الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

الشعارات الدينية وسائل تحشيد ومناصرة

هذا المقال يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمقال سبقه في الأسبوع الماضي، وكلا المقالين هما محاولة للإجابة عن سؤال مفاده: لماذا يستخدم المتدينون الدين في صراعاتهم الاجتماعية البينية؟
تحدثت في المقال السابق عن السبب الأول، وهو تبرير حالة الصراع والمقارعة مع الآخرين، وهنا سأتحدث عن سبب آخر وهو الاستفادة من الدين كوسيلة للتحشيد والمناصرة.
فكل ما هو ديني له قداسة في نفوس الناس وله احترام متجذر في قلوبهم، وله هالة يحذرها الجميع، وهذا بفضل مستوى التدين العالي في مجتمعاتنا، والنفوس الطيبة الفطرية لأهلنا، فتراهم لا يجادلون من يتحدث بالدين ولا يقفون في وجه من يرفع القيم والمبادئ شعاراً. بل يرون هذه القضايا مقدسات لها وقعها وأثرها في النفوس، وهذا أمر حسن.
إلا أن هذا الأمر الحسن قد أُخضع (أحياناً) لاستغلال ماكر مكّن بعض الفئات والجماعات والزعامات المتصارعة من بعض الاستفادات السيئة.
يمتد هذا الدهاء والتفنن في استخدام الدين لجر الناس إلى موقف معين، والاستفادة السيئة منه تغريراً بفطرة الناس، إلى أبينا الأول آدم، حين غرر به الشيطان بهذا الأسلوب، الذي أصبح فناً (بتميز) لإقناع الناس برأي أو تصور بغض النظر عن صحته من بطلانه.
يقول العلامة الطباطبائي في تفسير الآية 21 من سورة الأعراف ﴿ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ﴾ 1 أن (المقاسمة: المبالغة في القسم أي حلف لهما وأغلظ في حلفه أنه لهما لمن الناصحين)
(وروي عن أبي عبدالله قال: لما خرج آدم من الجنة نزل عليه جبرائيل فقال: يا آدم أليس خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه،وأسجد لك ملائكته،وزوجك حواء أمته، وأسكنك الجنة وأباحها لك، ونهاك مشافهة أن تأكل من هذه الشجرة، فأكلت منها وعصيت الله؟ فقال آدم: يا جبرائيل إن إبليس حلف لي بالله أنه ناصح فما ظننت أن أحداً من خلق الله يحلف بالله كذباً).
ويشير آية الله المدرسي إلى هذا المعنى في الآية (78) من سورة آل عمران ﴿ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ 2.
والتعبير بـ (يلوون ألسنتهم بالكتاب) تعبير دقيق لحالة هؤلاء النفسية والسلوكية، فهم من الناحية النفسية يحاولون تحريف الدين والوائه بأي شكل من الأشكال، وهم من الناحية السلوكية يعيشون الكتاب على صعيد الألسن فقط دون أن تتعمق رؤى الكتاب في قلوبهم أو تظهر في حياتهم، إنهم اتخذوا الكتاب أحرفاً يتعاملون بها كما يتعاملون مع قطعة حلوى يصنعون منها ما يشاؤون صوراً شتى حسب المواقع وحسب الظروف المصلحية).

تجربة تاريخية

لقد أجاد أهل الشام استخدام سلاح الدين في حربهم مع أمير المؤمنين علي حين ثار أهل الشام في سواد الليل ينادون عن قول معاوية وأمره: يا أهل العراق من لذرارينا إن قتلتمونا، ومن لذراريكم إن قتلناكم الله الله في البقية، وأصبحوا وقد رفعوا المصاحف على رؤوس الرماح، وقد قلدوها الخيل (والناس على الرايات قد اشتهوا ما دعوا إليه) ومصحف دمشق الأعظم يحمله عشرة رجال على رؤوس الرماح وهم ينادون: كتاب الله بيننا وبينكم.
وأقبل أبو الأعور السلمي على برذون أبيض، وقد وضع المصحف على رأسه ينادي: «يا أهل العراق كتاب الله بيننا وبينكم»، لقد استطاع هؤلاء أن يخدعوا الآلاف من جيش أمير المؤمنين حتى أنهم هددوا بحمل السلاح ضده إن لم يخضع للقرآن.
يقول ابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة): «فجاءه من أصحابه زهاء عشرين ألفاً مقنعين في الحديد، شاكي السلاح سيوفهم على عواتقهم، وقد اسودت جباههم من السجود، يتقدمهم مسعر بن فدكي، وزيد بن حصين، وعصابة من القراء الذين صاروا خوارج من بعد، فنادوه باسمه لا بإمرة المؤمنين: يا علي، أجب القوم إلى كتاب الله إذا دعيت إليه، وإلا قتلناك كما قتلنا ابن عفان، فوالله لنفعلنها إن لم تجبهم ! فقال لهم: ويحكم، أنا أول من دعا إلى كتاب الله، وأول من أجاب إليه، وليس يحل لي ولا يسعني في ديني أن أدعى إلى كتاب الله فلا أقبله إني إنما قاتلتهم ليدينوا بحكم القرآن، فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم، ونقضوا عهده، ونبذوا كتابه، ولكني أعلمتكم إنهم قد كادوكم، وإنهم ليس العمل بالقرآن يريدون».
وبعد أن انكشفت لعبة التحكيم، وأنها خديعة نكراء باسم القرآن الذي استخدمه معاوية وجيشه، رفع الذين خُدِعُوا من جيش علي وهم الذين سموا بالخوارج وحملوا سيوفهم في وجهه إن لم يقبل بالقرآن، رفعوا شعاراً آخر بحلة الدين وباسم الإسلام ولرضا الرب فقالوا: (والمصدر هو السابق) « لا حكم إلا لله، الحكم لله يا علي لا لك، لا نرضى بأن يحكم الرجال في دين الله، إن الله قد أمضى الحكم في معاوية وأصحابه أن يقتلوا أو يدخلوا تحت حكمنا عليهم، وقد كنا زللنا وأخطأنا حين رضينا بالحكمين، وقد بان لنا زللنا وخطؤنا فرجعنا إلى الله وتبنا، فارجع أنت يا علي كما رجعنا وتب إلى الله كما تبنا، وإلا برئنا منك ».
التعبئة وحشد الأنصار وتلقي الدعم والمساندة من الناس في الصراعات الاجتماعية كلها أهداف منشودة للذين يشمرون عن سواعدهم في الصراعات الاجتماعية باسم الواجب الشرعي وشعارات الدين3.