حقول مرتبطة:
الكلمات الرئيسية:
الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها
الدماء خط أحمر
الحياة بالنسبة لأي انسان هي قرار إلهي خارج عن ارادته وسيطرته وبالتالي فان اي محاولة لمصادرة تلك الحياة هي اعتراض على الارادة الالهية ، فيتشكل بذلك معيار لفرز النظم القانونية والثقافية، فكل نظام لا يسعى للحفاظ على حياة الانسان هو نظام مرفوض وفق السنن الالهية، وبعكسها تكون النظم التي تشكل سياجا للمحافظة على حياة الانسان ، وهي نظم تنسجم مع الارادة الالهية ، وطبيعة الانسان ، الذي كتبت له الحياة، لذا كان الانتحار جريمة في نظر كل الشرائع الدينية والقوانين الدولية ، بل تميز الشرع الاسلامي بوضع قيود أكثر دقة للحفاظ على الحياة.
وأفتى فقهاء الاسلام بانه لا يحق للطبيب سحب أجهزة طبية وضعت لمريضه، فبعثت الحركة في قلبه وان مات المخ، فأصبحت حياة المريض كحياة النبات لا تدوم إلا بعمل تلك الاجهزة ، وذلك لأهمية النفس المحترمة في الاسلام.
وعلى الطبيب ألا يعتني بطلب المريض أو طلب اقاربه بسحب تلك الاجهزة ، واذا سحبها فمات المريض لذلك عد الطبيب قاتلا.
كما أفتى الفقهاء بانه يحرم على المكلف ايقاع الضرر بنفسه ، ويجب عليه ترك ذلك، وحفظ نفسه من الاضرار.
فالنظرة الى الحياة كحقيقة يجب الحفاظ عليها هي بداية السير في الاتجاه الصحيح، ومن هنا كانت الحياة أقدس شيء في الاسلام ، فاذا تأملنا قوله تعالى: ﴿ ... مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ... ﴾ 1نجد الاية الكريمة قد أصلت حقيقة مفادها ان الحياة البشرية حقيقة واحدة، والاعتداء على اي فرد اعتداء على كل المجموعة، وبالتالي يجب أن تتعبأ الافكار والمشاعر ضد أي حادث قتل ولو كان المستهدف شخصا بعيدا، اذ يجب ان يشعر كل انسان ان الاعتداء وقع عليه..
يقول ابن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير (ج 5 ، ص 89) : «ومعنى التشبيه في قوله تعالى ﴿ ... فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ... ﴾ 1حث جميع الامة على تعقب قاتل النفس وأخذه أينما ثقف والامتناع من ايوائه او الستر عليه، كل مخاطب على حسب مقدرته ، وبقدر بسطة يده في الارض، ومن ولاة الامور الى عامة الناس ، فالمقصود من ذلك التشبيه تهويل القتل» ولا يصح الاعتراض هنا على تشريع الاسلام جواز قتل القاتل مثلا، لأن القتل أصلا عقوبة قانونية ضمن ضوابط شرعية مشددة للحفاظ على حياة الاخرين يقول تعالى: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ... ﴾ 2ففي حالة تعارض القيم يقدم الاهم فالحفاظ على حياة القاتل قد يكون مهما ولكن الأهم منه الحفاظ على حياة الكل، ونشير هنا الى ان الاسلام فسح المجال لاسقاط عقوبة القصاص على القاتل اذا تنازل اولياء دم المقتول بل وشجع على ذلك يقول تعالى: ﴿ ... فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ... ﴾ 3.
وهكذا فان من ابجديات الثقافة التي حاول الاسلام تكريسها في نفوس الناس ، حتى تشكل قاعدة ومنطلقا لسلوك حضاري رصين، هي قدسية الحياة وضرورة الحفاظ عليها ، وقد ركزت مجموعة من النصوص الشرعية على هذه الثقافة ، حيث شددت على خطورة العدوان على حياة الاخرين ، ففي حديث مروي عن رسول الله يعتبر أن اي خطأ يرتكبه العبد قابل للتدارك والاحتمال اما اذا تجرأ على سفك دم محرم ، فذلك ما لا مجال لتداركه ، عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي : «لايزال العبد في فسحة من دينه مالم يصب دما حراما».
وفي حديث آخر عنه يشير الى ان قضية سفك الدماء هي أولى القضايا المطروحة على ساحة المحشر يوم القيامة، عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي :«اول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء».
كما تؤكد النصوص الدينية على أن من ينتج ثقافة تحرض على القتل والعدوان فهو شريك في جريمته عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي : «من شرك في دم حرام بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آئس من رحمة الله».
وابرازا لخطورة سفك الدماء يروي البراء عن رسول الله : «لزوال الدنيا جميعا أهون على الله من دم يسفك بغير حق» ان الدنيا خلقت من أجل الانسان ولا قيمة لها اذا لم تحترم فيها حياة الانسان ووجوده.
وهناك حادثة وقعت في عهد الرسول تكشف عن مدى اهتمام الاسلام بالحياة فقد وجد رجل مقتول من قبيلة جهينة ولا يعلم قاتله فغضب رسول الله لذلك فأمر باجتماع المسلمين في المسجد وصعد فيهم خطيبا قائلا: «ايها الناس أيقتل انسان ولا يعلم قاتله ،والله لو أن اهل السماوات والارض اشتركوا في دم مسلم واحد برئ او رضوا به لكان حقا على الله أن يكبهم كلهم على مناخيرهم في نار جهنم» وغيرها من النصوص التي أصلت لثقافة احترام أرواح الآخرين. 4
- 1. a. b. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 32، الصفحة: 113.
- 2. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 179، الصفحة: 27.
- 3. القران الكريم: سورة الشورى (42)، الآية: 40، الصفحة: 487.
- 4. نشرت هذه المقالة في مجلة صحيفة اليوم 12 / 5 / 2004م.