم العباد المختارون من الله لهداية البشرية، وهذا يعني بالطبع أنّ درجات إيمانهم هي الأعلى والأرفع، ولذا وجب أنّ يكون الأنبياء (عليهم السلام) معصومين، ليكونوا القدوة للناس في كلّ شيء، سواء في جانب البلاء والمصائب، أو في جانب الرزق والنعم، ويكفي أن نرجع إلى القرآن الكريم الذي يخبرنا عن الإبتلاءات التي ابتلي بها أنبياء الله سلام الله عليهم وصولاً إلى خاتم الأنبياء نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي نعلم جميعاً كم عانى من ظلمٍ وقهرٍ وتكذيبٍ واتهامٍ من صناديد قريش وأبناء مكة عندما دعاهم إلى توحيد الله ونبذ عبادة الأصنام والأوثان.

والكلّ يعلم أيضاً ما عاناه أئمتنا (عليهم السلام) من ظلم الحكام وجورهم، حتى أنّه لم يمت أحد منهم بالموت الطبيعي ، بل خرجوا من هذه الدنيا، إمّا قتلاً بالسيف، أو قتلاً بالسم، مُضافاً إلى ما تعرّضوا له حال حياتهم من غصبٍ لحقوقهم المشروعة التي قرّرها الله لهم في الخلافة والولاية، وكذلك معاناتهم مع حكام بني أمية وبني العباس، حيث تعرّض الأئمة (عليهم السلام) للتعذيب بالسجن، أو الإقامة الجبرية في منازلهم، أو منع الزيارات عنهم وقطع تواصل الناس معهم، واعتقال وقتل وسجن وتعذيب أتباعهم ومواليهم، ومع كلّ ذلك بقي أئمتنا (عليهم السلام) مع الله في كلّ ذلك، حتّى سجّلوا بسيرتهم هذه وبمواقفهم الإيمانية الصلبة التي لا تهادن أو تلين ما يعطي القوّة والقدرة للأتباع على الإقتداء بسيرتهم ونهجهم الجهادي العظيم.

نموذج ـ الإمام زين العابدين (عليه السلام):

شارك الإمام زين العابدين (عليه السلام) مع أبيه الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء، إلاّ أنّه لم يقاتل لشدّة مرضه الذي أقعده عن ذلك، ولعلّ ذلك لحكمةٍ اقتضتها مصلحة هذا الدين لاستمرار الإمامة والولاية في الأرض، فهذا الإمام الذي شهد مقتل أبيه الإمام الحسين (عليه السلام) مع الصفوة المخلصة من أهل بيته وأصحابه في كربلاء، ثمّ جرت عليه بعد تلك المجزرة الكثير من الويلات والمحن، ومن أبرزها (أسره) مع باقي النساء والأطفال، حيث قُيّدت يداه ورجلاه ورقبته بالسلاسل وسِيْق من بلدٍ إلى بلد وهو على تلك الحالة وأدخله جلاوزة يزيد على عبيد الله بن زياد لعنه الله في الكوفة، حيث كاد الإمام )عليه السلام) أن يتعرّض للقتل على يديه بسبب أجوبة الإمام القاطعة والحاسمة في مواجهة ذلك الطاغية، ومن ذلك المجلس أطلق الإمام زين العابدين (عليه السلام) ذلك الشعار الشهير الذي لا يزال المجاهدون المؤمنون يرفعونه في مواجهة كلّ ظالم وطاغية:(القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة)، وكذلك ما قام به من مواقف جهادية في مواجهة الطاغية ( يزيد بن معاوية) في الشام لا يزال صداها يدوّي في الزمن بأنّ المصائب والمحن لا تُسْقط إيمان المؤمن وارتباطه القوي والصحيح بربّه وخالقه، وأنّ المؤمن عند حلول البلاء يمكنه أن يتعامل معه بطريقةٍ تحوّله إلى وسيلةٍ لتقوية الإيمان طالما أنّ ذلك في سبيل الله عزَّ وجلّ.

فهنا نرى أنّ بلاء الأسر الذي ابتلى به الإمام زين العابدين (عليه السلام) لم يزحزحه عن البقاء إلى جنب الله قيد أنملة، وبقي محتفظاً بعزّة نفسه وكرامته حتّى في تلك الأوقات العصيبة جداً، التي قد يضعف أمامها الكثير من الناس حيث يجبنون ويرضخون ويستسلمون للظالمين والمستكبرين.

خامساً- إستحباب الدعاء عند البلاء: إنّ انواع البلاء التي قد تصيب الإنسان تؤثّر فيه بالطبع خصوصاً في جوانبها السلبية التي تلقي بظلالها غير الحميدة كالمرض أو الفقر أو غير ذلك، فيحتاج الإنسان في مقابلها إلى سلاحٍ قوي وثابت ومتين يتمكّن من خلاله من الصبر والتحمّل والمواجهة حتى لا يُسْقِطه الفقر أو المرض عن إيمانه فيضطرّ لأن يمدّ يده إلى من لا يرضاه الله من البشر.

والسلاح الذي جعله الإسلام في مثل هذه الحالات هو الدعاء لكي يستعين به الإنسان، وقد ورد التأكيد عليه في العديد من الآيات والروايات، كقوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ 9، وقال تعالى :﴿ ... ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ... 10، وفي الروايات وبخصوص دعاء البلاء ورد :(قل عند كلّ شدّة: لا حول ولا قوّة إلاّ بالله تكفها) عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، وورد عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنّه قال: (رأيت أبي عليه السلام في المنام فقال: يا بني إذا كنت في شدّة فأكثر من قول( يا رؤوف، يا رحيم)، والذي نراه في المنام كما نراه في اليقظة)، وفي رواية أخرى أنّ الله تعالى أوحى لنبيّه موسى (عليه السلام) :(إتخذني جنَّة للشدائد، وحصناً لمسلّمات الأمور).

سادساً- الصبر عند البلاء: كما أنّ المطلوب من المؤمن أن يدعو ربّه عند نزول البلاء به، فالمطلوب منه أن يصبر أيضاً على هذا البلاء، لأنّ البلاء امتحان من الله عزّ وجلّ لعبده المؤمن خاصة، فإذا لم يستعِن بالصبر فسوف يقهره البلاء ويضعف إيمانه وارتباطه، وفي هذا خسارة كبيرة للمؤمن من رصيده الروحي والمعنوي في نفسه وعند الله، وهذا ما يجعله عرضةً للمخاطر المتنوعة على المستوى الدنيوي، فإذا ابتُلي المؤمن بظالمٍ أو عدو مثلاً أو ببلاء الفقر، فهنا إن لم يصبر المؤمن فقد يصل إلى المستوى الذي يدخل فيه في خدمة الظالم أو يصبح عميلاً للعدو أو يرضى بفعل ما لا يريد أن يفعله إن التجأ إلى غني مثلاً ليرفع عنه العوز والفقر والحاجة، بينما إن استعان المؤمن بالصبر وتحمّل مع التوكّل على الله فقد يأتيه الفرج من حيث يحتسب أو لا يحتسب وقد ورد في الحديث أنّ :(الصبر مفتاح الفرج)، وقد ورد في الروايات أنّ الفرج لا بدّ أن يعقب البلاء، لكن بشرط الصبر والتحمّل كما في الحديث التالي :(عند تناهي البلاء يكون الفرج)، أو الحديث الآخر الذي يقول: (أضيق الأمر أدناه من الفرج) أو (إذا اضيقت البلاء كان من البلاء عافية)، وورد في حديث آخر:(...أن الصبر عند البلاء أعظم الفضلة عند الرجاء).

وبالعودة إلى القرآن الكريم، نجد العديد من الآيات الناطقة بضرورة الصبر عند البلاء وعند الشدائد، فمن الآيات الواردة قوله تعالى:﴿ ... كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ 11، أو قوله تعالى الآخر:﴿ ... وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ... 12، وكذلك قوله:﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ... 13.

فالصبر عند الإبتلاءات والشدائد هو من خصال المؤمنين الملتزمين لأنّه يقوّي إيمانهم ويعصم نفوسهم ويهذّب أرواحهم ويرفعها من مقام التعلّق بالأرض والشهوات إلى مقام العبودية الحقّة لله عزّ وجلّ، ولذا ورد في الأحاديث ما يشير إلى كلّ هذه المعاني السامية روحياً وإيمانياً والتي تنتج عن طريقة التعامل الصحيحة مع البلاء.

من كلّ ذلك، يمكن الإستنتاج بأنّ البلاء هو طريق لتقوية فضيلة الصبر عند المؤمن، ولذا ورد في الحديث أنّ المؤمن قد يُبتلى بكلّ أنواع البلاء ليختبر الله إيمانه وصبره، أو ليكتسب المؤمن صفة الصبر ممّا يبتلى به.

سابعاً- كراهة عدم البلاء: بما أنّ للبلاء كلّ تلك المنافع الروحية والإيمانية فإنّنا نرى أنّ الإسلام يكره للمؤمن أن لا يكون مبتلى بأيّ بلاء في حياته، لأنّ عدم البلاء قد يكون ناتجاً عن غفلة الإنسان عن الآخرة وانغماسه بالدنيا، فيؤدّي عدم البلاء إلى انجرافه أكثر إلى ما يبعده عن الله عزّ وجلّ، ولذا ورد في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) :(لا حاجة لله فيمن ليس له في ماله وبدنه نصيب) ،أو كما في الحديث عن الإمام زين العابدين (عليه السلام): (إني لأكره أن يعافى الرجل في الدنيا ولا يصيبه شيء في المصائب).

فالله سبحانه عندما لا يبتلي إنساناً فهذا قد يكون كاشفاً عن عدم إيمانه أو عدم استقامته أو عن نفس مريضة غير قادرة على الإرتقاء نحو مدارج الكمال ومعارج السمو النفسي والروحي والإيماني، وبالجملة فعدم الإبتلاء هو عبارة أخرى عن السقوط في فخّ الدنيا وبهارجها وزينتها وشهواتها، ولذا نرى قلّة الصبر عند غير المؤمنين الملتزمين، ومن هنا نفهم لماذا يُقدِم الكثير خارج إطار الإيمان والتديّن على الإنتحار مثلاً عند عروض المصائب عليهم لأنّ الإنتحار هو كناية عن ضعف النفوس عن مواجهة أيّ بلاء، ولذا يُقْدِمُون على الإنتحار بتوهّم أنّه ينقذهم من البلاء، بينما يكونون في الحقيقة قد أزهقوا أرواحهم لينتقلوا إلى بلاءٍ أكبر في الآخرة وهو (النار وبئس القرار) بسبب إقدامهم على القيام بعملٍ مبغوض عند الله عزّ وجلّ ومرفوض من وجهة النظر الإلهية لمعنى الحياة والبلاء، ولذا ورد في الحديث الشريف: (إذا رأيت الله سبحانه يتابع عليك البلاء فقد أيقظك، إذا رأيت الله سبحانه يتابع عليك النعم مع المعاصي فهو استدراج لك) وورد في حديث آخر :(إذا أراد الله بعبد خيراً لأذنب ذنباً تبعه بنعمة ويذكّره الإستغفار، وإذا أراد الله بعبدٍ شراً فأذنب ذنباً أتبعه بنعمة لينسيه الإستغفار ويتمادى به وهو قول الله عزّ وجلّ سنستدرجهم من حيث لا يعلمون، بالنّعم عند المعاصي).

ثامناً- موقع المبتلى عند الله: لا شكّ أنّ كلّ عملٍ يصدر عن الإنسان خيراً كان أو شراً يترك أثراً في النفس إيجاباً أو سلباً، وعليه فإذا بدأ الإنسان بالتعلّق بالدنيا من خلال حبّ الشهوات والملذّات والإنجرار نحوها فيصل إلى مرحلةٍ ينفر فيها من كلّ ما يمنعه من تحقيق رغباته وشهواته ويزداد ارتباطه بالدنيا والجنوح نحو ما يوفّر له الأمن والراحة والهدوء حتّى يصل إلى المرحلة التي يقول الله عن أصحابها :﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ 14، ويصلون إلى المستوى الذي لا يستطيعون معه التحمّل وعدم الصبر على أيّ نوعٍ من أنواع البلاء، وهؤلاء هم الذين يسقطون من عيني الله ويتركهم لمصيرهم، ويمدّ لهم في أعمارهم ليزدادوا إثماً وغياً وضلالاً، وهؤلاء الذين ينطبق عليهم قول الله تعالى:﴿ ... إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا 15، فموقع هؤلاء بعيدٌ كلّ البعد عن الرحمة الإلهية لأنّهم لم يتمكنوا من حفظ أنفسهم وصونها وترويضها وتهذيبها بما كان يحدث معهم من الإبتلاءات سواء بلاء الخير أو بلاء الشر.

أمّا الإنسان المؤمن الملتفت الواعي والهادف، فيعرف أنّ أيّ بلاءٍ يصيبه هو لامتحانه واختبار قدراته، فيعمل على التحمّل وتعويد نفسه على الصبر حتّى يكتسب اللياقات الإيمانية والقدرات الروحية، لأنّه كلّما مرّ ببلاءٍ وتمكّن من تحمّله والتعامل معه كما ينبغي سيزداد قوّة وثباتاً وسيكتشف من خلال ذلك البلاء أنّه قد صار أقدر وأقوى ممّا كان عليه، مُضافاً إلى أنّ البلاء بعد البلاء يزرع في نفس المؤمن عدم الإرتباط بالدنيا وعدم التعلّق بها، لأنّ البلاء يضعه أمام حقيقة أنّ الدنيا غير مأمونة وغير مضمونة، وأنّها غادرة وخائنة وتبيع طالبيها في لحظة غفلة أو سقوط، وهذا يؤدّي بالتالي إلى أن يتعامل معها بحذرٍ وخوف شديدين من كلّ ما فيها من ملذّات وشهوات أو من أخطار وابتلاءات، وهكذا يصل المؤمن إلى المستوى الذي لا يرى لحياته قيمة بدون البلاء الذي يعطيها معنى يختلف عن معنى الحياة بلا بلاء أو امتحان، ولذا ورد في الحديث :(إنّ الله تعالى ليتعاهد المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الرجل أهله بالهدية من الغَيْبة ويحميه الدنيا كما يحمي الطبيب المريض)، ولذا ورد أنّ المنزلة عند الله ورفيع الدرجات عنده عزّ وجلّ لا تكون إلاّ من خلال بلاءٍ ما يُبتلى به الإنسان كما في الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) :(إنّه ليكون للعبد منزلة عند الله فما ينالها إلاّ بإحدى الخصلتين إمّا بذهاب مال أو ببلية في جسده)، أو كما في الحديث عن الإمام الحسين (عليه السلام) أنّه رأى جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المنام فقال له: (إنّ لك درجة في الجنة لا تنالها إلاّ بالشهادة)، وكلّنا يعلم أنّ الجهاد والقتال في سبيل إعلاء كلمة الله وحفظ دينه من أقوى أنواع البلاء والإمتحان.

ولذا كلّما ارتقى الإنسان في درجة تحمّله وصبره على الأذى وعلى البلاء كلّما دلّ ذلك على صفاء إيمانه وعلوّ درجته في الإرتباط بالله والثقة به والتوكّل عليه، وكلّما ازداد إيمانه كلّما ازداد حبّ الله له، ومن أحبّه الله ابتلاه ليرفع من مقامه أكثر، وليكون العبد المبتلى تحت نظر الله تعالى مباشرة، ومن هنا قد يصل الإنسان المؤمن المبتلى إلى المستوى الذي يرى فيه أنّ (البلاء نعمة)، وأنّ عدم البلاء (نقمة) كما ورد في الحديث الشريف عن الإمام الكاظم (عليه السلام) :(لن تكونوا مؤمنين حتى تعدوا البلاء نعمة والرخاء مصيبة وذلك أنّ الصبر عند البلاء أعظم من الغفلة عند الرخاء) أو كما ورد في حديث آخر :(إذا رأيت ربّك يوالي عليك البلاء فاشكره، وإذا رأيته يتابع عليك النعم فاحذره)، أو كما في حديث آخر أيضاً: (لا تكون مؤمناً حتّى تعدّ البلاء نعمة، والرخاء محنة، لأنّ بلاء الدنيا نعمة في الآخرة، ورخاء الدنيا محنة في الآخرة.(

وهذا المؤمن الصابر على البلاء هو الذي يكرمه الله بالبلاء كما ورد في مضامين أحاديث أخرى التي تفيد أنّ العبد الصابر على البلاء مكرَّم عند الله، وتكريمه يكون بالبلاء كتعبيرٍ عن الرضا الإلهي والقبول الربّاني لذلك العبد المبتلى والممتحن كما جاء في الحديث عن صادق أهل البيت (عليه السلام) :(البلاء زين للمؤمن، وكرامة لمن عقل لأنّ في مباشرته والصبر عليه والثبات عنده تصحيح نسبة الإيمان)، أو كما ورد هذا المعنى في حديثٍ آخر بشكلٍ صريح وكذلك عن الإمام الصادق (عليه السلام) :(ما أثنى الله على عبدٍ من عباده من لدن آدم الى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ بعد ابتلائه، ووفاء حقّ العبودية فيه، فكرامات الله في الحقيقة نهايات بداياتها البلاء) ،أو كما في حديثٍ آخر عن الصادق (عليه السلام): (إعلم أنّ بلاياه محشوة بكراماته الأبدية، ومحنه مورثة رضاه وقربه ولو بعد حين).

وعليه، يتبيّن ممّا ذكرناه أنّ الله إذا أحبّ عبداً بعد أن يكون قد ابتلاه واختبره ونجح في الإمتحان صار موقعه قريباً من الله وواقفاً ضمن ساحة رحمته وعطائه وفيضه، ولذا تصبح حياة المؤمن مترافقة مع البلاء، فلا تكاد تمر فترة إلاّ يأتيه البلاء ليذكّره بالله عزّ وجلّ دوماً كما ورد في الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) :(إذا رأيت الله سبحانه يتابع عليك البلاء فقد أيقظك...)، أو كما في الحديث الآخر عن الصادق (عليه السلام):(المؤمن لا يمضي عليه أربعون ليلة إلاّ عرض له أمرٌ يحزنه يذكّر به)، وكما في حديث عن الصادق (عليه السلام): (ما من مؤمنٍ إلاّ وهو يذكّر في كلّ أربعين يوماً ببلاء، إمّا في ماله،أو في ولده، أو في نفسه فيؤجر عليه، أو همٌّ لا يدري من أين هو).

تاسعاً- نهاية المطاف: بعد كلّ ما قلناه عن البلاء، فلا شكّ أنّ المؤمن الملتزم يتمنّى لو تكون كلّ حياته بلاء حتّى يبقى مرتبطاً بربّه وغير غافل عنه، وحتّى يزداد إيماناً ونوراً وتقوى وخوفاً وورعاً من الله، وحتّى يعيش صفاءً وإخلاصاً واستقامةً وثباتاً وتوكلاً على الله عزّ وجلّ، لأنّ البلاء لمن يعرف قيمته وأثره وأجره وثوابه ومنزلته عند الله سيسأل الله أن يبتليه دوماً، ليعيش الإنسان ذكر الله دائماً فلا يغفل عن ربّه لحظة واحدة.

ومن هنا ينبغي للمؤمنين جميعاً أن لا ينظروا إلى أيّ بلاءٍ نظرةً سلبية تشاؤمية، وأن لا يهربوا من البلاء، لأنّ الهرب هو عبارة عن السقوط في فخّ الشيطان الرجيم اللعين الذي يخوّف الإنسان من البلاء ليُسقِطه في حبائله ومكائده، ولينحرف به بالتالي عن الصراط المستقيم والجادّة الوسطى.

لذا يجب علينا أن نتوجّه إلى الله بالدعاء والإبتهال والتضرّع والتذلّل والإستكانة والخشوع عندما يصيبنا البلاء حتّى نتقوّى ونستمدّ العون من الله عزّ وجلّ حتّى نتحمّل ونتعوّد الصبر على كلّ بلاءٍ لنزداد إيماناً وقرباً من الله، ولنكون من المؤهّلين لرحمته ومغفرته وفيضه وعطائه اللامتناهي في الدنيا والآخرة16.