الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

التحقيق في سند حيث الولاية من رواية الصحابي عبد الله بن عباس

روى حديث الولاية عن النبي «صلّى الله عليه وآله» العديد من الصّحابة، ومنهم الصّحابي عبد الله بن عبّاس، أخرج روايته العديد من علماء أهل السّنة، وممن أخرجها ضياء الدّين محمّد بن عبد الواحد الحنبلي المقدسي، في كتابه «الأحاديث المختارة»، فقال:(وأخبرنا أبو جعفر الصّيدلاني، أنّ أبا علي الحدّاد أخيرهم - وهو حاضر - أخبرنا أبو نعيم، أخبرنا عبدالله بن جعفر، أخبرنا يونس بن حبيب، حدّثنا أبو داود الطّيالسي، حدّثنا أبو عوانة، عن أبي بلج، عن عمرو بن ميمون، عن عبدالله بن عبّاس، أنّ رسول الله «صلّى الله عليه وآله وسلّم» قال لعلي: «أنت وليُّ كلِّ مؤمن بعدي») 1.
ورواه ضمن رواية طويلة من طريق أبي بلج، عن عمرو بن ميمون، عن ابن عبّاس، بلفظ: «أنت وليُّ كلِّ مؤمن بعدي ومؤمنة»
كل من: أحمد بن حنبل في كتابه «فضائل الصّحابة» 2، والحاكم النيسابوري في «المستدرك على الصحيحين» 3.
وحكم بعضهم بضعف هذه الطريق للحديث لوجود أبي بلج في السند 4، لأنّه مجروحٌ من غير واحد من رجال الجرح والتعديل عندهم، والحقُّ أنّ أبا بلج ثقة، وحديثه لا ينزل عن رتبة الحديث الصحيح.
فأبو بلج هو: يحيى بن سليم، ويقال: ابن أبي سليم، ويقال: يحيى بن أبي الأسود، روى عن أبيه، وعن الجلاس، ويقال: عن أبي الجلاس، وعمرو بن ميمون الأودي، ومحمد ابن حاطب، وعباية بن رافع بن خديج، وأبي الحكم العنزي.
وروى عنه شعبة، وسفيان الثوري، وأبو عوانة، وأبو يونس حاتم بن أبي صغيرة، وزائدة بن قدامة، وزهير بن معاوية، وأبو حمزة السّكري، وهشيم بن بشير، وإبراهيم بن المختار، وحصين بن نمير، وسويد بن عبد العزيز، وشعيب ابن صفوان.
وذكروا في ترجمته أنّه كان يذكر الله كثيراً 5.
المعدّلون لأبي بلج
وعدّل أبا بلج العديدُ من علماء أهل السّنة، وفيهم من هم من أساطين أهل الجرح والتعديل عندهم، فقال عنه أبو حاتم الرّازي:
(هو صالح الحديث، لا بأس به) 6.
وقال عنه ابن عدي: (... وقد روى عن أبي بلج أجلّة النّاس، مثل شعبة، وأبو عوانة، وهشيم، ولا بأس بحديثه) 7.
وقال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين: (أبو بلج، ثقة) 8.
وقال محمّد بن سعد: (وكان ثقة إن شاء الله) 9.
وقال البرقاني: (قلت للدارقطني: يحيى بن أبي سليم أبو بلج، قال: واسطي ثقة) 10.
وقال يعقوب بن سفيان: (كوفي لا بأس به) 11.
ووثقه ابن عبد البر، فقال عن إسناد وقع فيه أبو بلج: (هذا إسناد لا مطعن فيه لأحد لصحته وثقة نقلته) 12.
وارتضى أبو الحجاج المزّي تنصيص ابن عبد البر على وثاقة أبي بلج وسائر رجال السند فلم يتعقبه بشيء، فقال: (وروى - ابن عبد البر - بإسناده عن أبي عوانة، عن أبي بلج، عن عمرو بن ميمون، عن ابن عبّاس، قال: كان عليٌّ أوّل من آمن من النّاس بعد خديجة، وقال: هذا إسناد لا مطعن فيه لصحته وثقة نقلته) 13.
وعدّله الحاكم النيسابوري، فصحح العديد من الأحاديث التي وقع في سندها، وذلك في كتابه المستدرك على الصحيحين 14.
وقال ابن حجر العسقلاني: (صدوق ربّما أخطأ) 15.
قلت: ولكنّه في فتح الباري حكم بوثاقة رجال سندٍ ومنهم أبو بلج، فقال: (وعن ابن عبّاس، قال: أمر رسول الله «صلّى الله عليه وآله وسلّم» بأبواب المسجد فسدّت إلاّ باب علي، وفي رواية وأمر بسدِّ الأبواب غير باب علي، فكان يدخل المسجد وهو جنب ليس له طريق غيره، أخرجهما أحمد والنّسائي، ورجالهما ثقات) 16.
وقال الذهبي: (أبو بلج الفزاري، صالح الحديث) 17.
نعم تناقض فقال في كتابه «المقتنى في سرد الكنى»: (ليّن) 18.
ووثقه الهيثمي في مجمع الزّوائد، فقال عن إسناد حديث المنزلة من رواية البزّار: (ورجال البزّار رجال الصّحيح غير أبي بلج الكبير، وهو ثقة) 19.
وقال عن حديث آخر وقع في سنده أبو بلج: (رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط باختصار، ورجال أحمد رجال الصّحيح غير أبي بلج الفزاري، وهو ثقة، وفيه لين) 20.
وقال في نفس الكتاب، عن حديث من رواية أحمد والبزّار: (رواه أحمد والبزار ... ورجالهما رجال الصّحيح، غير أبي بلج الكبير، وهو ثقة) 21.
وعدّله الألباني، فحسن إسناد حديث وقع فيه أبو بلج، وذلك في كتابه «الثّمر المستطاب في فقه السّنة والكتاب»، فقال:
(... وفي الباب قوله عليه الصّلاة والسّلام: «سدّوا أبواب المسجد غير باب علي»
أخرجه أحمد من طريق أبي عوانة، حدّثنا أبو بلج، حدّثنا عمرو بن ميمون، عن ابن عبّاس به مرفوعاً.
وأخرجه الترمذي من طريق شعبة، عن أبي بلج، به نحوه، وقال: «حديث غريب، لا نعرفه عن شعبة بهذا الإسناد إلاّ من هذا الوجه».
ثم قال: «وأبو بلج اسمه يحيى بن سليم»
قلت: وهو مختلف فيه، ففي الميزان: «وثقه ابن معين وغيره ومحمّد بن سعد والنّسائي والدّارقطني، وقال أبو حاتم: صالح الحديث لا بأس به، وقال البخاري: فيه نظر، وقال أحمد: روى حديثاً منكراً، وقال ابن حبّان: كان يخطئ، وقال الجوزجاني: غير ثقة، ومن مناكيره الحديث»
وقال الحافظ في «التقريب»: «صدوق ربّما أخطأ»
قلت: وبقيّة رجال أحمد ثقات، رجال الشيخين، فالإسناد حسن عندي، وقال الحافظ في «الفتح»: رواه أحمد والنّسائي ورجالهما ثقات) 22.
وحكم على إسناد حديث فيه أبو بلج بأنّه إسناد جيد، ورجاله ثقات، وذلك في كتابه «سلسلة الأحاديث الصحيحة»، فقال:
(١٤٤٠- «ما أصاب الحجام فأعلفه الناضح».
أخرجه أحمد «٤/١٤١» عن يحيى بن أبي سليم، قال: سمعت عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج يحدّث: «أنّ جدّه حين مات ترك جارية وناضحاً وغلاماً وحجاماً وأرضاً، فقال رسول الله «صلّى الله عليه وآله وسلّم» في الجارية، فنهى عن كسبها، قال: شعبة: مخافة أن تبغي، وقال: وما أصاب الحجّام فأعلفه الناضح، وقال في الأرض: ازرعها، أو ذرها»
قلت: وهذا إسناد جيّد، رجاله ثقات، ويحيى بن أبي سليم هو أبو بلج الفزاوي ...) 23.
وحكم عليه في مكان آخر من سلسلته الصحيحة، بأنّه حسن الحديث، فقال: (... وروى الحاكم «٢/٥١٢» عن أبي بلج، عن عمرو بن ميمون، عن ابن مسعود، في قوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً}، قال: الحقب: ثمانون سنة.
وقال: «صحيح الإسناد»! ووافقه الذهبي! وأقرّه السيوطي في «الدر ٦/٣٠٧»! وأقول» أبو بلج: هذا اسمه يحيى بن سليم؛ قال الحافظ: «صدوق ربّما أخطأ». فمثله حسن الحديث) 24.
ووثقه عبد الحق الأشبيلي، المعروف بابن الخرّاط، فقال في كتابه «الأحكام الشّرعيّة الكبرى»: (أبو بلج، اسمه يحيى بن أبي سليم الواسطي، روى عن محمّد بن حاطب، وعمرو بن ميمون، روى عنه زهير بن معاوية، وسفيان، وشعبة، وأبو عوانة، وهشيم، وأبو حمزة السّكري، وسويد بن عبد العزيز، وأبو بلج هذا ثقة مشهور، ذكر ذلك ابن أبي حاتم) 25.
وحكم بوثاقته عبد الله بن حمد اللحيدان، فقال - وهو بصدد الحكم على حديث صححه الحاكم في المستدرك على شرط مسلم، وتعقبه الذهبي بالقول أن أبا بلج لم يحتج به مسلم، وبعد أن ذكر الموثقين والجارحين لأبي بلج -: (قلت: مما مضى يتبيّن أنّ أبا بلج ثقة عند أكثر العلماء، لكن مسلماً لم يخرج له كما قال الذهبي متعقّباً الحاكم، فتعقّب الذّهبي في محلّه، فيكون الحديث بهذا الإسناد صحيحاً، لكنّه ليس على شرط مسلم) 26.
ووثقه الشيخ حسين سليم أسد الدّارني، فقال عن إسناد حديث فيه أبو بلج، وذلك في معجم أبي يعلى: (إسناده صحيح) 27.
وقال في تعليقة له على حديث ذكره الهيثمي في مجمع الزّوائد: (أخرجه الطيالسي ١/٢٩، برقم: ٤٨، ومن طريقه أخرجه أحمد ٢/٥٢٠، والحاكم ١/٣، من طريق شعبة، عن أبي بلج يحيى بن أبي سليم، قال: سمعت عمرو بن ميمون يحدّث عن أبي هريرة ... وهذا إسناد صحيح) 28.
ورجّح تعديله الشيخ أبو إسحاق الحويني الأثري، فقال: (أبو بلج: يحيى بن أبي سليم، قال الحاكم: واحتج مسلم بأبي بلج ...
قلت: ... لم يخرج له مسلم شيئاً، وقد تعقّب الذهبي الحاكم في هذا، فقال في تلخيص المستدرك: لا يحتج به، وقد وثق، وقال البخاري: فيه نظر، انتهى.
قلت: كذا وقعت العبارة في التلخيص «لا يحتج به»، وهي عندي محرّفة عن «لم» لأنّ الذّهبي يردُّ على الحاكم قوله «احتجَّ به مسلم»، فالمناسب أن يقول: «لم يحتج به مسلم». هذا أوّلاً.
وثانياً: قول الذّهبي: «وقد وثّق»، فهذا يشعر بضعف التوثيق الوارد فيه، وليس كذلك، وقد وثقه ابن معين والنّسائي وابن سعد والدّارقطني، وقال آبو حاتم والفسوي في المعرفة ٣/١٠٦: لا بأس به، زاد أبو حاتم: صالح الحديث، وقال الجوزجاني: غير ثقة، وأظن الجوزجاني قال ذلك لكونه كوفيّاً، ويكثر فيهم التّشيّع، والله أعلم.
ومال ابن حبّان إلى التفصيل في أمره كما في المجروحين ٣/١١٣، فهذا يدلُّ على أنّ الرّجل متماسك، وتعديله أقوى من جرحه، والله أعلم) 29.
ووثقه الشيخ أحمد محمد شاكر، فقال عن إسناد حديث من مسند أحمد بن حنبل، وفيه أبو بلج: (إسناده صحيح) 30.
وهو ثقة عند شعبة، لأنّ شعبة لا يروي إلاّ عن ثقة عنده، قال ابن تيميّة الحرّاني: (والناس في مصنفاتهم منهم من لا يروي عمن يعلم أنه يكذب، مثل مالك، وشعبة، ويحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، فإن هؤلاء لا يروون عن شخص ليس بثقة عندهم) 31.
وفي كتاب «تلخيص الاستغاثة» قال: (إنّما العالمون بالجرح والتعديل هم علماء الحديث وهم نوعان: منهم من لم يرو إلاّ عن ثقة عنده، كمالك، وشعبة، ويحيى بن سعيد، وعبد الرّحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، وكذلك البخاري، وأمثاله) 32.
وقال الشيخ الألباني أثناء حديثه عن الرّاوي «عمرو بن يحيى بن سلمة الهمداني»: (ويكفي في تعديله رواية شعبة عنه، فإنّه كان ينتقي الرّجال الذين كان يروي عنهم) 33.
وقال ابن حجر: (وإن كانت 34 طويلة، اقتصرت على من عليه رقم الشيخين مع ذكر جماعة غيرهم، ولا أعدل عن ذلك إلاّ لمصلحة، مثل أن يكون الرّجل قد عرف من حاله أنّه لا يروي إلاّ عن ثقة، فإنني أذكر جميع شيوخه أو أكثرهم كشعبة ومالك وغيرهما) 35.
وقال السخاوي، وهو بصدد الحديث عن بعض الرّجال ممن لا يروي إلاّ عن ثقة: (وذلك في شعبة على المشهور، فإنّه كان يتعنّت في الرّجال، ولا يروي إلاّ عن ثبت) 36.
نعم، قد يقول قائل: أنّه بالتتبع وجد أنّ شعبة قد روى عن بعض الضعفاء، ويجاب عليه بأنّهم ضعفاء عند غيره، أمّا عنده فهم ثقات، وقوله: (لو لم أحدثكم إلاّ عن ثقة، لم أحدثكم إلاّ عن ثلاثة، وفي نسخة عن ثلاثين) 37 ، فالظاهر أنّه يريد بذلك من كان من الرّواة في أعلى مراتب الوثاقة، من العدالة والحفظ والضبط، بحيث لا يؤاخذ عليه بشيء قط في مسألة تأدية الرّواية، لا أنّه أراد مطلق الثقة، لأنّه وكما هو معلوم أن للوثاقة مراتب ودرجات، ويؤيد ذلك ويؤكده، ما روي عن أبي أسامة حمّاد بن أسامة أنّه قال: (وافقنا من شعبة طيب نفس، فقلنا له: حدّثنا، ولا تحدّثنا إلاّ عن ثقة، فقال: قوموا) 38 ، فرفض أن يحدثهم، لا لأنّه ليس عنده حديث عن أحد من الثقات، بل لأنّه لم يجد في من يروي عنهم ثقة حسب شرط هؤلاء، وهو من كان في قمّة مراتب الوثاقة.
الجارحون لأبي بلج
نسبوا إلى البخاري أنّه قال عنه: (فيه نطر) 39.
وزعم بعضهم أنّ أحمد بن حنبل ضعفه 40.
وقال بعضهم أنّه قال عنه: (روى حديثاً منكراً) 41.
وقال عنه أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: (ليس بثقة) 42.
وترجم له ابن حبّان في المجروحين، فقال عنه: (كان ممن يخطئ، لم يفحش خطؤه حتى استحق الترك، ولا أتى منه ما لا ينفك البشر عنه فيسلك به مسلك العدول، فأرى أن لا يحتج بما انفرد من الرّواية، وهو ممن أستخير الله فيه) 43.
وذكره ابن الجوزي في كتابه الضعفاء والمتروكين، ونقل ما ورد فيه من جرح مما نسب إلى البخاري وأحمد بن حنبل، وجرح الجوزجاني، وابن حبّان 44.
مناقشة أقوال الجارحين لأبي بلج
1-الجرح المنسوب للبخاري:
لقد مرّ عليك أنّهم نسبوا إلى البخاري أنّه قال عن أبي بلج: «فيه نظر»، فنقول في مناقشة ذلك:
أوّلاً: إنّ هذا القول لم يثبت عن البخاري، قال الشيخ أحمد محمد شاكر: (وفي التهذيب أن البخاري قال: «فيه نظر» وما أدري أين قال هذا؟ فإنه ترجمه في الكبير «4/2 279-280» ولم يذكر فيه جرحاً، ولم يترجمه في الصغير، ولا ذكره هو والنسائي في الضعفاء، وقد روى عنه شعبه، وهو لا يروي إلاّ عن ثقة) 45.
قلت: ولا يوجد في كتاب لغيره يروى عنه بسند متصل صحيح، فيكون هذا القول المنسوب إلى البخاري كعدمه، لا يؤثر في وثاقة الرجل بشيء.
ثانياً: لو سلّمنا بصحّة ما نسب إلى البخاري، فعبارة «فيه نظر» قد اختلف فيها علماء أهل السّنة، فزعم بعضهم أنّها من الجرح المفسّر، وذهب آخرون إلى القول بأنّها جرح غير مفسّر، ومنهم الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، فإنّه قال في سلسلته الصحيحة، وهو بصدد الكلام عن الرّاوي قيس ابن أبي عمارة: (وملت إلى توثيق ابن حبّان إيّاه، لأن قول البخاري المتقدم «فيه نظر» جرحٌ غير مفسّر) 46.
وقال الشيخ أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل، وهو يعدد عبارات وألفاظ الجرح غير المفسّر: (... «فيه نظر» سواء كانت من البخاري أو من غيره) 47.
والتعديل مقدّم على الجرح المبهم غير المفسّر، قال الخطيب البغدادي: (سمعت القاضي أبا الطّيب طاهر بن عبد الله بن طاهر الطبري يقول: لا يقبل الجرح إلاّ مفسّراً، وليس قول أصحاب الحديث فلان ضعيف، وفلان ليس بشيء مما يوجب جرحه ورد خبره، وإنّما كان كذلك لأنّ النّاس اختلفوا فيما يفسق به، فلا بد من ذكر سببه لينظر هل هو فسق أم لا؟
وكذلك قال أصحابنا: إذا شهد رجلان بأنّ هذا الماء نجس لم تقبل شهادتهما حتّى يبيّنا سبب النّجاسة، فإنّ النّاس اختلفوا فيما ينجس به الماء، وفي نجاسة الواقع فيه).
ثمّ قال الخطيب: (وهذا القول هو الصّواب عندنا وإليه ذهب الأئمة من حفّاظ الحديث ونقّاده، مثل محمّد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجّاج النيسابوري، وغيرهما.
فإنّ البخاري قد احتجَّ بجماعة سبق من غيره الطعن فيهم والجرح لهم كعكرمة مولى ابن عبّاس في التّابعين، وكإسماعيل ابن أبي أويس، وعاصم بن علي، وعمرو بن مرزوق في المتأخرين، وهكذا فعل مسلم بن الحجّاج، فإنّه احتجّ بسويد بن سعيد وجماعة غيره اشتهر ممن ينظر في حال الرّواة الطعن عليهم.
وسلك أبو داود السجستاني هذه الطريقة وغير واحد ممن بعده، فدلّ ذلك على أنّهم ذهبوا إلى أنّ الجرح لا يثبت إلاّ إذا فسّر سببه، وذكر موجبه) 48.
وقال السيوطي: (واختار شيخ الإسلام 49 تفصيلاً حسناً، فإن كان من جرح مجملاً قد وثّقه أحدٌ من أئمة هذا الشأن، لم يقبل الجرح فيه من أحدٍ كائناً من كان إلاّ مفسّراً، لأنّه قد ثبتت له رتبة الثّقة فلا يزحزح عنها إلاّ بأمر جلي، فإنّ أئمّة هذا الشأن لا يوثّقون إلاّ من اعتبروا حاله في دينه ثمّ في حديثه، ونقدوه كما ينبغي، وهم أيقظ النّاس، فلا ينقض حكم أحدهم إلاّ بأمر صريح) 50.
وقال ابن حجر العسقلاني: (والجرح مقدّم على التعديل، وأطلق ذلك جماعة، ولكن محلّه إن صدر مبيناً من عارف بأسبابه، لأنّه إن كان غير مفسّر لم يقدح فيمن ثبتت عدالته، وإن صدر من غير عارف بالأسباب لم يعتبر به أيضاً) 51.
ثالثاً: اختلف علماؤهم أيضاً في هذه العبارة، هل هي من نوع الجرح الشديد، أم الخفيف، فذهب فريق إلى أنّها من الجرح الشديد، بينما ذهب آخرون إلى أنّها تليين خفيف للراوي.
قال حاتم العوني في كتابه «المرسل الخفي»: (وأنبه هنا: أنّ قول البخاري «فيه نظر» إن كان المقصود به الرّاوي فهي تليين خفيف، وليست تليناً شديداً كما ادّعاه بعض الأئمة المتأخرين كالذهبي، وابن كثير، وغيرهما، وقد ردّ على هذا الفهم الخاطئ لتلك العبارة في صدورها من الإمام البخاري الأستاذ مسفر بن غرم الله الدميني في دراسة موازنة، جمع فيها المواطن التي أطلق فيها البخاري تلك العبارة، ووازنها بأقوال العلماء غيره في الذين قيلت فيهم، فخرج بأنّ من قيل فيه إنّه «فيه نظر» فإنّه تليين خفيف الضعف، وأنّ البخاري في إطلاق هذه العبارة مثل غيره من الأئمة، لا كما زعم من أنّ له اصطلاحاً خاصاً به في إطلاقها.
ولم أطّلع على هذه الدراسة الموازنة التي قام بها الأستاذ الدميني وفقه الله، لكنه ذكر القيام بها ولخّص نتائجها في دراسة أخرى له عمّن قال فيه البخاري «سكتوا عنه» وذلك في رسالة أسماها «قول البخاري: سكتوا عنه») 52.
ومما يرجّح أنّ عبارة «فيه نظر» تليين خفيف للرّاوي عند البخاري ما قاله أبو عيسى الترمذي تلميذ البخاري، فلقد نقل في كتابه العلل الكبير أنّ البخاري قال عن الرّاوي حكيم ابن جبير: «لنا فيه نظر»، فأعقبه الترمذي بقوله: (ولم يعزم فيه على شيء) 53.
ففهم من عبارة شيخه البخاري أنّه متردد في حكيم بن جبير، أو متوقف فيه، وهذا لا يكون إلاّ في شأن الرّاوي خفيف الضعف.
وعليه فإن هذا الجرح لو ثبت صدوره من البخاري في أبي بلج فإنّه لا ينزل بحديثه عن رتبة الحديث الحسن المحتج به، ولكنّه لم يثبت.
2- مناقشة جرح ابن حبّان:
أمّا جرح ابن حبّان فلا يعوّل عليه، لأنّه متعنت في الجرح، والمتعنت في الجرح لا يقبلون جرحه ما لم يوافقه عليه أحد، من المعتدلين، قال أبو الحسنات: (ومنها - أي من موارد ردّ الجرح وعدم قبوله - أن يكون الجارح من المتعنتين المتشددين، فإن هناك جمعاً من أئمة الجرح والتعديل لهم تشدد في هذا الباب، فيجرحون الرّاوي بأدنى جرح، ويطلقون عليه ما لا ينبغي إطلاقه عند أولي الألباب، فمثل هذا الجارح توثيقه معتبر وجرحه لا يعتبر، إلاّ إذا وافقه غيره ممن ينصف ويعتبر.
فمنهم أبو حاتم، والنسائي، وابن معين، وابن القطان، ويحيى القطان، وابن حبان، وغيرهم، فإنهم معروفون بالإسراف في الجرح والتعنت فيه، فليتثبت العاقل في الرّواة الذين تفرّدوا بجرحهم وليتفكر فيه) 54.
وقال حاتم بن عارف العوني: (ثم ذكر هنا الإمام الذهبي الحاد والمعتدل والمتساهل، فذكر القطّان، وابن معين، وأبا حاتم، وابن خراش، أنّهم من المتشدّدين، وزاد عليهم في كتب أخرى له شعبة، وأبا نعيم الفضل بن دكين، وعفّان بن مسلم، والنّسائي، وابن حبّان، وأبا الفتح الأزدي) 55.
وهذا الجرح من ابن حبّان لم يوافقه عليه أحد من المعتدلين، فالبخاري لم يثبت جرحه، وما نسب إلى أحمد بن حنبل من جرح لأبي بلج لم يثبت كما سيأتي، والجوزجاني متعنت في الجرح، وجرحه غير معتبر في مثل أبي بلج، إضافة إلى ذلك فإنّه عدّله جماعة من المتعنتين، منهم النسائي، وابن معين، وأبو حاتم، فكل ذلك يرد جرح ابن حبّان، ويبقى أبو بلج ثقة.
وعلماء أهل السّنة أنفسهم لم يقبلوا جرح ابن حبّان لبعض الرّواة، فهذا الذهبي يقول في «ميزان الاعتدال»: (أفلح بن سعيد... المدني القبائي صدوق، روى عن عبد الله ابن رافع مولى أم سلمة ومحمد بن كعب، وعنه ابن المبارك والعقدي وعدة، وثقة ابن معين، وقال أبو حاتم صالح الحديث، وقال ابن حبان يروي عن الثقات الموضوعات لا يحل الاحتجاج به، ولا الرواية عنه بحال.
قلت: ابن حبان ربما قصب الثقة، حتى كأنه لا يدري ما يخرج من رأسه...) 56.
وقال الذهبي في نفس المصدر بترجمة محمد بن الفضل: (محمد بن الفضل السدوسي، أبو النعمان عارم شيخ البخاري، حافظ صدوق مكثر، روى عن الحمادين، وجرير ابن حازم، ومحمد بن راشد، وعنه أحمد، والبخاري، وأبو زرعة، وخلق، قال ابن وارة: حدثنا عارم الصدوق الأمين، وقال أبو حاتم: إذا حدثك عارم فاختم عليه، عارم لا يتأخر عن عفان، وكان سليمان بن حرب يقدمه على نفسه، وقال أبو حاتم أيضاً: اختلط عارم في آخر عمره وزال عقله، فمن سمع منه قبل العشرين ومائتين فسماعه جيد، ولقيه أبو زرعة سنة اثنتين وعشرين، وقال البخاري تغيّر عارم في آخر عمره، وقال أبو داود بلغني أن عارماً أنكر سنة ثلاث عشرة ومائتين، ثم راجعه عقله ثم استحكم به الاختلاط سنة ست عشرة ومائتين، وقال الدارقطني: تغير بآخره، وما ظهر له بعد اختلاطه حديث منكر وهو ثقة.
قلت: فهذا قول حافظ العصر، الذي لم يأت بعد النسائي مثله، فأين هذا القول من قول ابن حبان الخسّاف المتهوّر في عارم، فقال اختلط في آخر عمره وتغير حتى كان لا يدري ما يحدث به، فوقع في حديثه المناكير الكثيرة فيجب التنكب عن حديثه فيما رواه المتأخرون، فإذا لم يعلم هذا من هذا ترك الكل ولا يحتج بشيء منها.
قلت: ولم يقدر ابن حبّان أن يسوق له حديثاً منكراً، فأين ما زعم...) 57.
3- ما نسبوه لأحمد بن حنبل من جرح لأبي بلج:
أما عن جرح أحمد بن حنبل لأبي بلج، فإنّ أبا أحمد الحاكم أطلق القول بتضعيف أحمد لأبي بلج وذلك في كتابه الأسامي والكنى، فقال: (ضعفه أحمد بن حنبل) 58.
ولا أدري من أين علم بهذا التضعيف، فلم أجد حسب تتبّعي في مصدر من المصادر كلمة أو عبارة جرح صادرة من أحمد بن حنبل في أبي بلج مسندة إليه بطريق صحيح، ولا في كتاب من كتبه، بل أكاد أجزم بأنّه ليس موجوداً شيءٌ من ذلك، إذ لو كان موجوداً لذكره بلفظه من ترجم لأبي بلج أو بعضهم، وأشار إلى مصدره.
ونسبوا إلى أحمد أنّه قال عن أبي بلج: (روى حديثاً منكراً) 59.
وفي كتاب الموضوعات لابن الجوزي: (روى أبو بلج حديثاً منكراً، «سدّوا الأبواب») 60.
قلت:
أوّلاً: لم أجد -حسب تتبعي- قول أحمد هذا في كتاب من كتبه، ولا في رواية بسند صحيح متصل إليه، فأين قال أحمد هذا؟ وأين السند إليه؟ وهل هو صحيح أم لا؟ إذْ لا بدَّ لقبول جرح الجارح أن يكون ثابتاً عنه، قال الشيخ عبد الرّحمن المعلمي: (... إذا وجد في الترجمة كلمة جرح أو تعديل منسوبة إلى بعض الأئمة، فلينظر أثابتة هي عن ذاك الإمام أم لا؟) 61.
وقال الشيخ إبراهيم بن عبد الله اللاحم: (النقل عن أئمة النقد في الرّواة لا يختلف عن أي منقول عن غيرهم، في ضرورة ثبوته عمن نقل عنه، وإلاّ لم يصح بناء حكم عليه، وبادئ ذي بدء لا بد من التسليم بوجود أقوال ونصوص نسبت إلى أئمة النقل، وبعد التمحيص تبيّن عدم ثبوتها، وأنّ الأمر لا يخلو من لبس، وقد واجه ذلك أئمة النقد أنفسهم، فجاء عنهم نفي شيء مما نسب إليهم أو بيان الصواب فيما نقل عنهم) 62.
وقال أيضاً: (فيشترط في النقل صحة الإسناد باتصاله، وثقة رواته، وسلامته من الشذوذ والعلل، ولست مبالغاً في ذلك، فالنقل لنقد الرّاوي خبر كسائر الأخبار، لا بد فيه من هذه الشروط) 63.
إذاً لا بد للأخذ بحكم أحمد هذا والتعويل عليه من التثبت من صحة صدوره عنه، ولم يثبت ذلك، فيكون جرحه هذا كعدمه.
ثانياً: إن أحمد بن حنبل كثيراً ما يطلق المنكر على الحديث الفرد، الذي يتفرّد به الرّاوي ولم يكن له متابع عليه، وليس هذا عنده طعناً وجرحاً في الرّاوي.
قال ابن حجر، وهو يتحدث عن الرّاوي محمد بن إبراهيم ابن الحارث التيمي: (... محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، من صغار التابعين، مدني مشهور، وثقه ابن معين والجمهور، وذكره العقيلي في الضعفاء، وروي عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يقول وذكره: في حديثه شيء، يروي أحاديث مناكير.
قلت: المنكر أطلقه أحمد بن حنبل وجماعة على الحديث الفرد الذي لا متابع له...) 64.
فربّما أنّ أحمد أراد بقوله عن أبي بلج: «روى حديثاً منكراً» تفرده برواية حديث ما ولم يرو من طريق غيره، فلا يكون هذا قدحاً وطعناً وجرحاً في أبي بلج.
ثالثاً: إنّ أحمد بن حنبل أخرج هذه الرّواية في مسنده، فلو كان فيها ما هو منكر أو باطل لما أخرجها فيه، وليست هي من زيادات ابنه على المسند، وإنّما من روايته هو عن شيخه يحيى بن حمّاد بسنده إلى ابن عباس.
4- مناقشة جرح الجوزجاني:
أمّا بخصوص جرح أبي إسحاق الجوزجاني لأبي بلج فالموجود في كتابه «أحوال الرّجال» أنّه قال عنه: (ليس بثقة).
ولكنني وجدت في نسختي من كتاب «تهذيب التهذيب» في ترجمة أبي بلج ما نصّه: (وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني وأبو الفتح الأزدي: كان ثقة).
وراجعت نسخاً أخرى للكتاب ووجدتها جميعها متوافقة مع نسختي من التهذيب 65، ومنه يتّضح أنّ الجوزجاني حكم بوثاقة أبي بلج، كما ويدل هذا النص أيضاً أنّ أبا الفتح الأزدي من جملة من وثق أبا بلج.
إذا علمت هذا فأقول: سلّمنا أنّ ما في «تهذيب التهذيب» اشتباه من مؤلفه أو الناسخ أو الطابع، وأنّ جرح الجوزجاني ثابت لأبي بلج لوجوده في كتابه أحوال الرجال 66، لكن أقول أيضاً: أنّ جرح الجوزجاني غير معتبر، ولا مأخوذ به في مثل هذا المورد، وذلك لأنّه مشهورٌ بالنصب، قال عنه ابن عدي: (كان شديد الميل إلى مذهب أهل دمشق في الميل على علي) 67.
وقال الدارقطني: (فيه إنحراف عن علي) 68.
وقال الذهبي: (وكان يتحامل على علي) 69.
وقال ابن حجر: (رمي بالنّصب) 70.
وقال ابن حبّان: (وكان حريزي المذهب) 71.
أي أنّه كان على مذهب حريز بن عثمان الناصبي، المشهور في السّب والشتم للإمام أمير المومنين علي بن أبي طالب «عليه السلام»، وقد صحّ عن الإمام علي أنّه قال: (عهد إليَّ النبيُّ «صلّى الله عليه وآله وسلّم» أنّه لا يحبّك يا علي إلاّ مؤمنٌ ولا يبغضك إلاّ منافقٌ) 72.
فكيف يعتمد على جرح شخص هو بنفسه مجروج، ومقدوحٌ في عدالته، ودينه؟
وقد صرّحوا أيضاً بأنّه ممن يتحامل على أهل الكوفة لاشتهارهم بالتشيّع لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام».
فهذا ابن حجر يقول في «لسان الميزان»: (وممن ينبغي أن يتوقف في قبول قوله في الجرح، من كان بينه وبين من جرحه عداوة، سببها الاختلاف في الاعتقاد، فان الحاذق إذا تأمل ثلب أبي إسحاق الجوزجاني لأهل الكوفة رأى العجب، وذلك لشدة انحرافه في النصب وشهرة أهلها بالتشيع، فتراه لا يتوقف في جرح من ذكره منهم بلسان ذلقة وعبارة طلقة، حتى أنه أخذ يلين مثل الأعمش، وأبي نعيم، وعبيد الله بن موسى، وأساطين الحديث وأركان الرواية...) 73.
وقال العلامة المعلّمي اليماني: (والجوزجاني فيه نصب، وهو مولع بالطعن في المتشيّعين) 74.
وقال: (وكان هو نفسه - أي الجوزجاني - مبتدعاً منحرفاً عن أمير المؤمنين علي، متشدّداً في الطعن على المتشيّعين) 68.
وقال الدّكتور بشّار عوّاد معروف في تعليقة له في كتاب تهذيب الكمال: (ولكنّ المطالع لكتابه 75 يجد أنّه جرح خلقاً كثيراً بسبب العقائد، ولا سيما من العراقيين، ولا يصح ذلك إذ به تسقط كثيرٌ من السنن والآثار، وهو بلاشك كان عنده انحراف عن سيدنا علي بن أبي طالب «رضي الله عنه») 76.
5- ما نسبوه لابن معين من تضعيف لأبي بلج:
وأمّا ما ذكره البعض عن ابن الجوزي من أنّه نسب إلى ابن معين أنّه ضعّف أبا بلج، فأقول في الرّد عليه:
أوّلاً: أنّه مرّ عليك أنّ يحيى بن معين قد وثق أبا بلج، وتوثيقه له ثابت رواه مسنداً ابن عدي في كتابه «الجرح والتعديل» 77.
ثانياً: لم يثبت ما نسبه ابن الجوزي إلى ابن معين من تضعيف لأبي بلج بسند صحيح عنه، فلا يعتد بهذا الجرح.
ثالثاً: على فرض صحة صدور هذا التضعيف من يحيى ابن معين مع صحة صدور التوثيق منه، فإنّه لا يريد به أنّه ممن يرد حديثه، وإنّما هو ضعيف نسبة إلى راوٍ آخر سئل عنه ابن معين، لا أنّه ضعّفه بمفرده، فيكون جرح ابن معين تلييناً خفيفاً لا يؤثر في وثاقة أبي بلج وصحّة روايته، قال ابن حجر العسقلاني: (قلت: ورجال هذه الطريق رجال الشيخين إلاّ «أبا بلج»، وهو - بفتح الموحدة وسكون اللام بعدها جيم - تابعي صغير، كوفي نزل واسط، واسمه «يحيى» واختلف في اسم أبيه.
وقد وثقه يحيى بن معين، والنسائي، ومحمد بن سعد، والدارقطني، وقال أبو حاتم الرّازي ويعقوب بن سفيان: «لا بأس به»، وقال البخاري: «فيه نظر» - وهذه العبارة في من يكون وسطاً-، ونقل ابن الجوزي عن ابن معين أنّه ضعّفه، فإن ثبت ذلك فقد يكون سئل عنه وعن من هو فوقه، فضعّفه بالنسبة إليه، وهذه قاعدة جليلة في من اختلف النقل عن ابن معين فيه، نبّه عليها أبو الوليد الباجي في كتابه «رجال البخاري»، ويحتمل أن يكون ابن معين ضعّفه من قبل رأيه، فإنّه منسوب إلى التّشيّع، ولأجل هذا بالغ أبو إسحاق الجوزجاني فيه كعادته في الحطّ على الشيعة وتبعه أبو الفتح الأزدي، وذكره ابن حبّان في «الثقات»، وقال: «يخطيء».
ويكفي في تقويته توثيق النسائي وأبي حاتم 78 مع تشدّدهما، ولم يبيّن ابن حبّان ما أخطأ فيه ليرجع إليه في ذلك.
وقد ذكر ابن عدي له ترجمة، أورد فيها قول البخاري والجوزجاني، ثم ساق له حديثه عن محمد بن حاطب: «فصل ما بين الحلال والحرام ضرب الدّف»، وثلاثة أحاديث من روايته عن عمرو بن ميمون؛ إثنان منها عن أبي هريرة «رضي الله عنه» وآخر عن ابن عبّاس «رضي الله عنه»، ثمّ قال: وله غير ما ذكرت، وقد روى عنه أجلّة النّاس مثل شعبة، وهشيم، وأبو عوانة، ولا بأس بحديثه ...) 79.
احتمالُ سبب جرحهم لأبي بلج
واعتبر الشيخ أبو أسحاق الحويني الأثري جرح البخاري لأبي بلج ليس له مبرر، واحتمل أن يكون جرح من جرحه إنّما كان بسبب رواية رواها أنكروها عليه، فقال: (... وأمّا البخاري فقال: فيه نظر، وهذا جرح شديد 80 لا أرى له مسـوغاً إلاّ أن يكـون قاله لكونه روى حديثاً عن عمرو بن ميمون عن عبد الله بن عمرو: «ليأتين على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد»، فإنّهم أنكروا على أبي بلج أن يحدّث بهذا.
وهذا الحديث أخرجه يعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ 2/103 من طريق شعبة عن أبي بلج، ثم روى بإسناده عن ثابت قال: «سألت الحسن عن هذا الحديث فأنكره»، وقال الذهبي في الميزان: «وهذا الخبر من بلاياه»، فالظاهر أنّ من جرحه إنّما كان لهذا الخبر، وهذا لا يقتضي - إن صحّ الاحتمال - ردُّ جميع مروياته وإنّما ما علم أنّه خالف فيه، أو نحو ذلك والله أعلم).
قلت: لقد روى البزار في مسنده الرواية التي احتمل الشيخ أبو إسحاق الحويني الأثري أنها السبب في جرح من جرح أبا بلج، فقال البزار: (أخبرنا محمد بن بشير، قال: أخبرنا أبو داود، قال: أخبرنا شعبة، عن أبي بلج، عن عمرو ابن ميمون، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «يأتي على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد، يعني من الموحدين») 81.
ولا أعلم أين تكمن النّكارة في هذه الرّواية عند هؤلاء العلماء، حتى تكون سبباً لجرح أبي بلج، فمعناها صحيح عندهم، فهم يقولون أنّه لا يخلد في جهنّم موحدٌ، فأصحاب المعاصي من أهل التوحيد فإنهم وإن دخلوا جهنم لا يخلدون فيها، وإنّما يخرجون منها إمّا بالشفاعة والعفو أو بانقضاء مدة العقاب، فهذه الرّواية تشير إلى الفترة مما بعد خروج آخر إنسان من جهنم من غير الخالدين فيها، وبعدها لا يُدخل فيها أحدٌ ولا يُخرج منها أحدٌ، فالرواية عندهم بهذا التوجيه لا نكارة فيها أبداً، فمن جعلها مستنداً في جرح أبي بلج فهو مخطئ .
ثم إنّه على فرض أنّها رواية منكرة فلماذا ترمى تبعتها على أبي بلج، وقد وقع في سندها غيره من الرّواة، كشعبة ابن الحجاج، وعمرو بن ميمون، وعبد الله بن عمرو بن العاص، أو غيرهم ممن وقع في سند الرّواية؟!
فهل هؤلاء معصومون، لا يخطئون، ولا يشتبهون، ولا يسهون أم ماذا؟
وعليه، فمما قدّمناه يتّضح أنّ أبا بلج ثقة، وأنّ طريق حديث الولاية من روايته طريقٌ صحيحٌ82.

  • 1. الأحاديث المختارة ١٣/٢٩ - ٣٠، رواية رقم: ٣٦.
  • 2. فضائل الصّحابة ٢/٦٨٢، رواية رقم: ١١٦٨.
  • 3. المستدرك على الصحيحين ٣/١٤٣، رواية رقم: ٤٦٥٢.
  • 4. قال مقبل بن هادي الوادعي معلّقاً على حكم الحاكم النيسابوري على رواية أبي بلج للحديث بقوله: (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه)، قال: (لا، أبو بلج يحيى بن سليم، ويقال ابن أبي سليم، مختلف فيه، والرّاجح ضعفه، إذ الجرح فيه مفسّر، قال البخاري: «فيه نظر»، وهي من أردى عبارات التجريح عند البخاري) (المستدرك على الصحيحين ٣/١٥٥، رواية رقم: ٤٧١٥، الطبعة المتضمنة انتقادات الذهبي، وبذيله تتبع أوهام الحاكم، لمقبل بن هادي الوادعي، طبعة دار الحرمين للطباعة والنشر، الطبعة الأولى: ١٤١٧هـ - ١٩٩٧م.
  • 5. انظر ترجمته في تهذيب التهذيب ٧/٣١٩ - ٣٢٠، تهذيب الكمال ٣٣/١٦٢.
  • 6. الجرح والتعديل ٩/١٥٣.
  • 7. الكامل في ضعفاء الرّجال ١٠/٦٠١.
  • 8. موسوعة أقوال يحيى بن معين في رجال الحديث وعلله٥/٢٢٦، رقم الترجمة: ٤٥٠٧.
  • 9. الطبقات الكبرى ٧/٢٢٦.
  • 10. موسوعة أقوال أبي الحسن الدّارقطني في رجال الحديث وعلله ٢/٧٤١، رقم الترجمة: ٤٠٢٥. سؤالات البرقاني للدارقطني، صفحة ٧١، برقم: ٥٤٦.
  • 11. المعرفة والتّاريخ ٣/١٩٠.
  • 12. الاستيعاب ٣/١٠٨٩.
  • 13. تهذيب الكمال ٢٠/٤٨١.
  • 14. انظر المستدرك على الصحيحين ١/١١٤، رواية رقم: ١٥٨، و٢/٢٠١، رواية رقم: ٢٧٥٠، و٢/٥٥٦، رواية رقم: ٣٨٩٠، و٣/٥، رواية رقم: ٤٢٦٣، و٣/١٤٣، رواية رقم: ٤٦٥٢، و٣/١٤٥، رواية رقم: ٤٦٥٥، و٤/١٨٦، رواية رقم: ٧٣١٢.
  • 15. تقريب التّهذيب، صفحة ١١٢١، رواية الترجمة: ٨٠٦٠.
  • 16. فتح الباري ٧/١٥.
  • 17. المجرّد في أسماء رجال سنن ابن ماجة، صفحة ١٣٧، رقم الترجمة: ١٠٦٤.
  • 18. المقتنى في سرد الكنى ١/١٣١، رقم الترجمة: ٩٣٦.
  • 19. مجمع الزّوائد ١٠/١٠٩.
  • 20. مجمع الزوائد ٩/١٢٠.
  • 21. مجمع الزّوائد ٩/٩٩.
  • 22. الثّمر المستطاب في فقه السّنة والكتاب ١/٤٨٨.
  • 23. سلسلة الأحاديث الصحيحة ٣/٣٩٠، رواية رقم: ١٤٠٠.
  • 24. سلسلة الأحاديث الصّحيحة ١١/٦٣٨.
  • 25. الأحكام الشّرعيّة الكبرى ١/٢٤١.
  • 26. مختصر استدراك الذّهبي على مستدرك الحاكم ١/٤٣.
  • 27. معجم أبي يعلى، صفحة ١٣٣، رواية رقم: ٩٣، بتحقيق حسين سليم أسد والكوشك.
  • 28. مجمع الزّوائد ومنبع الفوائد ٢/٥٥، بتحقيق حسين سليم أسد الدّاراني.
  • 29. نثل النّبال بمعجم الرّجال ٤/١٩٣.
  • 30. مسند أحمد ٣/٣٣١، رواية رقم: ٣٠٦٢، طبعة دار الحديث، القاهرة، بتحقيق: أحمد محمد شاكر.
  • 31. منهاج السنة ٧/٥٢.
  • 32. تلخيص كتاب الاستغاثة، صفحة ٧٧.
  • 33. سلسة الأحاديث الصحيحة ٥/١٢.
  • 34. أي ترجمة الرّاوي.
  • 35. تهذيب التهذيب ١/٥.
  • 36. فتح المغيث ٢/٢٠١.
  • 37. المختصر المفيد في عقائد أئمة التوحيد، صفحة ٢٧٧.
  • 38. مسند ابن الجعد ١/٢٦٩.
  • 39. تهذيب التهذيب ٧/٣٢٠، تهذيب الكمال 33/162، الكامل في ضعفاء الرّجال ١٠/٥٩٩، الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي ٣/١٩٦.
  • 40. انظر خصائص علي هامش صفحة 36 تحقيق الداني بن منير السلفي، الأسامي والكنى ٢/٣٥٢، رقم الترجمة: ٨٨٦.
  • 41. تهذيب التهذيب ٧/٣٢٠، الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي 3/196.
  • 42. أحوال الرجال صفحة 117، رقم الترجمة: 190.
  • 43. المجروحين 3/113.
  • 44. الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي ٣/١٩٦.
  • 45. هامش صفحة 331 من المجلد الثالث من مسند أحمد بن حنبل بتحقيق أحمد محمد شاكر.
  • 46. سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/379 برقم: 195.
  • 47. شفاء العليل بألفاظ وقواعد الجرح والتعديل، صفحة ٥٢٦.
  • 48. الكفاية في علم الرّواية ١/٣٣٨ - ٣٣٩.
  • 49. يريد به ابن حجر العسقلاني.
  • 50. تدريب الرّاوي ١/٣٠٨.
  • 51. نزهة النظر، صفحة ١٣٦.
  • 52. المرسل الخفي 1/440.
  • 53. العلل الكبير للترمذي، صفحة ٣٩٠.
  • 54. الرفع والتكميل في الجرح والتعديل صفحة 117- 118.
  • 55. شرح موقظة الذهبي، صفحة ٢٤٨.
  • 56. ميزان الاعتدال 1/٢٦٢.
  • 57. ميزان الاعتدال ٤/٢٣٩ - ٢٤٠.
  • 58. الأسامي والكنى ٢/٣٥٢.
  • 59. تهذيب التهذيب ٧/٣٢٠.
  • 60. الموضوعات لابن الجوزي ١/٣٦٦.
  • 61. التنكيل 1/62.
  • 62. الجرح والتعديل، صفحة ٣٠٨.
  • 63. الجرح والتعديل، صفحة ٣١٢.
  • 64. مقدمة فتح الباري صفحة 437.
  • 65. منها مثلاً نسخة طبعة مؤسسة الرسالة باعتناء إبراهيم الزيبق وعادل مرشد، ونسخة دار إحياء التراث ومؤسسة التاريخ العربي، بيروت - لبنان، الطبعة الثانية 1413هـ - 1993م، وكتب عليها (طبعة جديدة محققة).
  • 66. واحتمال الخطأ من الناسخ أو الطابع وارد أيضاً بالنسبة لما ورد في كتاب أحوال الرّجال.
  • 67. تهذيب التهذيب ١/١٧٣.
  • 68. a. b. المصدر السابق.
  • 69. تذكرة الحفّاظ ٢/٥٤٩، رقم الترجمة: ٥٦٨.
  • 70. تقريب التهذيب، صفحة ١١٨، رقم الترجمة: ٢٧٥.
  • 71. الثقات ٨/٨١، رقم الترجمة: ١٢٣٣٧.
  • 72. مسند أحمد ١/٤٨٦، رواية رقم: ٧٣١، وقال الشيخ أحمد محمد شاكر: «إسناده صحيح».
  • 73. لسان الميزان 1/٢١٢.
  • 74. فوائد وقواعد في الجرح والتعديل وعلوم الحديث، صفحة ٥٨.
  • 75. يقصد كتاب أحوال الرّجال لأبي إسحاق الجوزجاني.
  • 76. تهذيب الكمال بتحقيق بشّار عوّاد معروف المجلّد الثاني هامش صفحة ٢٥٠.
  • 77. الجرح والتعديل 9/153.
  • 78. في المصدر: وابن أبي حاتم، والصواب ما أثبتاه.
  • 79. بذل الماعون، صفحة ١١٧-١١٨.
  • 80. بل اختلفوا في قول البخاري في الرّاوي «فيه نظر» كما مر، وهو من الجرح المبهم فلا اعتداد به هنا.
  • 81. مسند البزار 6/442.
  • 82. المصدر كتاب "حديث الولاية فوق الشّبهات" للشيخ حسن عبد الله العجمي، نقلا عن الموقع الرسمي لسماحته حفظه الله.