الأبحاث و المقالات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة ، بل تعبر عن رأي أصحابها

ميلاد الامام الباقرعليه السلام الميمون

ولد الإمام الباقر عليه السلام من والدين علويين هما الإمام السجاد عليه السلام، وأم عبد الله بنت الإمام الحسن المجتبى عليه السلام. وكانت ولادته قبل أربع سنوات من واقعة الطف الرهيبة، أي في عام 57 من الهجرة. وكان ذلك في الثالث من صفر أو العاشر من رجب، (في ذلك اختلاف بين الرواة). ولم يكن أكبر أبناء أبيه سنًّا، إلَّا أنه كان أولاهم بالإمامة فنصبّه والده لها اتِّباعاً لأمر رسول الله صلى الله عليه واله.

وقد سأل الزهري والده الإمام السجاد عليه السلام عن ذلك وقال: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ هَلَّا أَوْصَيْتَ إِلَى أَكْبَرِ أَوْلَادِك؟ قَالَ: «يَا أَبَا عَبْدِاللهِ! لَيْسَتِ الْإِمَامَةُ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، هَكَذَا عَهِدَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه واله، وَهَكَذَا وَجَدْنَاهُ مَكْتُوباً فِي اللَّوْحِ وَالصَّحِيفَة»1.

وكانت أمّه- حسبما قال الإمام الصادق عليه السلام-

«صِدِّيقَةً لَمْ يُدْرَكْ فِي آلِ الحَسَنِ مِثْلُهَا»2.

النشأة الطيبة:

عاش في ظل جده السبط الشهيد عليه السلام أربع سنوات، وصبغت شخصيته الفذة بتلك الصبغة الإلهية التي تجلَّت في حياة السبط الشهيد.

ولا ريب في أن مأساة كربلاء الفجيعة تركت طابعها على نفسية الإمام الباقر عليه السلام الذي رافق صورها وشاهدها لحظة بلحظة؛ لأنه- حسب بعض الرواة- كان ممن حضرها مع سائر أبناء الأسرة الهاشمية.

وبعد تلك الفاجعة عاش الإمام (19) سنة و (60) يوماً في ظل والده سيد الساجدين 3، حيث كانت حياته الكريمة مثلًا أعلى للصبغة الربانية، وظل شعاع تلك الحياة يضيء درب السالكين إلى الله، حتى اليوم.

ومنذ باكورة حياته المباركة تجلَّت فيه ملامح الإمامة. وقد جاء في الحديث المأثور عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي قال:

«كُنَّا عِنْدَ جَابِرِبْنِ عَبْدِ اللهِ فَأَتَاهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ وَمَعَهُ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ وَهُوَصَبِيٌّ، فَقَالَ عَلِيٌّ لِابْنِهِ: قَبِّلْ رَأْسَ عَمِّكَ، فَدَنَا مُحَمَّدٌ مِنْ جَابِرٍ فَقَبَّلَ رَأْسَهُ، فَقَالَ جَابِرٌ: مَنْ هَذَا؟ وَكَانَ قَدْ كُفَّ بَصَرُهُ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ عليه السلام: هَذَا ابْنِي مُحَمَّدٌ، فَضَمَّهُ جَابِرٌ إِلَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ. فَقَالُوا لِجَابِرٍ: كَيْفَ ذَلِكَ يَا أبَا عَبْدِاللهِ؟

فَقَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه واله وَالْحُسَيْنُ فِي حَجْرِهِ وَهُوَيُلَاعِبُهُ فَقَالَ: «يَا جَابِرُ! يُولَدُ لِابْنِيَ الحُسَيْنِ ابْنٌ يُقَالُ لَهُ عَلِيٌّ، إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ لِيَقُمْ سَيِّدُ الْعَابِدِينَ، فَيَقُومُ عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ، وَيُولَدُ لِعَلِيٍّ ابْنٌ يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدٌ، يَا جَابِرُ! إِنْ رَأَيْتَهُ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ، وَاعْلَمْ أَنَّ بَقَاءَكَ بَعْدَ رُؤْيَتِهِ يَسِيرٌ».

فلم يعش (جابر) بعد ذلك إلَّا قليلًا ومات»4.

وبعد والده اضطلع بمقام الإمامة العامة.

الإمامة وعلم الأنبياء:

عندما آلت شمس بني أمية إلى المغيب وضعفت سلطتهم بفعل الثورات الرسالية المتلاحقة؛ وجد الإمام الباقر عليه السلام فرصة لنشر معارف القرآن التي كانت مستوعبة في الصحيفة التي توارثها أهل البيت عليه السلام من رسول الله.

في ذلك اليوم كان المجتمع الإسلامي بحاجة إلى معارف القرآن، إنه قد اتسع في كل أفق وأصبح خيمة تشمل شعوباً مختلفة وبقايا حضارات، فعلى أي أساس نُقيم هذا المجتمع الجديد؟ وما هي قِيَمه التوحيدية وأطر الثقافة العامة وروح قوانينه في مختلف الحقول؟

بالأمس نشر الإمام السجاد عليه السلام راية التوحيد عبر أدعيته وابتهالاته، وصنع بها حياة المجتمع المسلم وبالذات المجتمع الرسالي التابع لخط أهل البيت عليهم السلام.

أما اليوم فإن تلك القاعدة التوحيدية الرصينة قد رست، ويأتي الإمام الباقر عليه السلام ليبني عليها صرح المعارف، ويكمله الإمام الصادق عليه السلام ببيان المزيد من التفاصيل في الحكمة الإلهية والتفسير والفقه.

ما هي المعارف التي نشرها الإمام الباقر عليه السلام وكيف استطاع إليها سبيلًا؟

قد يُسلك في طريق العلم من التجارب الجزئية صعوداً إلى القواعد العامة، وقد ننطلق من تلك القواعد إلى المفردات الجزئية. وبينما السبيل الأول هو منهج عموم الناس في بلوغ العلم، فإن المنهج الثاني هو سبيل علم الأنبياء وأوصيائهم المتصلين بالوحي. ومن هنا جاء في الحكمة
المأثورة: العلم نقطة كثَّرها الجاهلون.

والأساس الظاهر لعلم الرسول وخلفائه المعصومين عليهم السلام، هو القرآن المفسر بالحديث النبوي، ولكن الأساس الحقيقي هو نور العقل الذي يتوهَّج بالإيمان والإلهام في أفئدة العارفين بالله. ذلك العقل الذي أُوتي الناس منه قدر ضئيل وأكمله الله لنبيِّه وأوصياء نبيّه. وإن توهُّجَ نور العقل عند أبناء البشر، وتجلِّيه في تلك المعارف الأولية التي يعرفها كل شخص، وفي تلك القيم التي يتحاكم الناس إليها فيما بينهم، وفي تلك الإضاءات التي نجدها عند طائفة من الناس دون غيرهم تجعلهم نوابغ وعظماء كبار؛ كل ذلك يهدينا إلى معنى العلم الكوني الذي يُلقيه ربنا في روع الصفوة من أوليائه. وجاء في الحديث الشريف:

«العِلْمُ نُوْرٌ يَقْذِفُهُ اللهُ فِيْ قَلْبِ مَنْ يَشَاءُ» 5.

وترى بعض الناس يتشكك في مثل هذا العلم عند الأنبياء والأئمة، والمحدثين من فقهاء الأمة؛ مستشهداً بقول الله سبحانه:﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ... 6.

وقوله:﴿ قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ... 7.

حقًّا إذا كان مُراد هؤلاء أن الإنسان لا يعلم الغيب بصفة ذاتية، فإنه حق لا ريب فيه، ولكن: إذا أرادوا أنَّ الله لا يقدر على تعليم الغيب لبعضهم، نقول: بلى هو قادر، أليس كلنا يعرف قدراً من العلم بالمستقبل، فمثلًا أولسنا نعرف أننا نموت وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الشمس تُشرق غداً وهي لابدّ غاربة اليوم؟ وعشرات من المعارف المستقبلية التي تشكل أكثر من نصف معلوماتنا وهي أساس العلم، والهدف الأساسي منه؟

والله سبحانه علّم الإنسان ما لا يعلم، والوحي جزء من علم الغيب الذي علّمه ربنا لمن ارتضاه من عباده؛ وقد قال ربنا سبحانه:﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا 8.

وقال:﴿ ... وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ 9.

وقال:﴿ ذَٰلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ 10.

وأخيراً: إن هؤلاء شككوا في (مدى) علم الأنبياء والأوصياء، إنهم لم يستوعبوا كيف يمكن لبشر محدود أن يبلغ علم الحقائق من لدن رب العزة، فهم ينطلقون في تكذيب هذا (المدى) من العلم من المنطلق ذاته الذي كذّب على أساسه الأولون بالنبوة، وهو الجهل بالمقام الذي جُعل للإنسان الذي يتوجه إلى الله ويُخلص له وجهه. بيد أن هؤلاء (اضطروا) إلى الاعتراف بالنبوة، ولما يعرفوا أبعادها فقلصوها إلى أقل قدر ممكن، وحاولوا الكفر بمعاجز الأنبياء وبمقاماتهم الرفيعة أنى استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، وإذ أعجزتهم الحيلة في ذلك عمدوا إلى الأوصياء فنفوا كرامتهم على الله، وإمكانية تلقيهم العلم من مصدر الغيب إلهاماً، ولو أنصفوا أنفسهم وأنصتوا للحق لما وجدوا مانعاً عقليًّا من الاعتراف بذلك، بعد أن توافرت أدلة بالغة القوة تهديهم إليه من خلال دراستهم لكلماتهم من دون تعصُّب أعمى أو أحكام مسبقة.

وقد ابتُلي الإمام الباقر عليه السلام، شأنه شأن سائر الأئمة عليهم السلام، بنمطين متنافرين من الناس، فبينما زعم بعضهم أنه ليس من البشر وبذلك مرق من الدين بسبب غلوه، نجد كثيراً من الناس لم يعترفوا بمقامه الكريم.

من النمط الأول: كان المغيرة بن سعيد الذي غلا في الدين وكذب على الإمام الباقر عليه السلام، حتى قال عنه الإمام لبعض أصحابه (سليمان اللَّبان): «أَتَدْرِي مَا مَثَلُ المُغِيرَةِ بْنِ سَعِيدٍ:

قَالَ: قُلْتُ: لَا.

قَالَ: مَثَلُهُ مَثَلُ بَلْعَمَ الَّذِي أُوتِيَ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ الَّذِي قَالَ الله: ﴿ ... آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ 11»12.

أما النمط الثاني: فهم أغلب الذين لم يحتملوا علم الإمام ومعرفته بما لا يعرفون، وكرامته على الله، واستجابة الله دعاءه في الأمور!!

فهؤلاء لا ينكرون فضائل أهل البيت عليهم السلام فقط، بل ويرون أنها من المستحيلات، لماذا؟ لأنهم لما يبلغوا معرفة أنبياء الله وأوليائه عليهم السلام، ومعرفة كرامتهم على الله. ولو كانوا يتفكرون في خلق الإنسان، وكيف استخلفه الله في الأرض، وسخَّر له ما فيها بما آتاه من علم وقدرة؛ لعرفوا أن من حكمة الله سبحانه أن يفضل بعض الناس على بعض في العلم، وليهب لمن أطاعه وأخلص له المزيد من المعرفة سواء عبر الوحي كالرسل، أو عبر الإلهام كما فعل بأوصياء الرسل.

ثم إن ما أوحى به الله من الكتاب فيه آفاق من العلم لا يبلغها إلَّا من امتحن الله قلبه بالإيمان، لأنه نور الله الذي يشع من مشكاة النبوة. إنه ذكر الله الذي يرتفع من بيوت الأوصياء كما قال سبحانه:﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ... 13.

قال:﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ... 14.

ثم قال:﴿ ... وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ 15.

هكذا نور الله الذي منح جزءاً بسيطاً منه للإنسان، فإذا به يعرف علما يُسَخِّرُ به كل شيء من حوله، إنه لو سلب منه ترى ماذا يبقى له؟ هل يستطيع آنئذٍ أن يعرف شيئاً. فلو اجتمعت البشرية وحاولوا إعادة مجنون إلى رشده، أو شيخ مخرف إلى سابق علم، أو تعليم هرة دروس الرياضيات، هل استطاعوا إلى ذلك سبيلًا؟ كلا .. فلماذا ينكرون على الله الذي منح البشر هذا النور أن يكون قادراً على مضاعفته لخيرة عباده؟

هكذا نعرف أن الوحي والإلهام هما في إطار سنن الله في خلقه، يقبلهما العقل ويطمئن إليهما القلب. وعلم أئمة أهل البيت عليهم السلام لا يخرج من دائرة هذه السنن أيضاً، فإما أنَّه مستوحىً من الوحي أو بالإلهام.

ويتصل علم الأئمة بالوحي عبر السبل التالية:

أولًا: العلم من كتاب الله، بالتدبر فيه وتأويل آياته على الحقائق والوقائع. أليس في القرآن علم ما كان وما يكون، وفصل ما هو كائن؟ ومن أولى بكتاب الله ممن أُنزل في بيوتهم وزُقُّوا علمه مع اللبن زقاً؟

وقد كان الأئمة عليهم السلام شديدي الوَلَهِ بالقرآن، عظيمي الاحترام له، وكانوا يختمونه في كل ثلاثة أيام مرة، وربما في كل يوم، وكانوا يقولون: إنهم يستفيدون منه علماً جديداً كلما أعادوا قراءته، حتى أنهم استفادوا علم الآفاق من آياته الكريمة، فقد قال الإمام الصادق عليه السلام- فيما روي عنه-:

«وَاللهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ، وَأَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْضِ، وَأَعْلَمُ مَا فِي الدُّنْيَا، وَأَعْلَمُ مَا فِي الْآخِرَة».

فَرَأَى تَغَيُّرَ جَمَاعَةٍ فَقَالَ- وهو يخاطب بكير بن أعين-:

«يَا بُكَيْرُ! إِنِّي لَأَعْلَمَ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى إِذْ يَقُولُ:﴿ ... وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ... 16»17.

ثانياً: أحاديث الرسول صلى الله عليه واله والتي توارثوها من آبائهم عبر جدهم الأعلى الإمام أمير المؤمنين، وجدتهم الطاهرة فاطمة الزهراء عليهم السلام.

فقد جاء في الحديث المأثور عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال لجابربن عبد الله:

«يَا جَابِرُ! إِنَّا لَوْ كُنَّا نُحَدِّثُكُمْ بِرَأْيِنَا وَهَوَانَا لَكُنَّا مِنَ الهَالِكِينَ، وَلَكِنَّا نُحَدِّثُكُمْ بِأَحَادِيثَ نَكْنِزُهَا عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه واله كَمَا يَكْنِزُ هَؤُلَاءِ ذَهَبَهُمْ وَوَرِقَهُم»17.

ومعروف أن خزائن علم النبوة كانت قد انتقلت إلى رسول الله صلى الله عليه واله، وورثها أهل بيته عليهم السلام. ويبدو أنها كانت مكنونة في جفر عظيم.

حيث جاء في الحديث المروي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: «إِنَّ عِنْدِي الجَفْرَ الْأَبْيَضَ».

فلما سأله الرواي: فَأَيُّ شَيْءٍ فِيهِ؟ قَال:

«زَبُورُ دَاوُدَ، وَتَوْرَاةُ مُوسَى، وَإِنْجِيلُ عِيسَى، وَصُحُفُ إِبْرَاهِيمَ، وَالحَلَالُ وَالحَرَامُ، وَمُصْحَفُ فَاطِمَةَ، مَا أَزْعُمُ أَنَّ فِيهِ قُرْآناً، وَفِيهِ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْنَا وَلَا نَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ، حَتَّى فِيهِ الجَلْدَةُ وَنِصْفُ الجَلْدَةِ وَرُبُعُ الجَلْدَةِ وَأَرْشُ الخَدْش» الحديث 18.

وكان في هذا الجفر مجموعة تراث أهل البيت من أحاديث النبي.

منها مصحف فاطمة، وهو مجموعة أحاديثها التي كتبها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في صحيفة، وحسبما جاء في رواية:

«فَفِيهِ مَا يَكُونُ مِنْ حَادِثٍ وَأَسْمَاءُ مَنْ يَمْلِكُ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَة»19.

كما أن من تراثهم كتاب يسمى بالجامعة، وهو من إملاء رسول الله صلى الله عليه واله وكتابة أمير المؤمنين عليه السلام، طوله سبعون ذراعاً، وفيه أحكام الشريعة كلها.

هكذا جاء في حديث مروي عن أبي بصير عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال:

«سَمِعْتُهُ يَقُولُ وَذَكَرَ ابْنُ شُبْرُمَةَ فِي فُتْيَا أَفْتَى بِهَا: أَيْنَ هُوَ مِنَ الجَامِعَةِ إِمْلَاءِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه واله بِخَطِّ عَلِيٍّ عليه السلام، فِيهَا جَمِيعُ الحَلَالِ وَالحَرَامِ حَتَّى أَرْشُ الخَدْشِ»20.

وهذا التراث العلمي كان ينتقل من أئمة أهل البيت عليهم السلام من كابر لكابر، ووجوده عند واحد من أبناء الإمام الراحل كان شاهداً على أنه وصيه. لذلك نقرأ في تاريخ الإمام الباقر عليه السلام أن والده الإمام السجاد عليه السلام التفت إلى ولده وهو في مرض الموت وهم يجتمعون عنده، ثم التفت إلى محمد بن علي ابنه، فقال:

«يَا مُحَمَّدُ! هَذَا الصُّنْدُوقُ اذْهَبْ بِهِ إِلَى بَيْتِكَ. قَالَ: أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، وَلَكِنْ كَانَ مَمْلُوءاً عِلْماً»21.

ونتساءل: كيف تجتمع أحكام الشريعة كلها في كتاب محدود طوله سبعون ذراعاً؟ لعل ذلك الكتاب كان محتوياً على أصول العلم ومعاقله وضيائه، حيث كان الأئمة عليهم السلام يستلهمون منها سائر أبواب العلم. كما علَّم النبي صلى الله عليه واله الإمام عليًّا عليه السلام أبواب العلم جميعاً بهذه الطريقة، حيث جاء في الحديث

المأثور عن الإمام الصادق عليه السلام:

«أَوْصَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه واله إِلَى عَلِيٍّ عليه السلام بِأَلْفِ كَلِمَةٍ يَفْتَحُ كُلُّ كَلِمَةٍ أَلْفَ كَلِمَةٍ»22.

وفي تعبير آخر جاء على لسان الإمام الباقر عليه السلام عن جده أمير المؤمنين أنه قال: «لَقَدْ عَلَّمَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه واله أَلْفَ بَابٍ يَفْتَحُ كُلُّ بَابٍ أَلْفَ بَاب»23.

وهكذا بيَّن الأئمة أن عندهم أصول العلم ومعاقله مما يظهر أنها هي التي في تراثهم من الرسول صلى الله عليه واله، فقد جاء في الحديث المأثور عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال: «إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه واله أَنَالَ فِي النَّاسِ وَأَنَالَ، وإنَّا أهل بيت عِنْدَنَا عُرَى الْعِلْمِ وَأَبْوَابُ الحُكْمِ وَمَعَاقِلُ الْعِلْمِ وَضِيَاءُ الْأَمْر ..»24.

وفي حديث مأثور عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: «إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه واله قَدْ أَنَالَ فِي النَّاسِ وَأَنَالَ وَأَنَالَ،- يُشِيرُ كَذَا وَكَذَا-، وَعِنْدَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ أُصُولُ الْعِلْمِ وَعُرَاهُ وَضِيَاؤُهُ وَأَوَاخِيهِ»25.

علم الإلهام:

إذا كان العلم نور الله يقذفه في قلب من يشاء فما الذي يمنع عن قذف نور العلم في قلب أوليائه؟! هكذا كان من مصادر علم الأئمة عليهم السلام الإلهام، والذي ترافقه سكينة تجعلهم يثقون بأنه من عند الله.

كذلك روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: «إِنَّ عِلْمَنَا غَابِرٌ وَمَزْبُورٌ وَنَكْتٌ فِي الْقُلُوبِ وَنَقْرٌ فِي الْأَسْمَاعِ. فَقَالَ: أَمَّا الْغَابِرُ فَمَا تَقَدَّمَ مِنْ عِلْمِنَا، وَأَمَّا المَزْبُورُ فَمَا يَأْتِينَا، وَأَمَّا النَّكْتُ فِي الْقُلُوبِ فَإِلهَامٌ، وَأَمَّا النَّقْرُ فِي الْأَسْمَاعِ فَأَمْرُ المَلَك»26.

وروى زرارة مثل هذا الحديث وأضاف: «قُلْتُ: كَيْفَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ المَلَكَ وَلَا يَخَافُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الشَّيْطَانِ إِذَا كَانَ لَا يَرَى الشَّخْصَ قَالَ: «إِنَّهُ يُلْقَى عَلَيْهِ السَّكِينَةُ فَيَعْلَمُ أَنَّهُ مِنَ المَلَكِ، وَلَوْ كَانَ مِنَ الشَّيْطَانِ اعْتَرَاهُ فَزَعٌ، وَإِنْ كَانَ الشَّيْطَانُ- يَا زُرَارَةُ- لَا يَتَعَرَّضُ لِصَاحِبِ هَذَا الْأَمْر» 27.

وعلم الإمام الباقر عليه السلام- كما سائر أئمة الهدى عليهم السلام- انبعث من هذه الروافد، فلم يكن غريباً، ما أظهر الله على لسانه من معارف الدين. حتى قال الشيخ المفيدJ : «لم يظهر عن أحد من ولد الحسن والحسين عليهما السلام من علم الدين والآثار والسنّة وعلم القرآن وسيرة وفنون الآداب ما ظهر عنه» 28.

من هنا ترى عظماء الفقه والحديث يعترفون بالمصدر الإلهي لعلمه الغزير، فقد جاء في كشف الغمة عن الحافظ عبد العزيز بن الأخضر الجنابذي في كتابه (معالم العترة الطاهرة) عن الحكم بن عتيبة (وكان من كبار فقهاء عصره) أنه قال في تفسير قوله تعالى:﴿ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ﴾ 29.

قال: كان والله محمد بن علي منهم»30.

وحُكي عن أبي نعيم في كتابه الحلية أنه:

«سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَلَمْ يَدْرِ بِمَا يُجِيبُهُ، فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ الْغُلَامِ فَسَلْهُ وَأَعْلِمْنِي بِمَا يُجِيبُكَ، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ، فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ فَأَجَابَهُ، فَرَجَعَ إِلَى ابْنِ عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّهُمْ أَهْلُ بَيْتٍ مُفَهَّمُونَ»31.

والتعبير بكلمة (مفهمون) كان شائعاً في ذلك العصر، وكان يعني أنهم مؤيدون من عند الله يُلقي عليهم الرب علماً بالإلهام.

ولذلك ترى من العلماء من يقصدونه من كل أفق بحثاً عن علمه الإلهي حتى روي

عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَطَاءٍ المَكِّيِّ قَالَ: «مَا رَأَيْتُ الْعُلَمَاءَ عِنْدَ أَحَدٍ قَطُّ أَصْغَرَ مِنْهُمْ عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عليه السلام، وَلَقَدْ رَأَيْتُ الْحَكَمَ بْنَ عُتَيْبَةَ مَعَ جَلَالَتِهِ فِي الْقَوْمِ بَيْنَ يَدَيْهِ كَأَنَّهُ صَبِيٌّ بَيْنَ يَدِي مُعَلِّمِه»32.

وقد روى عنه محمد بن سلم ذلك الفقيه المتبحر ثلاثين ألف حديث، أما جابر الجعفي فقد قال:

«حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام سَبْعِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ لَمْ أُحَدِّثْ بِهَا أَحَداً أَبَداً»33.

ولأن الظروف السياسية كانت تتسم ببعض الانفراج فلقد تسنَّى للإمام أن يحاجج الكثير من المخالفين له ويعيدهم إلى جادة الصواب، والتاريخ يسجل لنا بعض تلك الاحتجاجات، وننقل شيئاً منها لتكون شاهدة على ما وراءها من الحجج البالغة.

1- لقد كان عبد الله بن نافع بن الأزرق واحداً من قادة الخوارج الذين كانوا أشد الفرق عداءً للإمام علي عليه السلام وأهل بيته عليهم السلام، وكان يقول:

«لَوْ أَنِّي عَلِمْتُ أَنَّ بَيْنَ قُطْرَيْهَا أَحَداً تُبْلِغُنِي إِلَيْهِ المَطَايَا يَخْصِمُنِي أَنَ عَلِيًّا عليه السلام قَتَلَ أَهْلَ النَّهْرَوَانِ وَهُوَ لَهُمْ غَيْرُ ظَالِمٍ لَرَحَلْتُ إِلَيْهِ.

فَقِيلَ لَهُ: وَلَا وَلَدَهُ.

فَقَالَ: أَفِي وُلْدِهِ عَالِمٌ؟

فَقِيلَ لَهُ: هَذَا أَوَّلُ جَهْلِكَ. وَهُمْ يَخْلُونَ مِنْ عَالِمٍ؟!

فقَالَ: فَمَنْ عَالِمُهُمُ الْيَوْم؟

قِيلَ: مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِبْنِ عَلِيٍّ عليه السلام.

قَالَ: فَرَحَلَ إِلَيْهِ فِي صَنَادِيدِ أَصْحَابِهِ حَتَّى أَتَى المَدِينَةَ فَاسْتَأْذَنَ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام

فَقِيلَ لَهُ: هَذَا عَبْدُاللهِ بْنُ نَافِعٍ.

فَقَالَ: وَمَا يَصْنَعُ بِي وَهُوَيَبْرَأُ مِنِّي وَمِنْ أَبِي طَرَفَيِ النَّهَار؟!

فَقَالَ لَهُ أَبُو بَصِيرٍ الْكُوفِيُّ: جُعِلْتُ فِدَاكَ! إِنَّ هَذَا يَزْعُمُ أَنَّهُ لَوْ عَلِمَ أَنَّ بَيْنَ قُطْرَيْهَا أَحَداً تُبْلِغُهُ المَطَايَا إِلَيْهِ يَخْصِمُهُ أَنَّ عَلِيًّا عليه السلام قَتَلَ أَهْلَ النَّهْرَوَانِ وَهُوَ لَهُمْ غَيْرُ ظَالِمٍ لَرَحَلَ إِلَيْهِ.

فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام: أَتَرَاهُ جَاءَنِي مُنَاظِراً؟

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: يَا غُلَامُ! اخْرُجْ فَحُطَّ رَحْلَهُ وَقُلْ لَهُ: إِذَا كَانَ الْغَدُ فَأْتِنَا.

قَالَ: فَلَمَّا أَصْبَحَ عَبْدُاللهِ بْنُ نَافِعٍ غَدَا فِي صَنَادِيدِ أَصْحَابِهِ، وَبَعَثَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام إِلَى جَمِيعِ أَبْنَاءِ المُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَجَمَعَهُمْ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى النَّاسِ فِي ثَوْبَيْنِ مُمَغَّرَيْنِ، وَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ كَأَنَّهُ فِلْقَةُ قَمَرٍ، فَقَالَ:
«الحَمْدُ لِلَّهِ مُحَيِّثِ الحَيْثِ وَمُكَيِّفِ الْكَيْفِ وَمُؤَيِّنِ الْأَيْنِ. الحَمْدُ للهِ الَّذِي

لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ

إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً صلى الله عليه واله عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَكْرَمَنَا بِنُبُوَّتِهِ، وَاخْتَصَّنَا بِوَلَايَتِهِ. يَا مَعْشَرَ أَبْنَاءِ المُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ! مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَنْقَبَةٌ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَلْيَقُمْ وَلْيَتَحَدَّثْ».

قَالَ: فَقَامَ النَّاسُ فَسَرَدُوا تِلْكَ المَنَاقِبَ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: أَنَا أَرْوَى لِهَذِهِ المَنَاقِبِ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَإِنَّمَا أَحْدَثَ عَلِيٌّ الْكُفْرَ بَعْدَ تَحْكِيمِهِ الْحَكَمَيْنِ، حَتَّى انْتَهَوْا فِي المَنَاقِبِ إِلَى حَدِيثِ خَيْبَرَ: «لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَداً رَجُلًا يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، كَرَّاراً غَيْرَ فَرَّارٍ، حتى لَا يَرْجِعُ [حَتَّى] يَفْتَحَ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ».

فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ؟

فَقَال: هُوَ حَقٌّ لَا شَكَّ فِيهِ وَلَكِنْ أَحْدَثَ الْكُفْرَ بَعْدُ.

فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ أَخْبِرْنِي عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: أَحَبَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَوْمَ أَحَبَّهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقْتُلُ أَهْلَ النَّهْرَوَانِ أَمْ لَمْ يَعْلَمْ؟ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: لَا، كَفَرْتَ. قَالَ: فَقَالَ: قَدْ عَلِمَ، قَالَ: فَأَحَبَّهُ اللهُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ بِطَاعَتِهِ أَوْ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ بِمَعْصِيَتِهِ؟ فَقَالَ: عَلَى أَنْ يَعْمَلَ بِطَاعَتِهِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام: فَقُمْ مَخْصُوماً.

فَقَامَ وَهُوَيَقُولُ: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ، اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ»34.

2- وكان قتادة من أبرز فقهاء البصرة ولكنه كان يتشوق إلى رؤية الإمام الباقر عليه السلام ومناظرته، حيث كانت المدينة المنورة حاضرة الفقه والتفسير وسائر المعارف الإلهية، ولذلك فقد انتشر علم الإمام إلى كل الآفاق.

من هنا جاء قتادة إلى المدينة يسأل عن الإمام فلما رآه قال له الإمام:

«أَنْتَ فَقِيهُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ؟ قَالَ نَعَمْ، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام: وَيْحَكَ يَا قَتَادَةُ! إِنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ خَلْقاً مِنْ خَلْقِهِ فَجَعَلَهُمْ حُجَجاً عَلَى خَلْقِهِ، وَهُمْ أَوْتَادٌ فِي أَرْضِهِ، قُوَّامٌ بِأَمْرِهِ، نُجَبَاءُ فِي عِلْمِهِ، اصْطَفَاهُمْ قَبْلَ خَلْقِهِ أَظِلَّةً عَنْ يَمِينِ عَرْشِهِ.

قَالَ: فَسَكَتَ قَتَادَةُ طَوِيلًا ثُمَّ قَالَ: أَصْلَحَكَ اللهُ وَاللهِ لَقَدْ جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيِ الْفُقَهَاءِ وَقُدَّامَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَمَا اضْطَرَبَ قَلْبِي قُدَّامَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا اضْطَرَبَ قُدَّامَكَ.

فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام: أَتَدْرِي أَيْنَ أَنْتَ؟ بَيْنَ يَدَيْ

﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ... 14

فَأَنْتَ ثَمَّ، وَنَحْنُ أُولَئِكَ.

فَقَالَ قَتَادَةُ: صَدَقْتَ وَاللهِ، جَعَلَنِيَ اللهُ فِدَاكَ، وَاللهِ مَا هِيَ بُيُوتَ حِجَارَةٍ وَلَا طِينٍ.

قَالَ قَتَادَةُ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْجُبُنِّ.

فَتَبَسَّمَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام وَقَالَ: رَجَعَتْ مَسَائِلُكَ إِلَى هَذَا.

قَالَ: ضَلَّتْ عَنِّي.
فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ.

فَقَالَ: إِنَّهُ رُبَّمَا جُعِلَتْ فِيهِ إِنْفَحَةُ المَيِّتِ.

قَالَ: لَيْسَ بِهَا بَأْسٌ، إِنَّ الْإِنْفَحَةَ لَيْسَتْ لَهَا عُرُوقٌ وَلَا فِيهَا دَمٌ وَلَا لَهَا عَظْمٌ إِنَّمَا تَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ.

ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّمَا الْإِنْفَحَةُ بِمَنْزِلَةِ دَجَاجَةٍ مَيْتَةٍ خَرَجَتْ مِنْهَا بَيْضَةٌ فَهَلْ تَأْكُلُ تِلْكَ الْبَيْضَةَ؟

فَقَالَ قَتَادَةُ: لَا، وَلَا آمُرُ بِأَكْلِهَا.

فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام: وَلِمَ؟

قَالَ: لِأَنَّهَا مِنَ المَيْتَةِ.

قَالَ لَهُ: فَإِنْ حُضِنَتْ تِلْكَ الْبَيْضَةُ فَخَرَجَتْ مِنْهَا دَجَاجَةٌ أَتَأْكُلُهَا؟

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: فَمَا حَرَّمَ عَلَيْكَ الْبَيْضَةَ وَأَحَلَّ لَكَ الدَّجَاجَةَ.

ثُمَّ قَالَ: فَكَذَلِكَ الْإِنْفَحَةُ مِثْلُ الْبَيْضَةِ، فَاشْتَرِ الجُبُنَّ مِنْ أَسْوَاقِ المُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِي المُصَلِّينَ وَلَا تَسْأَلْ عَنْهُ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَكَ مَنْ يُخْبِرُكَ عَنْه»34.

3- وقد بَثَّ الإمام من علمه بين الناس حتى سُمِّي باقراً، فقد جاء في لسان العرب: تَبَقَّرَ في العلم: تَوَسَّعَ، ومنه سُمِّي أبو جعفر الباقر عليه السلام لأنه بقر العلم وشقه وفتحه 35.

وقال ابن حجر في صواعقه المحرقة: سُمِّي بذلك مَنْ بَقَرَ الأرض أي شَقَّهَا وأَثَارَ مُخبَّآتها ومكامنها، فكذلك هو أظهرَ من مخبات كنوز المعارف، وحقائق الأحكام والحكم واللطائف؛ ما لا يخفى إلَّا على منطمس البصيرة أو فاسد الطوية والسريرة، ومن ثم قيل فيه: هو باقر العلم وجامعه وشاهر علمه ورافعه 36.

وقد أفاض الإمام على المسلمين من علمه عبر تربيته لطائفة عظيمة من الفقهاء والمفسرين وحكماء المعارف الإلهية، من أمثال جابربن يزيد الجعفي، ومحمد بن مسلم، وأبان بن تغلب، ومحمد بن إسماعيل بن بزيع، وأبو بصير الأسدي، والفضيل بن يسار وآخرين.

كما أنه نشر العلم عبر من روى عنه من علماء عصره من أمثال: ابن المبارك، والزهري، والأوزاعي، وأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وزياد بن المنذر النهدي. ومن المصنفين: الطبري، والبلاذري، والسلامي، والخطيب وغيرهم 37.

وكان الولاة يجأرون إلى أهل بيت الرحمة كلما دهمتهم داهمة، وبالرغم من الصراع الحاد القائم بين الطرفين لم يدّخر الأئمة عليهم السلام وسعاً في خدمة الإسلام وإنقاذ الأمة من الأخطار المحيطة بها.

من ذلك ما ينقل لنا التاريخ من ورطة وقع فيها الخليفة الأموي عبد الملك حسبما ذكره إبراهيم بن محمد البيهقي في كتابه المحاسن والمساوئ، حيث نقل عن الكسائي أنه قال:

«دخلت على الرشيد ذات يوم وهو في إيوانه وبين يديه مال كثير قد تشق عنه البِدَرُ شقًّا، وأمر بتفريقه في خدم الخاصة وبيده درهم تلوح كتابته وهو يتأمله، وكان كثيراً ما يحدثني، فقال: هل علمت أول من سَنَّ هذه الكتابة في الذهب والفضة؟

قلت: يا سيدي! هو عبد الملكبن مروان!

قال: فما كان السبب في ذلك؟

قلت: لا علم لي غير أنه أول من أحدث هذه الكتابة!

فقال: سأخبرك: كانت القراطيس للروم وكان أكثر من بمصر نصرانيًّا على دين ملك الروم وكانت تطرز بالرومية، وكان طرازها أباً وابناً وروحاً قديساً، فلم يزل ذلك كذلك وصدر الإسلام كله يمضي على ما كان عليه إلى أن ملك عبد الملك فتنبه له وكان فطناً، فبينا هو ذات يوم إذ مر به قرطاس فنظر إلى طرازه فأمر أن يُترجم إلى العربية ففعل ذلك، فأنكره وقال: ما أغلظ هذا في الدين والإسلام، أن يكون طراز القراطيس بمصر وهي تحمل في الأواني والثياب، فتدور في الآفاق والبلاد وقد طُرِّزَتْ بشرك مثبت عليها، فأمر بالكتاب إلى عبد العزيز بن مروان وكان عامله بمصر بإبطال ذلك الطراز على ما كان يطرز به من ثوب وقرطاس وستر وغير ذلك، وأن يأمر صُنّاع القراطيس بأن يطرزوها بسورة التوحيد و ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ... 38، وهذا طراز القراطيس خاصة إلى هذا الوقت لم ينقص ولم يزد ولم يتغير، وكتب إلى عمال الآفاق جميعاً بإبطال ما في أعمالهم من القراطيس المطرزة بطراز الروم ومعاقبة من وُجِدَ عنده بعد هذا النهي شيء منها بالضرب الوجيع والحبس الطويل، فلما أثبتت القراطيس بالطراز المحدث بالتوحيد وحملت إلى بلاد الروم، انتشر خبرها ووصل إلى ملكهم، فترجم له ذلك الطراز فأنكره وغلظ عليه واستشاط غضباً فكتب إلى عبد الملك: إنَّ عمل القراطيس بمصر وسائر ما يطرز هناك للروم، ولم يزل يطرز بطراز الروم إلى أن أبطلته، فإن كان من تقدمَك من الخلفاء قد أصاب فقد أخطأت، وإن كنت قد أصبت فقد أخطؤوا، فاختر من هاتين الحالتين أيهما شئت وأحببت، وقد بعثت إليك بهدية تشبه محلك وأحببت أن تجعل رد ذلك الطراز إلى ما كان عليه في جميع ما كان يطرز من أصناف الأعلاق، حاجة أشكرك عليها وتأمر بقبض الهدية وكانت عظيمة القدر، فلما قرأ عبد الملك كتابه رد الرسول وأعلمه أن لا جواب له ولم يقبل الهدية، فانصرف بها إلى صاحبه فلما وافاه أضعف الهدية ورد الرسول إلى عبد الملك وقال: إني ظننتك استقللت الهدية فلم تقبلها ولم تجبني عن كتابي، فأضعفت لك الهدية وأنا أرغب إليك في مثل ما رغبت فيه من رد هذا الطراز إلى ما كان عليه أولًا، فقرأ عبدالملك الكتاب ولم يجبه ورد الهدية، فكتب إليه ملك الروم يقتضي أجوبة كتبه ويقول: إنك قد استخففت بجوابي وهديتي ولم تُسعفني بحاجتي فتوهمتك استقللت الهدية فأضعفتها فجريت على سبيلك الأول وقد أضعفتها ثالثة، وأنا أحلف بالمسيح لتأمرن برد الطراز إلى ما كان عليه أو لآمرن بنقش الدنانير والدراهم، فإنك تعلم أنه لا ينقش شيء منها إلَّا ما يُنقش في بلادي، ولم تكن الدراهم والدنانير نقشت في الإسلام فينقش عليها من شتم نبيك ما إذا قرأته ارْفَضَّ جبينك له عرقاً، فأُحبُّ أن تقبل هديتي، وترد الطراز إلى ما كان عليه، وتجعل ذلك هدية بررتني بها وتبقى على الحال بيني وبينك، فلما قرأ عبد الملك الكتاب غلظ عليه وضاقت به الأرض، وقال: أحسبني أشأم مولود ولد في الإسلام لأني جنيت على رسول الله صلى الله عليه واله من شتم هذا الكافر ما يبقى غابراً ولا يمكن محوه من جميع مملكة العرب، إذ كانت المعاملات تدور بين الناس بدنانير الروم ودراهمهم، فجمع أهل الإسلام واستشارهم فلم يجد عند أحد منهم رأياً يعمل به.

فقال له روح بن زنباع: إنك لتعلم الرأي والمخرج من هذا الأمر ولكنك تتعمد تركه.

قال: ويحك! من؟

قال: الباقر من أهل بيت النبي صلى الله عليه واله.

قال: صدقت ولكن أُرتج عليّ الرأي فيه، فكتب إلى عامله بالمدينة أن أَشْخص إليَّ محمد بن علي بن الحسين مكَرَّماً ومتّعه بمائتي ألف درهم لجهازه وبثلاثمائة ألف درهم لنفقته، وأزح علته في جهازه من يخرج معه من أصحابه، واحتبس الرسول قبله إلى موافاته عليه، فلما وافى أخبره الخبر، فقال له الباقر عليه السلام:

«لَا يَعْظُمُ هَذَا عَلَيْكَ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ مِنْ جِهَتَيْن:

إِحْدَاهُمَا: أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَكُنْ لِيُطْلِقَ مَا يُهَدِّدُ بِهِ صَاحِبُ الرُّومِ فِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه واله.

وَالْأُخْرَى: وُجُودُ الْحِيلَةِ فيه».

فَقَالَ: وَمَا هِيَ؟
قَالَ عليه السلام: «تَدْعُو هَذِهِ السَّاعَةَ بِصُنَّاعٍ فَيَضْرِبُونَ بَيْنَ يَدَيْكَ سِكَكاً لِلدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَتَجْعَلُ النَّقْشَ عَلَيْهَا سُورَةَ التَّوْحِيدِ وَذِكْرَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه واله أَحَدَهُمَا فِي وَجْهِ الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ وَالْآخَرَ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي، وَتَجْعَلُ فِي مَدَارِ الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ ذِكْرَ الْبَلَدِ الَّذِي يُضْرَبُ فِيهِ وَالسَّنَةِ الَّتِي يُضْرَبُ فِيهَا تِلْكَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ، وَتَعْمِدُ إِلَى وَزْنِ ثَلَاثِينَ دِرْهَماً عَدَداً مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي الْعَشَرَةُ مِنْهَا وَزْنُ عَشَرَةِ مَثَاقِيلَ، وَعَشَرَةٌ مِنْهَا وَزْنُ سِتَّةِ مَثَاقِيلَ، وَعَشَرَةٌ مِنْهَا وَزْنُ خَمْسَةِ مَثَاقِيلَ، فَتَكُونُ أَوْزَانُهَا جَمِيعاً وَاحِداً وَعِشْرِينَ مِثْقَالًا فَتُجَزِّئُهَا مِنَ الثَّلَاثِينَ فَتَصِيرُ الْعِدَّةُ مِنَ الجَمِيعِ وَزْنَ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ، وَتَصُبُّ صَنَجَاتٍ مِنْ قَوَارِيرَ لَا يَسْتَحِيلُ إِلَى زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، فَتُضْرَبُ الدَّرَاهِمُ عَلَى وَزْنِ عَشَرَةٍ وَالدَّنَانِيرُ عَلَى وَزْنِ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ، وَكَانَتِ الدَّرَاهِمُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِنَّمَا هِيَ الْكَسْرَوِيَّةُ الَّتِي يُقَالُ لَهَا الْيَوْمَ بَغْلِيَّةٌ لِأَنَّ رَأْسَ الْبَغْلِ ضَرَبَهَا لِعُمَرَ بِسِكَّةٍ كَسْرَوِيَّةٍ فِي الْإِسْلَامِ، مَكْتُوبٍ عَلَيْهَا صُورَةُ المَلِكِ وَتَحْتَ الْكُرْسِيِّ مَكْتُوبٌ بِالْفَارِسِيَّةِ: نُوشْ خُورْ، أَيْ كُلْ هَنِيئاً. وَكَانَ وَزْنُ الدِّرْهَمِ مِنْهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ مِثْقَالًا، وَالدَّرَاهِمُ الَّتِي كَانَ وَزْنُ الْعَشَرَةِ مِنْهَا سِتَّةَ مَثَاقِيلَ هِيَ السُّمْرِيَّةُ الْخِفَافُ وَنَقْشُهَا نَقْشُ فَارِسَ».

ففعل عبد الملك ذلك وأمره محمد بن علي بن الحسين أن يكتب السكك في جميع بلدان الإسلام، وأن يتقدم إلى الناس في التعامل بها، وأن يتهدد بقتل من يتعامل بغير هذه السكك من الدراهم والدنانير وغيرها، وأن تبطل وترد إلى مواضع العمل حتى تعاد إلى السكك الإسلامية، ففعل عبد الملك ذلك، ورد رسول ملك الروم إليه يُعلمه بذلك، ويقول: إن الله عزّ وجلّ مانعك مما قدرت أن تفعله، وقد أقدمت إلى عمالي في أقطار البلاد بكذا وكذا وبإبطال السكك والطراز الرومية، فقيل لملك الروم: افعل ما كنت تهددت به ملك العرب، فقال: إنما أردت أن أغيظه بما كتبت إليه؛ لأني كنت قادراً عليه والمال وغيره برسوم الروم، فأما الآن فلا أفعل؛ لأن ذلك لا يتعامل به أهل الإسلام وممتنع من الذي قال. وثبت ما أشار به محمد بن علي بن الحسين إلى اليوم. ثم رمى، يعني الرشيد، بالدرهم إلى بعض الخدم»39.

إن العلم الإلهي الذي حباه به الرب بما أخلص له في الطاعة، واجتهد في سبيله بالدعاء والعمل، إنه كان وراء إرشاده إلى السبيل الأفضل لمواجهة تهديد ملك الروم.

وهذا العلم كان يُميِّز الإمام الحق مِمَّنْ ادَّعوا هذا المقام بغير حق، سواء الولاة الظالمون أو العلويون الذين نازعوا الأئمة حقهم.

وهكذا نجد في تاريخ أهل البيت عليهم السلام كيف كان يقول شيعتهم عليهم بما لديهم من علم الدين والعلم بالحقائق الخفية بإذن الله، وبالتوسم بنور الله وبتأييد ملائكة الله.

وفيما يلي ننقل بعض الأحاديث التي تزيدنا معرفة بمقام الإمامة عموماً، وبدرجات الإمام الباقر عليه السلام بالذات.

فقد روى الحلبي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال:

«دَخَلَ النَّاسُ عَلَى أَبِي (الإمام الباقر) قَالُوا: مَا حَدُّ الْإِمَامِ؟ قَالَ: حَدُّهُ عَظِيمٌ، إِذَا دَخَلْتُمْ عَلَيْهِ فَوَقِّرُوهُ وَعَظِّمُوهُ وَآمِنُوا بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَهْدِيَكُمْ. وَفِيهِ خَصْلَةٌ إِذَا دَخَلْتُمْ عَلَيْهِ لَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يَمْلَأَ عَيْنَهُ مِنْهُ إِجْلَالًا وَهَيْبَةً؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه واله كَذَلِكَ كَانَ وَكَذَلِكَ يَكُونُ الْإِمَامُ.

قَالَ: فَيَعْرِفُ شِيعَتَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ سَاعَةَ يَرَاهُمْ. قَالُوا: فَنَحْنُ لَكَ شِيعَةٌ، قَال: نَعَمْ كُلُّكُمْ؟ قَالُوا: أَخْبِرْنَا بِعَلَامَةِ ذَلِكَ، قَالَ: أُخْبِرُكُمْ بِأَسْمَائِكُمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِكُمْ وَقَبَائِلِكُمْ، قَالُوا: أَخْبِرْنَا، فَأَخْبَرَهُمْ، قَالُوا: صَدَقْتَ. قَالَ: وَأُخْبِرُكُمْ عَمَّا أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْأَلُوا عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

﴿ ... كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ 40

نَحْنُ نُعْطِي شِيعَتَنَا مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِلْمِنَا. ثُمَّ قَالَ: يُقْنِعُكُمْ؟ قَالُوا: فِي دُونِ هَذَا نَقْنَع» 41.

وينقل عبد الله بن معاوية الجعفري قصته مع والي المدينة، الذي بعث عبره برسالة تهديد إلى الإمام الباقر عليه السلام، فلم يأبه بها الإمام لأن الله أطلعه على أنه معزول قريباً، يقول:

«سَأُحَدِّثُكُمْ بِمَا سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَرَأَتْهُ عَيْنَايَ مِنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام: أَنَّهُ كَانَ عَلَى المَدِينَةِ رَجُلٌ مِنْ آلِ مَرْوَانَ، وَأَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَيَّ يَوْماً فَأَتَيْتُهُ وَمَا عِنْدَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ فَقَالَ: يَا مُعَاوِيَةُ! إِنَّمَا دَعْوَتُكَ لِثِقَتِي بِكَ وَإِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ لَا يُبْلِغُ عَنِّي غَيْرُكَ، فأجبت [فَأَحْبَبْتُ] أَنْ تَلْقَى عَمَّيْكَ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ وَزَيْدَ بْنَ الْحَسَنِ عليهما السلام وَتَقُولَ لَهُمَا: يَقُولُ لَكُمَا الْأَمِيرُ: لَتَكُفُّانِ عَمَّا يَبْلُغُنِي عَنْكُمَا أَوْ لَتُنْكَرَانِ. فَخَرَجْتُ مُتَوَجِّهاً إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ فَاسْتَقْبَلْتُهُ مُتَوَجِّهاً إِلَى المَسْجِدِ، فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْهُ تَبَسَّمَ ضَاحِكاً فَقَالَ: بَعَثَ إِلَيْكَ هَذَا الطَّاغِيَةُ وَدَعَاكَ وَقَالَ: الْقَ عَمَّيْكَ فَقُلْ لَهُمَا كَذَا.

فَقَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو جَعْفَرٍ بِمَقَالَتِهِ كَأَنَّهُ كَانَ حَاضِراً، ثُمَّ قَالَ: يَا بْنَ عَمِّ! قَدْ كُفِينَا أَمْرَهُ بَعْدَ غَدٍ فَإِنَّهُ مَعْزُولٌ وَمَنْفِيٌّ إِلَى بِلَادِ مِصْرَ، وَاللهِ مَا أَنَا بِسَاحِرٍ وَلَا كَاهِنٍ وَلَكِنِّي أُتِيتُ وَحُدِّثْتُ.

قَالَ: فَوَاللهِ مَا أَتَى عَلَيْهِ الْيَوْمُ الثَّانِي حَتَّى وَرَدَ عَلَيْهِ عَزْلُهُ وَنَفْيُهُ إِلَى مِصْرَ وَوَلِيَ المَدِينَةَ غَيْرُه»42.

أما أبو بصير الذي كان من خواص الإمام فإنه يروي قصته مع الإمام وكيف كان عليه السلام يراقبه ويؤدبه، يقول:

«كُنْتُ أُقْرِئُ امْرَأَةً الْقُرْآنَ بِالْكُوفَةِ فَمَازَحْتُهَا بِشَيْءٍ، فَلَمَّا دَخَلْتُ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام عَاتَبَنِي وَقَالَ: مَنِ ارْتَكَبَ الذَّنْبَ فِي الْخَلَاءِ لَمْ يَعْبَأِ اللهُ بِهِ، أَيَّ شَيْءٍ قُلْتَ لِلْمَرْأَةِ؟ فَغَطَّيْتُ وَجْهِي حَيَاءً وَتُبْتُ، فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام: لَا تَعُد»43.

ويروي أبو بصير أيضاً كيف أخبر الإمام عن ملك بني العباس قبل سنين من توليهم السلطة فيقول:

«كُنْتُ مَعَ الْبَاقِرِ عليه السلام فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه واله قَاعِداً حِدْثَانَ مَا مَاتَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليه السلام إِذْ دَخَلَ الدَّوَانِيقِيُّ وَدَاوُدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَبْلَ أَنْ أُفْضِيَ المُلْكُ إِلَى وُلْدِ الْعَبَّاسِ وَمَا قَعَدَ إِلَى الْبَاقِرِ إِلَّا دَاوُدُ، فَقَالَ الْبَاقِرُ عليه السلام: مَا مَنَعَ الدَّوَانِيقِيَّ أَنْ يَأْتِيَ؟

قَال: فِيهِ جَفَاءٌ.

قَالَ الْبَاقِرُ عليه السلام: لَا تَذْهَبُ الْأَيَّامُ حَتَّى يَليَ أَمْرَ هَذَا الْخَلْقِ وَيَطَأَ أَعْنَاقَ الرِّجَالِ وَيَمْلِكَ شَرْقَهَا وَغَرْبَهَا وَيَطُولُ عُمُرُهُ فِيهَا حَتَّى يَجْمَعَ مِنْ كُنُوزِ الْأَمْوَالِ مَا لَمْ يَجْتَمِعْ لِأَحَدٍ قَبْلَهُ.

فَقَامَ دَاوُدُ وَأَخْبَرَ الدَّوَانِيقِيَّ بِذَلِكَ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ الدَّوَانِيقِيُّ وَقَالَ: مَا مَنَعَنِي مِنَ الْجُلُوسِ إِلَيْكَ إِلَّا إِجْلَالُكَ، فَمَا الَّذِي خَبَّرَنِي بِهِ دَاوُدُ؟

فَقَالَ: هُوَ كَائِنٌ.

قَالَ: وَمُلْكُنَا قَبْلَ مُلْكِكُمْ؟

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: يَمْلِكُ بَعْدِي أَحَدٌ مِنْ وُلْدِي؟

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: فَمُدَّةُ بَنِي أُمَيَّةَ أَكْثَرُ أَمْ مُدَّتُنَا؟

قَالَ: مُدَّتُكُمْ أَطْوَلُ، وَلَيَتَلَقَّفَنَّ هَذَا المُلْكَ صِبْيَانُكُمْ وَيَلْعَبُونَ بِهِ كَمَا يَلْعَبُونَ بِالْكُرَةِ. هَذَا مَا عَهِدَهُ إِلَيَّ أَبِي.

فَلَمَّا مَلِكَ الدَّوَانِيقِيُّ تَعَجَّبَ مِنْ قَوْلِ الْبَاقِر عليه السلام»44.

خصال الإمام:

لا يختار الله عبداً لمقام الإمامة. ويجعله حجة بالغة على خلقه إلَّا إذا اكتملت فيه الخصال الجيدة، وكان مثلًا لما أقر به سبحانه في كتابه من خشية الله وتوقيره، وتعظيمه وتجليله، وإخلاص العبودية له، والتي تتجلى في جملة أقواله وأفعاله، فلا يقول إلَّا صواباً ولا يعمل إلَّا رشداً.

وإذا كنا ننقل بعض خصال الإمام الباقر عليه السلام الحميدة، أو خصال أحد المعصومين عليهم السلام، فلكي نأتي بالشواهد الواضحة التي تدلنا على أمثالها، وليس لأننا نريد أن تُختصر كل حياة الإمام فيها، أو أن نُحصي فضائله وخصاله الحميدة، كلا ..

لأننا نعرف سلفاً أن حياتهم كانت صورة واقعية عن القرآن الكريم، بيد أن ما بلغنا منها لم يكن مستوعباً لجوانب حياتهم، لأن جانباً منها انبهر به المؤرخون فأكثروا فيه الحديث واكتفوا بقياس سائر الجوانب عليه، فمثلًا ذكروا من حياة الإمام السجاد جانب العبادة، ولم يتحدثوا كثيراً عن جانب العلم، في حين عكسوا الأمر فيما يتصل بحياة الإمام الباقر عليه السلام.

وهكذا نكتفي ببعض الإشراقات التي وصلت إلينا من حياة الإمام ونترك للقارئ أن يقيس سائر أبعاد حياته عليها.

قال ابن شهراشوب في المناقب:

«كَانَ أَصْدَقَ النَّاسِ لَهْجَةً وَأَحْسَنَهُمْ بَهْجَةً وَأَبْذَلَهُمْ مُهْجَةً، وَكَانَ أَقَلَّ أَهْلِ بَيْتِهِ مَالًا وَأَعْظَمَهُمْ مَؤُونَةً.

قَالَ: وَكَانَ يَتَصَدَّقُ كُلَّ جُمُعَةٍ بِدِينَارٍ. وَكَانَ يَقُولُ: الصَّدَقَةُ يَوْمَ الجُمُعَةِ تُضَاعَفُ لِفَضْلِ يَوْمِ الجُمُعَةِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَيَّامِ. وَكَانَ إِذَا أَحْزَنَهُ أَمْرٌ جَمَعَ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ ثُمَّ دَعَا وَأَمَّنُوا، وَكَانَ كَثِيرَ الذِّكْرِ، كان يمشي وَإِنَّهُ لَيَذْكُرُ الله ويأكل الطَّعَامَ وَإِنَّهُ لَيَذْكُرُ الله، وَلَقَدْ كَانَ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ وَمَا يَشْغَلُهُ ذَلِكَ عَنْ ذِكْرِ الله، وَكَانَ يَجْمَعُ ولده فَيَأْمُرهُم بِالذِّكْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَيَأْمُرُ بِالْقِرَاءَةِ مَنْ كَانَ يَقْرَأُ مِنَّا، وَمَنْ كَانَ لَا يَقْرَأُ مِنَّا أَمَرَهُ بِالذِّكْر.

ويأتي قول المفيد: وكان ظاهر الجود في الخاصة والعامة مشهور الكرم في الكافة، معروفاً بالتفضل والإحسان مع كثرة عياله وتوسط حاله.

ويأتي عن سليمان بن دمدم:

أنه عليه السلام كَانَ يُجِيزُ بِالْخَمْسِمِائَةِ إِلَى السِّتِّمِائَةِ إِلَى الْأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَكَانَ لَا يَمَلُّ مِنْ صِلَةِ إِخْوَانِهِ وَقَاصِدِيهِ وَمُؤَمِّلِيهِ وَرَاجِيه، وَكَانَ إِذَا ضَحِكَ قَالَ: اللهُمَّ لَا تَمْقُتْنِي.

وقال الآبي في كتاب نثر الدرر: كان إذا رأى مبتلى أخفى
الاستعاذة، وَكَانَ لَا يُسْمَعُ مِنْ دَارِهِ يَا سَائِلُ بُورِكَ فِيكَ وَلَا يَا سَائِلُ خُذْ هَذَا، وَكَانَ يَقُولُ: سَمُّوهُمْ بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِم»45.

وحينما يذكر أبو نعيم في كتابه الحلية الإمام يصفه بهذا النعت:

«الْحَاضِرُ الذَّاكِرُ الْخَاشِعُ الصَّابِرُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَاقِر»46.

وكان من شدة خشوعه ما يذكره (أفلح) مولى أبي جعفر أنه قال:

«خَرَجْتُ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ حَاجًّا فَلَمَّا دَخَلَ المَسْجِدَ نَظَرَ إِلَى الْبَيْتِ فَبَكَى حَتَّى عَلَا صَوْتُهُ، فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي إِنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ فَلَوْ رَفَعْتَ بِصَوْتِكَ قَلِيلًا 47، فَقَالَ لِي: وَيْحَكَ يَا أَفْلَحُ! وَلِمَ لَا أَبْكِي لَعَلَّ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَنْظُرَ إِلَيَّ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ فَأَفُوزَ بِهَا عِنْدَهُ غَداً، قَالَ: ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ جَاءَ حَتَّى رَكَعَ عِنْدَ المَقَامِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ سُجُودِهِ فَإِذَا مَوْضِعُ سُجُودِهِ مُبْتَلٌّ مِنْ كَثْرَةِ دُمُوعِ عَيْنَيْهِ. وَكَانَ إِذَا ضَحِكَ قَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَمْقُتْنِي»48.

ويقول نجلُه الإمام الصادق عليه السلام وهو يصف تبتل والده إلى الله:

«كَانَ أَبِي كَثِيرَ الذِّكْرِ. لَقَدْ كُنْتُ أَمْشِي مَعَهُ وَإِنَّهُ لَيَذْكُرُ اللهَ، وَآكُلُ مَعَهُ الطَّعَامَ وَإِنَّهُ لَيَذْكُرُ اللهَ، وَلَوْ كَانَ يُحَدِّثُ لِقَوْمٍ مَا يَشْغَلُهُ ذَلِكَ عَنْ ذِكْرِ اللهِ، وَكُنْتُ أَرَى لِسَانَهُ لَاصِقاً بِحَنَكِهِ يَقُولُ:

لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ. وَكَانَ يَجْمَعُنَا فَيَأْمُرُنَا بِالذِّكْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَكَانَ يَأْمُرُ بِالْقِرَاءَةِ مَنْ كَانَ يَقْرَأُ مِنَّا، وَمَنْ كَانَ لَا يَقْرَأُ مِنَّا أَمَرَهُ بِالذِّكْر»49.

ويقول الإمام الصادق عليه السلام:

«إِنِّي كُنْتُ أُمَهِّدُ لِأَبِي فِرَاشَهُ فَأَنْتَظِرُهُ حَتَّى يَأْتِيَ فَإِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ وَنَامَ قُمْتُ إِلَى فِرَاشِي، وَإِنَّهُ أَبْطَأَ عَلَيَّ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَأَتَيْتُ المَسْجِدَ فِي طَلَبِهِ وَذَلِكَ بَعْدَمَا هَدَأَ النَّاسُ فَإِذَا هُوَ فِي المَسْجِدِ سَاجِدٌ وَلَيْسَ فِي المَسْجِدِ غَيْرُهُ، فَسَمِعْتُ حَنِينَهُ وَهُوَ يَقُولُ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي حَقًّا حَقًّا، سَجَدْتُ لَكَ يَا رَبِّ تَعَبُّداً وَرِقًّا، اللَّهُمَّ إِنَّ عَمَلِي ضَعِيفٌ فَضَاعِفْهُ لِي، اللَّهُمَّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ، وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيم» 50.

وكان عليه السلام شديد الحب لكتاب ربه، عظيم الاهتمام به والتأثر بآياته،

حتى أن أَبَانِ بْنِ مَيْمُونٍ الْقَدَّاحِ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام: اقْرَأْ. قُلْتُ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَقْرَأُ؟. قَالَ: مِنَ السُّورَةِ التَّاسِعَةِ، قَالَ: فَجَعَلْتُ أَلْتَمِسُهَا، فَقَالَ: اقْرَأْ مِنْ سُورَةِ يُونُسَ، فَقَالَ: قَرَأْتُ ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ ... 51، قَالَ: حَسْبُكَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه واله: إِنِّي لَأَعْجَبُ كَيْفَ لَا أَشِيبُ إِذَا قَرَأْت الْقُرْآنَ»52.

وكان يستلهم من كتاب ربه معارف الدين، حتى أنه يدعو الرواة أن يسألوه عن مصدر أقواله من القرآن، هكذا يروي أبو الجارود قال: قال أبو جعفر عليه السلام:

«إِذَا حَدَّثْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَاسْأَلُونِي عَنْ كِتَابِ اللهِ. ثُمَّ قَالَ فِي حَدِيثِه: إِنَّ اللهَ نَهَى عَنِ الْقِيلِ وَالْقَالِ وَفَسَادِ المَالِ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ. فَقَالُوا: يَا بْنَ رَسُولِ اللهِ وَأَيْنَ هَذَا مِنْ كِتَابِ اللهِ؟ فَقَالَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ فِي كِتَابِه:

﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ ... 53، وقال:﴿ وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا ... 54، وقال:﴿ ... لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ... 55»52.

وإذا سُئِلَ عن حاله استغل السؤال لتذكير نفسه والسائل بالله،

فقد رُوي أنه قِيلَ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ عليه السلام: كَيْفَ أَصْبَحْت؟ قَالَ: «أَصْبَحْنَا غَرْقَى فِي النِّعْمَةِ، مَوْفُورِينَ بِالذُّنُوبِ، يَتَحَبَّبُ إِلَيْنَا إِلَهُنَا بِالنِّعَمِ وَنَتَمَقَّتُ إِلَيْهِ بِالمَعَاصِي، وَنَحْنُ نَفْتَقِرُ إِلَيْهِ وَهُوَغَنِيٌّ عَنَّا»56.

وكان عليه السلام شديد التسليم لأمر الله؛ فقد روى بعض أصحابه أنه قال:

كَانَ قَوْمٌ أَتَوْا أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام: فَوَافَقُوا صَبِيًّا لَهُ مَرِيضاً فَرَأَوْا مِنْهُ اهْتِمَاماً وَغَمًّا وَجَعَلَ لَا يَقِرُّ، (قَالَ) فَقَالُوا: وَاللهِ لَئِنْ أَصَابَهُ شَيْءٌ إِنَّا لَنَتَخَوَّفُ أَنْ نَرَى مِنْهُ مَا نَكْرَهُ، قَالَ: فَمَا لَبِثُوا أَنْ سَمِعُوا الصِّيَاحَ عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ خَرَجَ عَلَيْهِمْ مُنْبَسِطَ الْوَجْهِ فِي غَيْرِ الْحَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا، فَقَالُوا لَهُ: جَعَلَنَا اللهُ فِدَاكَ! لَقَدْ كُنَّا نَخَافُ مِمَّا نَرَى مِنْكَ أَنْ لَوْ وَقَعَ أَنْ نَرَى مِنْكَ مَا يَغُمُّنَا، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّا لَنُحِبُّ أَنْ نُعَافَى فِيمَنْ نُحِبُّ، فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللهِ سَلَّمْنَا فِيمَا يُحِبُّ»50.

وكان عليه السلام لا يلويه عن العمل الصالح شيء. وفي ذلك رواية طريفة ينقلها بعض أصحابه حيث يقول:

«حَضَرَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام جِنَازَةَ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَأَنَا مَعَهُ، وَكَانَ فِيهَا عَطَاءٌ فَصَرَخَتْ صَارِخَةٌ، فَقَالَ: عَطَاءٌ لَتَسْكُتِنَّ أَوْ لَنَرْجِعَنَّ، قَالَ: فَلَمْ تَسْكُتْ؟ فَرَجَعَ عَطَاءٌ. قَالَ: فَقُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام: إِنَّ عَطَاءً قَدْ رَجَعَ، قَالَ: وَلِمَ؟ قُلْتُ: صَرَخَتْ هَذِهِ الصَّارِخَةُ فَقَالَ لَهَا: لَتَسْكُتِنَّ أَوْ لَنَرْجِعَنَّ، فَلَمْ تَسْكُتْ، فَرَجَعَ، فَقَالَ: امْضِ بِنَا، فَلَوْ أَنَّا إِذَا رَأَيْنَا شَيْئاً مِنَ الْبَاطِلِ مَعَ الْحَقِّ تَرَكْنَا لَهُ الْحَقَّ لَمْ نَقْضِ حَقَّ مُسْلِمٍ. قَالَ: فَلَمَّا صَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ، قَالَ وَلِيُّهَا لِأَبِي جَعْفَرٍ: ارْجِعْ مَأْجُوراً رَحِمَكَ اللهُ؛ فَإِنَّكَ لَا تَقْوَى عَلَى المَشْيِ. فَأَبَى أَنْ يَرْجِعَ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: قَدْ أَذِنَ لَكَ فِي الرُّجُوعِ وَلِي حَاجَةٌ أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْهَا؟ فَقَالَ: امْضِ فَلَيْسَ بِإِذْنِهِ جِئْنَا وَلَا بِإِذْنِهِ نَرْجِعُ، إِنَّمَا هُوَفَضْلٌ وَأَجْرٌ طَلَبْنَاهُ، فَبِقَدْرِ مَا يَتْبَعُ الْجَنَازَةَ الرَّجُلُ يُؤْجَرُ عَلَى ذَلِك»50.

أما معاشرته لإخوانه فقد كانت غاية في الأدب، فمثلًا يحكي أبو عبيدة عن آداب عشرته في السفر فيقول:

«كُنْتُ زَمِيلَ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام، وَكُنْتُ أَبْدَأُ بِالرُّكُوبِ ثُمَّ يَرْكَبُ هُوَ، فَإِذَا اسْتَوَيْنَا سَلَّمَ وَسَاءَلَ مُسَاءَلَةَ رَجُلٍ لَا عَهْدَ لَهُ بِصَاحِبِهِ وَصَافَحَ. قَالَ: وَكَانَ إِذَا نَزَلَ نَزَلَ قَبْلي فَإِذَا اسْتَوَيْتُ أَنَا وَهُوَ عَلَى الْأَرْضِ سَلَّمَ وَسَاءَلَ مُسَاءَلَةَ مَنْ لَا عَهْدَ لَهُ بِصَاحِبِهِ، فَقُلْتُ: يَا بْنَ رَسُولِ اللهِ! إِنَّكَ لَتَفْعَلُ شَيْئاً مَا يَفْعَلُهُ مَنْ قِبَلَنَا وَإِنْ فَعَلَ مَرَّةً لَكَثِيرٌ، فَقَالَ: أَمَا عَلِمْتَ مَا فِي المُصَافَحَةِ، إِنَّ المُؤْمِنَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيُصَافِحُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَمَا تَزَالُ الذُّنُوبُ تَتَحَاتُّ عَنْهُمَا كَمَا يَتَحَاتُّ الْوَرَقُ عَنِ الشَّجَرِ وَاللهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِمَا حَتَّى يَفْتَرِقَان»57.

وكان في تعامله مع الناس برًّا عفيفاً، وكان يعفو عن السيئة أنَّى استطاع إلى ذلك سبيلًا، وكان لذلك أطيب الأثر في نفوس الناس، فقد

قَالَ لَهُ نَصْرَانِيٌّ يوماً: أَنْتَ بَقَرٌ، قَالَ: لَا، أَنَا بَاقِرٌ. قَالَ: أَنْتَ ابْنُ الطَّبَّاخَةِ (يريد تعييره بها)، قَالَ: ذَاكَ حِرْفَتُهَا. قَالَ: أَنْتَ ابْنُ السَّوْدَاءِ الزِّنْجِيَّةِ الْبَذِيَّةِ. قَالَ: إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ غَفَرَ اللهُ لَهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ غَفَرَ اللهُ لَكَ.

فانبهر النصراني بأخلاقه، ودعاه ذلك إلى الإسلام على يديه» 31.

وقد كان تعامله مع المستضعفين يتميَّز بالشفقة والرِّفق،

وقد رُوي عن نجله الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: «إِذَا اسْتَعْمَلْتُمْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فِي شَيْءٍ فَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ فَاعْمَلُوا مَعَهُمْ فِيهِ. قَالَ: وَإِنْ كَانَ أَبِي لَيَأْمُرُهُمْ فَيَقُولُ: كَمَا أَنْتُمْ، فَيَأْتِي فَيَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ ثَقِيلًا قَالَ: بِسْمِ اللهِ، ثُمَّ عَمِلَ مَعَهُمْ، وَإِنْ كَانَ خَفِيفاً تَنَحَّى عَنْهُمْ» 52.

وربما كان عمله في إصلاح حقله ومزرعته لهذه الجهة، حيث كان الأئمة عليه السلام يرون الكدح والكد أمراً محبوباً يقربهم إلى الله.

في ذلك يروي أبو عبد الله الصادق:

«أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ المُنْكَدِرِ كَانَ يَقُولُ: مَا كُنْتُ أَرَى أَنَّ مِثْلَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ يَدَعُ خَلَفاً لِفَضْلِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ حَتَّى رَأَيْتُ ابْنَهُ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِظَهُ فَوَعَظَنِي. فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: بِأَيِّ شَيْءٍ وَعَظَكَ؟ قَالَ: خَرَجْتُ إِلَى بَعْضِ نَوَاحِي المَدِينَةِ فِي سَاعَةٍ حَارَّةٍ فَلَقِيتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ وَكَانَ رَجُلًا بَدِيناً وَهُوَ مُتَّكٍ عَلَى غُلَامَيْنِ لَهُ أَسْوَدَيْنِ أَوْ مَوْلَيَيْنِ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: شَيْخٌ مِنْ شُيُوخِ قُرَيْشٍ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا أَشْهَدُ لَأَعِظَنَّهُ، فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ بِبُهْرٍ وَقَدْ تَصَبَّبَ عَرَقاً، فَقُلْتُ: أَصْلَحَكَ اللهُ شَيْخٌ مِنْ أَشْيَاخِ قُرَيْشٍ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا لَوْ جَاءَكَ المَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ؟ قَالَ: فَخَلَّى عَنِ الْغُلَامَيْنِ مِنْ يَدِهِ ثُمَّ تَسَانَدَ وَقَالَ: لَوْ جَاءَنِي وَاللهِ المَوْتُ وَأَنَا فِي هَذِهِ الْحَالِ جَاءَنِي وَأَنَا فِي طَاعَةٍ مِنْ طَاعَاتِ اللهِ تَعَالَى أَكُفُّ بِهَا نَفْسِي عَنْكَ وَعَنِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا كُنْتُ أَخَافُ المَوْتَ لَوْ جَاءَنِي وَأَنَا عَلَى مَعْصِيَةٍ مِنْ مَعَاصِي اللهِ. فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللهُ أَرَدْتُ أَنْ أَعِظَكَ فَوَعَظْتَنِي» 58.

وكان يمكن الإمام أن يستخدم عبيده في أمر إصلاح أرضه، إلَّا أنه أحب أن يراه الله كادًّا في سبيل إعاشة عياله.

ونختم حديثنا عن عِشرة الإمام بحديث يرويه الإمام الصادق عليه السلام يقول:

«أَعْتَقَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام مِنْ غِلْمَانِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ شِرَارَهُمْ وَأَمْسَكَ خِيَارَهُمْ، فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ! تُعْتِقُ هَؤُلَاءِ وَتُمْسِكُ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ: إِنَّهُمْ قَدْ أَصَابُوا مِنِّي ضَرْباً فَيَكُونُ هَذَا بِهَذَا» 59.

هكذا ضرب الإمام أروع الأمثلة في الخصال الحميدة والآداب الرفيعة، ولا ريب في أن الرواة لم ينقلوا لنا إلَّا نزراً يسيراً من جوانب حياته التي تفيض بالحكمة والرشاد. فسلام الله عليه أبداً وصلاته عليه دائماً سرمداً 60.